عاد موضوع الامن الطاقي لاوروبا ليشكل اهم الاحداث المتداولة في روسيا خاصة واوروبا عامة، بعد ان قررت موسكو تقليص توريدات الغاز الى بيلوروسيا، بحجة عدم سدادها للديون، في الوقت الذي يشكل الجار الغربي لروسيا، احدى نقط العبور الرئيسية للغاز الروسي الى عدد من الدول الاوروبية. واذا كان الخلاف الروسي البيلوروسي يبدو من الوهلة الاولى على انه خلاف اقتصادي وتجاري عادي، فان قراءة خلفيات هذا القرار، تؤكد ان الخلاف ليس خلافا اقصاديا صرفا، بل سياسيا بالدرجة الاولى، بعد ان عرفت العلاقات بين مينسك وموسكو في الشهور الاخيرة تشنجا، مرده الى عدم تبني بيلوروسيا القانون الأساسي للاتحاد الجمركي الذي تم تكوينه بين روسيا وكازاخستان، واستقبال مينسك للرئيس القرغيزي السابق كارمان بك باقييف، المطلوب من العدالة والذي كان على خلاف مع موسكو قبل تنحيته، وكذا اختلاف وجهات النظر في التفسير القانوني لمعنى الاتحاد السياسي الذي يجمع بين روسيا وبيلوروسيا ومسالة التكامل. وبخصوص موضوع الامن الطاقي لاوروبا، على ضوء قرار روسيا التقليص التدريجي لامدادات الغاز الى بيلورسيا واحتمال تاثر السوق الاوروبية بهذا القرار، يرى العديد من الخبراء الروس، ان اوروبا قد تتاثر جزئيا اذا استمر الخلاف بين البلدين الجارين لمدة طويلة، الا ان هذا التاثير لن يكون كبيرا لسببين، يتعلق الاول بكون خط انابيب نقل الغاز من روسيا الى اوروبا عبر اوكرانيا، يشتغل في ظرف عادي بعد التقارب السياسي الهام بين موسكو وكييف، فيما يتعلق الثاني بكون ان الخلاف ياتي في وقت يقل فيه الطلب على الغاز بعد مرحلة الشتاء، كما ان الطلب عامة تقلص بنسب مهمة بسبب ظروف الازمة التي يجتازها عدد من الدول الاوروبية. واعتبر الخبراء الروس ان اختيار وقت تصفية الديون بين موسكو ومينسك، قد يكون مخطط له، لان الخلاف سيبقى شبه محلي ولن يؤثر على العلاقات التجارية بين روسيا ودول الاتحاد الاوروبي، الا انه سيكون مؤثرا لبيلوروسيا، باعتبار حاجتها الماسة لمواد الطاقة الضرورية لصناعتها المحلية، امام قلة الوسائل المادية وصعوبة تصدير موادها الفلاحية الى الخارج، خاصة في اتجاه روسيا، التي كانت تعد، حتى وقت قريب، وجهة اساسية لترويج منتوجاتها اللحومية والالبان ومشتقات الحليب. ورغم التحذيرات التي وجهتها بيلوروسيا لأوروبا من احتمال حدوث تقليص تقني في عبور الغاز، وفقا لما جاء في رسالة لوزارة الطاقة البيلوروسية تم توجيهها امس الاثنين إلى المفوضية الأوروبية، فان روسيا على العكس من ذلك طمأنت الشركاء الاوروبيين بان شركتها المختصة تنظر في توريد الغاز الروسي إلى المستهلك الأوروبي بشكل موسع، عبر أوكرانيا وبولندا. واذا كانت روسيا، حسب الخبراء الروس، مستعدة للمواجهة الاقتصادية والسياسية مع بيلوروسيا حتى تتجاوب هذه الاخيرة مع رغباتها ودعواتها، فان بيلوروسيا قد يصعب عليها الامر، لارتباط اقتصادها الوثيق بروسيا ومحدودية حجم التعاون الذي تربطه مينسك بدول العالم، سواء على المستوى الاوروبي او مع دول اخرى، كما ان الخلاف السياسي بين بيلوروسياوالولاياتالمتحدة لازال يرخي بظلاله على علاقات بيلوروسيا اقتصاديا وسياسيا مع دول العالم، تاثرا بقرار واشنطن الاخير بتمديد العقوبات الأمريكية التي تستهدف عددا من أركان السلطة في بيلوروسيا لعام آخر. وتعود العقوبات الأمريكية بحق بيلوروسيا إلى 16 يونيو من عام 2006، حين أمر الرئيس الأمريكي جورج بوش ب"وضع أموال الرئيس البيلوروسي الكسندر لوكاشينكو و9 مسؤولين بيلوروس آخرين تحت الحجز، بحجة أنهم ينتهجون السياسة التي تمثل تهديدا لأمن الولاياتالمتحدةالأمريكية"، قبل ان تقرر السلطات الامريكية الحالية تبني القرار لسنة اخرى. ويتبين من تصريحات المسؤولين البيلوروس، انهم يعرفون حجم الخسارات التي يمكن ان تطال مينسك في حال انسداد آفاق التعاون مع روسيا، الشريك الاساسي لها في كل المناحي، وهو ايضا ما دفع الرئيس البيلوروسي ألكسندر لوكاشينكو يوم 12 يونيو الجاري في موسكو، خلال زيارة التقى فيها بالرئيس الروسي دميتري ميدفيدف ورئيس الوزراء فلاديمير بوتين، ليؤكد عن أمله في أن "تبقى العلاقات وطيدة كما كانت دائما، ويتم تجاوز الخلافات عبر الحوار والمكاشفة، وايجاد الحلول لكل المشكلات الطارئة". ورغم ان مصادر مسؤولة روسية صرحت علانية أن موسكو "لا ترى بديلا للرئيس البيلوروسي الحالي الكسندر لوكاشينكو لرئاسة البلاد، وانها تؤيد لوكاشينكو وتحترم ارادة البلاد السياسية"، خاصة وأنه من المنتظر إجراء الانتخابات الرئاسية في بيلوروسيا في موعد أقصاه السادس من فبراير 2011، فان التاثير الروسي على مجرى الاحداث في بيلوروسيا يبقى كبيرا، باعتبار الروابط الكثيرة التي تجمع البلدين وامكانية تاثير ذلك على القاعدة الناخبة في البلاد. وعلى الصعيد الاقتصادي المحض، تصر شركة "بيلترانسغاز" البيلاروسية على مديونية "غازبروم" لها مقابل ترانزيت غازها عبر الاراضي البيلوروسية، وقال ناطق باسم الشركة البيلوروسية ان هذا الواقع تؤكده الوثائق القائمة، واعرب عن استغرابه لعدم معرفة قيادة "غازبروم" بذلك، وان تقليص توريدات الغاز الحالي غير شرعي وغير مدعوم باية وثائق. وفي المقابل، ترى موسكو انها لا تستبعد اللجوء للقضاء بشأن ديون بيلاروسيا للغاز الروسي، وبت مسألة الديون بين روسيا وبيلاروسيا في المحكمة، مشيرة إلى أنها تعتبر تصرفات شركة "غازبروم" إزاء بيلوروسيا مبررة، وذلك تعليقا على التصريحات الأخيرة للرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، الذي يرى أن بلاده لا تعترف بالديون المترتبة عليها لشركة "غازبروم" عن إمدادات الغاز الروسي. وبين الاخذ والرد، فتح الجانبان الروسي والبيلوروسي قنوات سياسية لتبديد الخلاف في شقيه السياسي والاقتصادي، وتقييم تطورات الوضع حول مشكلة الغاز مع بيلوروسيا، التي بلغت ديونها المستحقة لروسيا مقابل توريدات الغاز، 192 مليون دولار تقريبا، الا انه موازاة مع تلويح روسيا بامكانية تقليص إمدادات الغاز إلى بيلوروسيا بنسبة 85 بالمائة ما لم تسدد مينسك ديونها، لازالت بيلوروسيا تصر على انها ستدفع فاتورة الغاز الروسي بسعر 150 دولار لألف متر مكعب، عوض 2ر169 دولار التي تطلبها روسيا، والتي تقول انها تبيع الغاز إلى بيلوروسيا بسعر يقل بنسبة 10 بالمائة عن أسعار السوق الأوروبي. ورغم حدة السجال القائم بين البلدين، فان غالبية المراقبين الروس والبيلوروس يؤكدون بتفاؤل، على ان سحابة الخلاف ستعبر بسلام سماء العلاقات بين البلدين لتعود الى حالتها العادية، اذ ان الروابط التي تجمعهما، السياسية والامنية على الخصوص، تبقى فوق اي اعتبار، ولا يمكن للمشاكل الظرفية ان تؤثر عليها مهما علت حدتها. ويبقى الواقع والمصالح المشتركة الآنية والمستقبلية في مختلف تمظهراتها، هي الحكم في ما ستعرفه العلاقات الروسية والبيلوروسية من تقلبات، وما اذا كانت هذه العلاقات ستصمد امام تيار التغيير الذي تعرفه المنطقة وتقارب مصالح روسيا مع اطراف قد لا تكون في وئام مع بيلوروسيا، وهي ظروف قد تفرض على بيلوروسيا عامة الانخراط في الواقع الجديد، والانسجام مع المتغيرات الجيوسياسية والامنية التي يعرفها شرق اوروبا عامة.