من باب الإستهلال والتهيئة لهذا المقال أضع بين يدي القارئ الكريم هذه العبارة التي ألقى بها إليّ شيخ كبير طاعنٌ في السن ومناضل عتيد وقد عضته السياسة عضاً وطحنته طحناً، وسجن من أجل هذه الكلمة وعُذب بسببها وتغرّب من أجلها وذاق الأمرّين من جرائرها وهو يسخر من ماكنة تفريخ 'النشطاء والمحللين السياسيين'! الذين أدمنوا الإستهتار بالشعب الليبي والإستخفاف به قائلا: 'يحدث فقط في ليبيا .. إذا أردت أن تصبح محللا سياسيا في ثلاثة أيام.. ما عليك إلا أن تشاهد نشرة أخبار واحدة .. وتطالع صحيفتين .. وتوطد علاقتك بإعلامي مغامر في إحدى الفضائيات.. وأضمن لك أن تكون ناشطا ومحللا سياسيا لا يشق لك غبار' هذه العبارة التي أتصور أنها تعبر وتختزل بشكل كبير ظاهرة مزعجة بحق باتت تؤرق كثير من المثقفين والمراقبين والسياسيين الليبيين الحقيقيين، بل صارت هذه الظاهرة مثار سخرية الشارع الليبي بأسره إلى الحد الذي أصبح رجل الشارع العادي يتندر على كثير ممن يخرجون عليه عبر شاشات الفضائيات حاملين صفة 'محلل سياسي' و'ناشط سياسي' و'خبير استراتيجي' وغيرها من التسميات والتوصيفات التي تغدق بها سائل الإعلام العربية بل والليبية أيضا على 'نشطائنا' ومحللينا'!! السياسيين، بدون قصد أحيانا، وبقصد أحايين أخرى.. 'ما عندناش منهم'! الغريب في الأمر، بل المرير في الأمر أنني حاولت جاهدا وأنا أستقصي بعض الأصدقاء في دول الجوار من دول الربيع العربي من تونس ومصر وسوريا وحتى اليمن عندما كنت أسألهم عن هذه الظاهرة- ظاهرة النشطاء والمحللين السياسين الجدد!!- وهل انتشرت لديهم هذه الظاهرة سواء في بدايات ثورات الربيع العربي أو بعد شبه الإستقرار السياسي الذي تشهده هذه الدول، إلا أن الكل يؤكد أنهم لم يلاحظوا هذه الظاهرة ولم تحصل لديهم، فتساءلت في نفسي هل كانت بعض القنوات العربية التي كانت تقف وتساند ثورات الربيع العربي بشكل عام والثورة الليبية بشكل خاص تستهزئ بالمثقف والسياسي الليبي الحقيقي إلى الحد الذي تغدق فيه على هؤلاء بهذه التوصيفات والتسميات التي يستقبلها هؤلاء 'النشطاء' و'المحللين' السياسيين الجدد بالغبطة والبهجة والجذلان .. لا شك أن التحول الكبير الذي شهدته ثورات الربيع العربي شكّل انعطافات حقيقية باتت ملامحها واضحة على جميع الصُعد، السياسية منها والإقتصادية والأمنية والإعلامية والإجتماعية، منها ضياع التخصص الذي نشهده سواء في مؤسسات ومفاصل الدولة، أو في الجانب الأكاديمي والإعلامي، أو المشهد السياسي الذي لا يجد أحدنا أدنى صعوبة بتشخيص مكامن الخلل والتخبط الواضح في مساره، وإحدى هذه الشاكل التي يغيب فيها التخصص هو الإعلام الذي يعتبر سلاحا ذا حدين فعدم تسليطه الأضواء على القضايا والأحداث المهمة، بشكل إيجابي أضعف من دوره كثيرا، كما ويعد إعلامنا مراهقا إذا ما قيس بالإعلام في الدول الأخرى المجاورة وغير المجاورة، ومن أبرز سلبياته التخبط في التعاطي الإعلامي مع الواقع فإن ما تبثه تلك الفضائيات، من برامج سياسية حوارية تتشابه كثيرا من حيث الأداء والمضمون بل وبالأطروحات أيضا، وتعمد هذه الفضائيات وتلك البرامج إلى إستضافة بعض الأشخاص دورهم القيام بتحليل ما يجري على الواقع من أحداث وأزمات سياسية وأمنية تعصف بالبلاد والعباد، وإذا ما تحدثنا بلغة الأرقام فإن عشرات ممن يطلق عليهم صفة 'المحلل السياسي' أو 'الناشط السياسي' أو 'الخبير الإستراتيجي' وهو صلب موضوع المقال هذا وجوهره، يظهرون يوميا على شاشات الفضائيات حسب نظرية 'العرض والطلب' الإقتصادية، فطالما يكون هناك أحداث ووقائع معينة فإنهم يشكلون حضورا لافتا وكبيرا، والبعض منهم يعتبر نجم الشاشة لظهوره على أكثر من فضائية في اليوم الواحد، وفي حالة غياب تلك الأحداث يغطون في نوم عميق، حتى توقظهم أصوات دوي انفجارات جديدة تجعلهم على أتم الاستعداد لتدوير كاسيت الحديث مرة أخرى وهكذا دواليك، نلاحظهم يرددون عبارات مراوغة ومفاهيم فارغة وكلمات غائمة ومصطلحات رجراجة وعبارات عاطفية لا يمكن لها أن تبني إلا دولة من الرمال والأوراق وخمار الأوهام، كما أن أغلب التحليل الذي نسمعه لا يخرج عن دائرة 'الانفعال العاطفي' أو 'الفعل ورد الفعل'، فليست هنالك ملامح تحليل منهجي وموضوعي لدى أكثرهم، عدا ما يخص العناوين التي تظهر تحت أسمائهم فحدث بلا حرج، فبين 'المحلل السياسي'! و'الناشط السياسي'! و'الخبير الإستراتيجي' و'مدير مركز دراسات'! و'خبير الشؤون الأمنية'! و'المفكر السياسي'! و'الخبير في فكر الجماعات الإسلامية' كلها صفات وعناوين بات من السهل الاتصاف بها في ليبيا اليوم! دواليب السياسة لعل دكاكين السياسة ودهاليزها قد جذبت لها الكثيرين ممن ليس لهم شأن التخصص في هذا المجال، وأذكر هنا ما شاهدته أن أحد الأشخاص ممن يحسبون على النقد الأدبي، يظهر على إحدى الفضائيات كمحلل سياسي، وعلى الأخرى ناقدا أدبيا، ولا أعرف غدا بأي مسمى سيخرج علينا؟!، بل الأغرب والأنكى والأكثر إيلاماً أنني شاهدت أحد الذين أعرفهم جيدا وهو ممن ليس لهم أي علاقة تذكر بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد، بل كان شغله الشاغل إصلاح إطارات السيارات وإعادة تأهيلها ورسكلتها من جديد يظهر على إحدى القنوات الليبية بصفة 'محلل سياسي'!!! ... بل لعل المضحك والمبكي والأغرب من ذلك كله عندما عَرضت إحدى الفضائيات الليبية شريطا لأحد لقاءات المراسلين مع المواطنين، وبعد أن عبر أحد المواطنين البسطاء! عن رأيه في الوضع الليبي بشكل عام طلب منه المراسل أن يعرف نفسه فقال: إنه المحلل السياسي، فلان الفلاني، وانتبهت لهذه الكلمة وقلت لعلها من باب سخرية الشعب على من يمتهنون هذه الحرفة وهم غير مؤهلين أصلا، والسؤال هنا موجه لهذه القنوات والفضائيات قبل أن يكون موجها لهؤلاء الأشخاص، أين هو التخصص؟، بل أين احترام عقل المشاهد؟ إذا كان بإمكان أي شخص أن يكون محللا سياسيا وخبيرا استراتيجيا. المربع الأول وكي لا أكون مجحفا لا أنفي أن لدينا محللين سياسيين ناجحين على قدر كبير من الكفاءة وأنا أكن لهؤلاء كل الاحترام والتقدير على الجهود التي يبذلونها، ثم إن مسألة التعبير عن الرأي مكفول للجميع، وحرية الإعلام والانفتاح وما حققته أعداد الفضائيات التي تزداد كل يوم وسعيها إلى استقطاب عدد من المحللين السياسيين، وحتى أنصاف المحللين ممن يمتلكون القدرة على الحديث، لكن لا مناص من إمتلاك المحلل السياسي الرؤية والوعي والثقافة العامة والإلمام بالموضوع من جوانبه المتعددة، ولا يكفي أن يردد البعض مفردات ومصطلحات مثل 'العودة إلى المربع الأول' و'سياسة العصا والجزرة' كي يكون محللا سياسيا، وكلامي هنا وبلا مواربة بهذا الخصوص موجه صوب الذين أضروا بليبيا الوطن والمواطن من حيث يعتقدون أنهم نفعوه .. إن ما يفعله هؤلاء 'النشطاء' والمحللون' السياسيون المزورون بقصد أو بدون قصد يذكرنا بفيلم هاني رمزي 'محامي خلع' الذي انتشرت من خلاله عبارة 'ما بيعرفش'، ومسرحية عادل إمام 'شاهد ما شافش حاجة'.. وإلى أن يكف هؤلاء 'النشطاء والمحللون' الجدد عن الإستخفاف بالمواطن الليبي وهمومه ومعاناته نقول لهم 'ما بتعرفوش' ..