فجَّر فرانسيس غيلاس، الصحفي السابق والباحث الحالي في مركز الدراسات الدولية في برشلونة، مُفاجأة كُبرى بإعلانه أن النّخبة المغاربية العاملة في الخارج تودِع 200 مليار دولارا في البنوك الأجنبية. واقترح غيلاس توظيف 5% فقط من تلك الودائع الخاصة لبناء وِحدة المغرب العربي في أفُق 2030. فهذه الأموال المتنقّلة بين أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية والخليج، يُمكن استخدامها، بحسب غيلاس، في تكريس التكامل الأفُقي بيْن ثلاثة بلدان هي: المغرب والجزائروتونس. وكان غيلاس، المنحدر من أصول جزائرية، يعرض في لقاء استضافته أخيرا المدرسة العليا للأعمال في العاصمة الجزائر، نتائِج بحْث جديد، شارك باحثون عرَب وأوروبيون في إعداده. وبغَضِّ الطّرف عن حقيقة الفُرص الواقعية المُتاحة لتحريك قِطار التّكامل المغاربي، فإن البحث كشَف عن ثِقل الوزن الاقتصادي المُتزايد للنُّخب المغاربية المُنتشرة في العالم، وهي إما نُخب ثقافية وعِلمية أو رجال أعمال وأصحاب مشاريع ناجحة، وهذا يعني نهاية الصورة السّابقة التي ارتسَمت في الأذهان طيلة عقود عن المُهاجرين المغاربيين، باعتبارهم بنّائين أو عمّالا في المصانع الألمانية والفرنسية أو المزارع الإيطالية. تغيّرت ملامح الهجرة بالكامل وانتهى عصر المُهاجر الأمِّي والفقير، لتُوضع في مكانه صورة المهاجِر المتفوِّق تعليميا والميْسور ماديا والمؤهَّل لتولِّي مناصب قِيادية في الاقتصاد كما في السياسة. ويكفي استعراض الحضور المغاربي في الاستحقاقات الانتخابية التي شهدتها بُلدان غربية مهمّة طيلة العقديْن الأخيريْن، وخاصة فرنسا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا، لكي يتجلّى العدد المتزايِد من المنتخَبين المُنحدرين من البلدان المغاربية من انتخابات إلى أخرى. وشمِلت الظاهرة كنداوالولاياتالمتحدة أيضا، على رغْم وصول المهاجرين المغاربيين إليها في مرحلة متأخِّرة زمنيا قياسا على أوروبا. ولا أدلّ على ذلك من الصّعود السريع لنجم العالم الجزائري إلياس زرهوني، الذي بات أعلى مسؤول أمريكي عن قطاع الصحّة. واعتبر عباس بن دالي، الذي أسّس مكتب دراسات للتّرويج التجاري في فرنسا "سوليس" في تصريح لمجلة "جون أفريك"، أن النُّخب المغاربية تلعَب دوْرا مُتناميا في تحريك عجَلة الاقتصاد الفرنسي وتنشيط المُبادلات التجارية بين أوروبا والمغرب العربي. وقال بن دالي لسويس أنفو إن المكتب الذي يُدِيره أعَدّ دراسة في العام الماضي عن المُهاجرين المُنحدرين من إفريقيا وتركيا ومقاطعات ما وراء البحِار الفرنسية. وأظهرت الدراسة أن عدد المغاربيين في فرنسا بلغ ثلاثة ملايين و264 ألفا، أي 58.9% من هؤلاء الأجانب. وأشار إلى ظاهِرة لافِتة للنّظر، وهي أن نسبة الشبّان الذين تقِلّ أعمارهم عن 40 سنة من بين هؤلاء المهاجرين المغاربيين، تصِل إلى أكثر من 70%. وأكّد أن هذه السِّمة هي مِيزة تتفوّق بها هذه المجموعة على مجموعات المُهاجرين الأخرى المُقيمة في فرنسا. أكثر من ذلك، بيّنت دراسة مَيدانية قام بها فريق من مكتب "سوليس"، قُبيْل المباراة الحاسِمة الشهيرة بين المُنتخبيْن الجزائري والمصري لكرة القدم في إطار تصفِيات كأس العالم، أن الجاليتيْن المغربية والتونسية في فرنسا، كانتا مُؤازرتين للجزائريين بصورة جسّدت وِحدةً مغاربيةً متِينة. لكن الأهَم، أن تلك الجاليات التي تبدو متشبِّثة بهُويتها، قرّرت مُغادرة مَواطِنها الأصلية، ربما على مضَض، بحثا عن أوضاع تشعُر في ظلِّها بأنها بعيدة عن الضّغوط. وتتكوّن الجالية المغاربية في أوروبا وكنداوالولاياتالمتحدة من عقول مُهاجرة ترَعْرعت في مدارِس الوطن وتعلّمت في جامعاته، ثم تركتْه بحثاً عن نوْع من "اللّجوء الأكاديمي"، وأحيانا اللّجوء السياسي. فالجزائري إلياس زرهوني، الذي كان يُخطِّط للعودة إلى بلده بعد إنهاء دراساته العُليا في الولاياتالمتحدة، اختار في نهاية المطاف البقاء في العالم الجديد، بعدما صُدِم بحقيقة أوضاع الباحثين في وطنه الأصلي. ونجح زرهوني في تأسيس ما يُسمّى بالهيْئة الجزائريةالأمريكية في يناير المنصرم، بمشاركة أكثر من 150 جزائريا من أعلى المُستويات، ما اعتُبِر سابِقة في العلاقات الأمريكية العربية، لأنها تهتمّ بمجالٍ جديد، هو تطوير الكفاءات الأكاديمية بين البلدين. كما عبَّر عن افتخاره بجزائريَته عندما تحدّث عن نشاطٍ دائمٍ يقوم به في إطار جمعية الباحثين الجزائريين المُقيمين في الولاياتالمتحدة، والذي يفُوق عددهم 1200 باحث من ضِمن 13 ألف جزائري مسجَّلين في السفارة الجزائرية في أمريكا. وقال زرهوني، الذي درس في ثانوية الأمير عبد القادر في الجزائر العاصمة وحصل منها على الثانوية العامة، ل swissinfo.ch: "لم يكُن في نيَّتي الاستقرار هناك، بل خطّطت لإنهاء دراستي ثم العوْدة إلى الجزائر". وسألناه: لماذا لم تعُد للاستقرار في بلدك؟ فأجاب "درَست تخصّص طبِّ الأشعّة وتفوّقت وانتقَلت إلى مركزٍ للبحْث في جامعة "جون هوبكنز"، التي تُعدُّ رائدةَ الجامعات عالمِيا في مجال الطبّ". واستطرد قائلا: "كان ذلك عام 1975، ونجحت لأنهم في أمريكا يمنَحون التّرقيات والمناصب بحسب الكفاءة، وليس بالنظر إلى أصولك أو دِينك. وركّزت أبحاثي على السّرطان، مع اعتمادي على جهاز السكانير، الذي كان حديثا نِسبيا آنذاك، وهكذا أصبحت طبيبا في جامعة "هوبكنز" مختصّا في جهاز السكانير. وفي عام 1978، كُنت ما زِلت أعمَل في مركز الأبحاث في جامعة "جون هوبكينز"، فحضرت إلى الجزائر وقِيل لي حينها إن الشهادة التي حصلت عليها في الولاياتالمتحدة لا تُساوي شيئا وأنها غيْر مُعتمدة في الجزائر، لأن دراستك لا تتوافَق مع المِنهاج المدرسي في الجزائر، بل عليك الخُضوع للاختبارات الجزائرية، حتى يكون لك الحقّ للعمل هنا، فقُلت لهم إنني موافِق على اجتياز الاختبارات، لأنني لم أكُن أطلب أي معاملة تفضيلية أو "مْزِيَّة". وتابع رواية قصته قائلا: "في تلك الفترة، أصيب الرئيس الراحل هواري بومدين رحمه الله بمرضه وكان بحاجة إلى إجراء كشف بالسكانير، وهو الجهاز الذي لم يكُن متوافرا في الجزائر. وأجرت السلطات اتِّصالات بالولاياتالمتحدة وألمانيا من أجل استقدام جهاز سكانير لإجراء الفحوص للرئيس، لكن الردّ كان سلبيا. وصادف أن وزير الصحة آنذاك كان يعرف طبيبا اختِصاصيا في الأشعّة، فسأله عن الطبيب القادِم من أمريكا، أي عنِّي، وهل بإمكاني إحضار جهاز سكانير، وفِعلا تمّ الاتصال بي وأجبْت بأنهم إن أرادوا، فبإمكاني إحضاره خلال 24 ساعة، لكنهم لم يأخذوني على محمَل الجدّ، رغْم أنهم طلبوا مني المحاولة. وأجريْت مكالمة هاتفية مع زملائي بمركز الأبحاث في جامعة "هوبكينز"، وكنت حينها رئيسا لوحدة السكانير، وطلبت منهم إرسال جهاز سكانير لفحْص الرئيس، فاستجابوا لطلبي وتمّ إرسال الجهاز عن طريق الطائرة. وصل الجهاز وقُمت بنفسي بإجراء الفحوص للرئيس بومدين. وبعدها أتممْت دراستي وأبحاثي في جامعة "جون هوبكينز"، وحان موعِد عودتي إلى الجزائر، لكن لم تكُن الظروف مناسبة، إذ لم تسمح لي بالاستفادة الكاملة ممّا درسته ومواصلة أبحاثي". ولاقى زرهوني صُعوبات من نوْع آخر في أمريكا، لأنه كان حديث الحصول على الجنسية الأمريكية، إذ قام مستشارو الرئيس السابق جورج بوش بترشيح ثلاثة أطبّاء أمريكيين وكان هو الرابع، ولمّا اطَّلع بوش على القائمة، سأل عنه وكيف درس، فقيل له أن زرهوني درَس في الجزائر ثم واصل في أمريكا، فاختاره بوش وقال لمستشاريه "هذا الرجل بنَى نفسه بنفسِه واستطاع أن يحقِّق كل هذا وهو في أمريكا، وبالتالي، فهو سيكون مديرا للمعهد". لكن الغريب، أن هذا العالِم المتميِّز لاقى تكريما في فرنساوالولاياتالمتحدة، ولم يُكَرَّم في بلده. ولما سألته عن السّبب، أجاب بتواضُع العُلماء "لكن هذه الأمور لا تهمّني". وعدتُ أسأله بوصفه عالما: ما الذي ينقُص الجزائر حتى تصبِح بلدا متقدِّما؟ فرد "لابد من التخلّص من البيروقراطية وتحسين مكانة الباحِث العِلمي وتوفير كلّ السُّبل لإتمام بحوثه وتشجيعه. فالعالَم تقدّم ولابدّ من تقدّم الإمكانات، ولابدّ أيضا من وضع مخطّطات لتطوير ذلك". وسُئل زرهوني خلال زيارته الأخيرة لبلده بوصفه موفدا للرئيس أوباما: "إذا طُلِبَ منك أن تُعِدّ دراسة لبلدك حتى يتقدّم الطبّ والعِلم فيه، هل توافق؟"، فأجاب: "بدون تردّد، وبعينيْن مغمضتيْن، إنه بلدي". لكن عندما سُئل: "هل عندك استِعداد للعودة للجزائر والمُكوث بها؟"، ردّ بلا مُجاملة "هذه الفكرة دائما في رأسي. صحيح أن كل الإمكانات متوفِّرة في أمريكا لتطوير العِلم، رغم البيروقراطية الموجودة عندنا، دَعْني أوجِّه لهم نداءً لفتْح الأبواب أمام البحث العِلمي، بعيدا عن الحسابات، افتحوا العلاقات وِفقا لمخطّطٍ وطني". وانطلاقا من هذه الوشيجة القوية، التي ما زالت تشدّه إلى أصوله، بادر في مطلع العام الجاري بتأسيس جمعية أطلَق عليها اسم "الهيئة الجزائريةالأمريكية" بمشاركة أكثر من 150 جزائري من أعلى المُستويات. واعتُبِرت الهيئة سابقة في العلاقات الأمريكية العربية تهتَم بتطوير الكفاءات والقُدرات بين البلديْن. وأفاد زرهوني أن جمعية الباحثين الجزائريين المُقيمين في الولاياتالمتحدة تضُم 1200 باحث، وأن ثُلث الجزائريين المسجَّلين في السفارة الجزائرية في أمريكا وعددهم 13 ألفا، هُم من حمَلَة الشهادات الجامعية. وأضاف، أن ألفَيْ جزائري يُعِدّون رسائل دكتوراه، فيما يُدرِّس ألفا آخرين في الجامعات. وإلى جانب كنداوالولاياتالمتحدة، هاجر آلاف العُلماء والأطباء والمهندسين والفنانين الجزائريين إلى أوروبا في تسعينات القرن الماضي. ومن المغرب وتونس، يتحوّل أيضا آلاف الباحثين الشباب وطلاّب الهندسة والعلوم، الذين تفتَح لهم الجامعات الأوروبية والأمريكية أذرُعها، ليُتابعوا دراساتهم العليا في جامعاتها ومراكز أبحاثها، غير أن قلّةً منهم تعود إلى الوطن. وفي حين تمتنِع البُلدان المُستقبلة عن منْح تأشيرات الدخول للعمّال وتتحرّى كثيرا مع السياح لقطْع الطريق أمام الهجرة غير الشرعية، نلاحِظ أنها تمنح أفراد النّخبة حوافِز للهجرة، لكونهم يُعتبَرون كوادر جاهِزة للعمل والإنتاج، من دون أن تكون أنفَقت على تكوينهم أو تعليمهم فِلسا واحدا. وقد يعود بعضهم إلى بلده أو منطقته، لكن بصفته مندوبا لشركة متعدِّدة الجنسيات أو مؤسسة غربية تسعى للاستفادة من معرفته بخصائِص المنطقة العربية. فالفرنسي توفيق السوداني، وهو تونسي الأصل، يعمل مستشارا في التجارة بين أوروبا والمنطقة المغاربية لدى مجموعة "دكسيف" الدولية ، وكذلك فعل مواطِنه علي بن حمودة، الذي يُدير مؤسسة خاصة في مجال الطيران في فرنسا واتّجه بن حمودة لإنشاء شركة في تونس التي وُلِد فيها أبواه، تابعة للشركة الفرنسية الأم. وتنسحب الظاهرة نفسها على العلماء والخبراء الجزائريين في أوروبا. ففي فرنسا شكّل عدد من وجُوه النُّخبة المُنحدِرة من أصول جزائرية "حلَقة المقاولين والصناعيين الجزائريين في فرنسا " وقال رئيس اللوبي شريف حاجي في اتصال هاتفي مع سويس أنفو : "إن الحلَقة التي تأسّست في عام 2001 وتمّت هيْكلتها في عام 2005، استطاعت في عدد قليل من السّنوات أن تنتشِر في التّراب الفرنسي وكذلك في الجزائر، وتُنشِئ جسورا لنقْل التكنولوجيا. واستدلّ على هذا الدّور، بمساهمتها في إقامة "مدينة الصيانة الصناعية والتكوين المهني" في الجزائر، بالإضافة لإيجاد ذراع تمويلية تُساعد رجال الأعمال الشباب على إقامة مشاريعهم. والظاهر أن البلدان المغاربية يئِست من استعادة عقولها المهاجرة وباتت تبحث عن وشائِج لجعلهم مُرتبطين بمَواطنهم الأصلية. وكان هذا الخِيار هو الفِكرة المِحورية التي انتهت إليها النّدوة الدولية الثانية عن الهجرة والتنمية، التي أقامتها أخيرا منظمة العمل الدولية بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية التونسية في مدينة حمامات، بمشاركة خبراء أوروبيين وعرب، والتي حازت هجرة الأدمِغة عبْر البحر المتوسط على قِسم مُهمّ من أعمالها. وتتمثّل الفكرة الرئيسية في محاولة العمل في المستقبل على الاستفادة من العقول المُغتربة في مبادرات ومشاريع محدّدة، من دون مطالبة تلك العقول بالعوْدة. وقُدِّمت إلى النّدوة ثلاث دراسات خصوصية عن الجزائروتونس والمغرب، بالإضافة لدراسة تأليفية. ونبّه المنسِّق العام لمشروع "المهاجِر المغاربي" صائب موسات من أن المهاجِر المغاربي، لم يعد ذلك الشخص الذي يسعى في مطلع كل شهر لإرسال مبلغ من المال إلى أسْرته، مؤكِّدا أن حركة الهجرة المغاربية أبصَرت تغييرا جوهَريا في نسَقها وبِنيتها. ورأى أن ذلك التغيير شمل أيضا موقِفها من بلدها الأصلي ومن بلد الاستقبال، مُقترحا التفكير في صِيغ تأخذ في الاعتبار أن العقول المهاجرة لا تخطّط للعودة، لأنها لا ترغب فيها أصلا. ومن الصِيغ التي رأى أنها واقعية الاستثمار في مشاريع في بلدانها الأمّ أو إقامة شراكة بين المؤسسات التي تُديرها ومؤسسات مُماثلة في البلدان التي تنحدِر منها. غير أن بيتر شاتزر ، مدير مكتب المنظمة الدولية للهِجرة في روما، الذي يغطّي 15 بلدا مُطلا على حوْض المتوسط، قال لسويس أنفو : "إن على بلدان الضفّة الشمالية للمتوسط أن تموِّل مشاريع تنموية في بلدان الضفة الجنوبية من أجْل الرّفع من مستوى الحياة والمرافق على نحو يشُدّ السكان إلى مناطِقهم ويُشجِّع المهاجرين على العوْدة للعيْش في بِيئة اجتماعية لائقة". لكن حُلم العوْدة هذا يبدو سرابا إذا ما تفحَّصنا مُستوى الاندماج المتقدّم الذي باتت عليه العقول المهاجِرة من الضفة الجنوبية، والذي لا يخُص العرب فقط، وإنما الأتراك أيضا. ولوحِظ في التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان خلال زيارته الأخيرة إلى فرنسا، أنه حذّر المهاجرين الأتراك من الذَّوبان في المُجتمعات التي استقبَلتهم، مع تأكيد قناعته بضرورة الاندماج، ما يعني أنه يؤيِّد الانسجام مع المجتمع الذي احتضنهم كي لا يعيشوا في "معازل"، لكنه يرفُض الاستيعاب الذي يمحُو هُويتهم، كما قال. ولا شيء يضمَن إبعاد شبَح الانصهار وصُولا إلى انقِطاع الصِّلات تدريجيا مع البلد الأصلي، في الجيل الثاني أو الثالث. فما الذي يؤكِّد أن الشابةالتونسية ريم مصدق، التي حلّت مؤخرا في جامعة برينستون العريقة في الولاياتالمتحدة، لتعمل في مخبر الجيوفيزياء ، بعدما نالت شهادات متميِّزة في فرنسا، منها الدكتوراه في الفيزياء "الأوقيانوسية" وعِلم المَناخ، سيكون في وُسعِها يوما العوْدة إلى بلدها والاستقرار فيه؟ وهل ستجِد التجهيزات المُتاحة والمناخ الأكاديمي المتوافر في الولاياتالمتحدة، إذا ما عادت إلى بلدها؟ قالت ريم، إنها سعيدة بوجودها في تلك الجامعة، وهي بين أساتذة مرموقين مُحاطَة بعدَدٍ من حامِلي جائزة نوبل، ولذا، فلن يكون بلدها سوى ذكرى جميلة مرتبِطة بجلستها على حافة الميناء "البونيقي" في قرطاج لتتأمّل البحر أو صور أقرانها في معهد ميتوال فيل، الذي درست فيه المرحلة الثانوية... والأرجُح، أن مسار ريم لن يختلِف عن المغربية سهام أربيب، مديرة الاتصال في مجموعة CFCI Paris الفرنسية ومؤسسة مكتب الاستشارات APIM consulting في بروكسل، التي دخلت غِمار الحياة العملية في فرنسا بعد التخرّج، إلا أنها لم تنسَ بلدها، فشاركت في تأسيس نادي Compétence synergie & initiatives المعروف اختصارا بأحرفه الأولى CSI، والذي باشر مساعدة الحاملين للجنسية المُزدَوجة المغربية - الفرنسية على تطوير كفاءاتهم وحثِّهم على الاستثمار في مشاريع في المغرب. وهناك جمعيتان على الأقل في فرنسا تشكِّلان جِسْرا للأكاديميين والخرِّيجين المغاربة عموما، كي لا تنقطِع صِلتهم ببلدهم، الأولى هي Maroc entrepreneurs وتتعهّد بإعداد خُطط استثمارية في المغرب للخرِّيجين الجُدد، أما الثانية، فهي جمعية خُبراء المعلوماتية المغاربة في فرنسا، المعروفة باسم " إيماف " ، وتضُم هذه الجمعية 640 خبيرا ومهندِسا مغربيا في الإعلامية، غادروا وطنهم في مطلَع الألفية، واستطاع جميعهم أن يُقيم مشروعه الخاص حاليا في المنطقة "الباريسية" أو بريطانيا أو في المغرب، انطلاقا من مقرٍّ مركزي في فرنسا. بهذا المعنى، تبدو عوْدة الأدْمغة المغتربة حُلما بعيد المنال، لكن القطيعة ليست قَدرا محتوما، إذ هناك معابِر وجسور كثيرة تسمح بالاستفادة جُزئيا من خِبرة الطيور المهاجرة.