( إعداد عبد العزيز حيون )- موضوع إقالة وزير المالية الروسي ألكسي كودرين شغل الرأي العام الروسي والدولي ولازال يرخي بظلاله على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لروسيا لأسباب اعتبرها البعض تتعلق بفرضية الخلاف السياسي حول المواقع او الاختلاف في التوجاهات الاقتصادية العامة . وإذا كان السبب المباشر للإقالة يرتبط بتصريح كودرين عن عدم رغبته في العمل مع الرئيس الحالي دميتري ميدفيدف حين انتقاله الى شغل مسؤولية رئاسة الحكومة, فإن العديد من الاطراف السياسية والإعلامية الروسية اعتبر الخلاف "مبدئيا" يرتبط باختلاف وجهات نظرهما في تدبير الشأن الاقتصادي والمالي الأساسي وفي تدبير الشأن العام . وفي هذا السياق, رأى رئيس مجلس النواب الروسي بوريس غريزلوف أن سبب إقالة كودرين يعكس حاجة روسيا إلى سياسة مالية "أكثر فعالية", في حين "لم تتمكن وزارة المالية من تهيئة الظروف لصرف الاعتمادات المرصودة في الميزانية في الوقت المناسب". وهناك من اعتبر من السياسيين الروس ان خطوة الاقالة كانت "منتظرة" خاصة وان حزب "ييدينايا روسيا" (روسيا الموحدة ) ,الذي يسير دواليب الحكم في البلاد كان على خلالف مع سياسة كودرين المالية والاقتصادية وحرصه على التقشف في بعض القضايا ذات البعد الاجتماعي. واعتبرت الاوساط السياسية الحاكمة ان "تعنت " كودرين في ضخ الوسائل المادية في تدبير القضايا الاجتماعية الملحة يضر بموقع الحزب في الوسط الاجتماعي الروسي, وهو ما لايرضي الحزب, خاصة وانه مقبل على انتخابات برلمانية ثم رئاسية تستدعي عرض الحصيلة امام الجمهور الناخب العريض وإقناعه باختياراته. وهناك من السياسيين الروس من ذهب الى أبعد من ذلك حين اعتبر أن إقالة كودرين هي " وسيلة " للحد من "تطلعاته" الى مواقع سياسية قادمة قد تكون رئاسة الحكومة, وان تطلعات كودرين تخرج عن الإطار الذي حدده الحزب الحاكم في تبادل المناصب بين بوتين وميدفيدف ل"تجانس مواقفهما وتكامل آرائهما". وقد عبرت الصحف الروسية والأجنبية صراحة عن ذلك حين أكدت أن ميدفيدف أقال كودرين في محاولة ل "استعادة هيبته" وسط أطر الدولة بعد أن قرر الحزب الحاكم خلال مؤتمره ترشيح بوتين وليس ميدفيديف للانتخابات الرئاسية القادمة. وفي هذا السياق كتبت وسائل الاعلام الروسية ان كودرين "حاول إحداث "شرخ " في النخبة الحاكمة حين وجه انتقادات إلى ميدفيديف وأبرز ولاءه لبوتين", كما حاول "تحجيم الاهتمام المتزايد للسلطة الحاكمة بالقضايا ذات البعد العسكري, خاصة وان كودرين علل سبب استقالته للخلاف القائم بينه وبين ميدفيدف حول النفقات العسكرية. وقد لمح فلاديمير بوتين لذلك أول أمس الثلاثاء حين قال في لقاء مع أعضاء الحكومة ان روسيا دخلت في مرحلة "مسؤولة وطويلة " ستشهد الحملة الانتخابية البرلمانية والرئاسية والنقاشات وانتخابات مختلف أجهزة السلطة, وسيتوقف الوضع في الاقتصاد والمجال الاجتماعي الى درجة كبيرة على " فاعلية عمل الحكومة في هذه الفترة, وهو ما يستلزم أداء الواجب الحكومي بجدارة والالتزام بالانضباط والمسؤولية. ولم تبق قضية كودرين في حدودها السياسية بل تجاوزت ذلك الى ما هو اقتصادي, خاصة بعد أن اعتبرت أوساط مالية, ومنها أوساط أجنببية أن إقالة وزير المالية ألكسي كودرين قد "تضر " بالاقتصاد الروسي, مشيرة إلى أن إقالة كودرين "ستفاقم المشاكل الاقتصادية", التي تواجه روسيا لأن المستثمرين الأجانب كانوا يراهنون على كودرين كوزير " يحافظ" على استقرار روسيا ماليا. واذا كان الاعلام الأجنبي والأمريكي بشكل خاص قد أعرب عن تخوفه من تراجع الاقتصاد الروسي عن مستواه الحالي بعد إقالة كودرين, الذي كان حريصا على ان تستثمر روسيا جزءا كبيرا من إيراداتها في السندات الأجنبية, فإن الاعلام الروسي أكد أنه لم تظهر حتى الآن أية مؤشرات على تأثر الاقتصاد الروسي بإقالة كودرين, بل على العكس صعد المؤشر العام لسوق روسيا للأوراق المالية خلال الاسبوع الجاري. الا ان ذلك لم يمنع من أن تعتبر بعض الصحف الروسية, من ضمنها صحيفة "موسكوفسكييه نوفوستي", ان ظرفية اقالة كودرين قد "تؤثر سلبا"على اقتصاد روسيا, التي أصبحت "بلا وزير للمالية في وقت يجتاح فيه المزيد من الاضطرابات أسواق المال "على الصعيد العالمي. وذكرت صحيفة "كومسومولسكايا برافدا" بأن ما قاله ألكسي كودرين قبل إقالته بكونه لا يرى نفسه عضوا في حكومة مرتقبة من الممكن تشكيلها عام 2012, "كلام مدروس", وذلك لأن الأشهر القليلة الماضية شهدت, رغم معارضته, إصدار قرارات بشأن السياسة المالية والنقدية تشكل "خطرا على تنفيذ قانون الموازنة". أما بخصوص مستقبل كودرين بعد أن خرج من ظل الرجلين القويين في روسيا, بوتين وميدفيدف , فهناك من يرى أن كودرين , الذي يحظى باحترام الدوائر المالية الدولية, قد تسند له مهام في صندوق النقد الدولي او البنك العالمي, فيما لم تستبعد أوساط بنكية روسية إمكانية أن يصبح كودرين محافظا جديدا لبنك روسيا المركزي. ورأت أوساط اقتصادية أخرى, وهي قليلة على كل حال, أن كودرين, الذي عرف خلال 12 سنة على رأس وزارة المالية الروسية بمبادرات استحداث صندوق الاستقرار و تغيرات في عملية صياغة الميزانية وإعداد النموذج الجديد للتخطيط المالي الطويل الامد واصلاحات ضريبية أدت الى تراجع الديون الخارجية بحيث تسنى رفع تصنيف روسيا الائتماني, قد يشغل منصب مستشار في الشؤون المالية والاقتصاد للرئيس في حال تولي بوتين المنصب بعد انتخابات مارس القادم. والخلاصة هو أن زمن كودرين في الجبهات المتقدمة للسياسة الاقتصادية الروسية قد ولى ولو لحين, وقد تفتح آفاق جديدة لأطر أخرى صاعدة تتجاوب وطموحات روسيا الاقتصادية ومسؤولي قيادة السياسة الروسية, وتسير على خطى من بيده زمام تدبير الشان العام الروسي دون انزلاق او خروج عن القاعدة.