مهم لنا جميعاً الوصول الى الحقيقة في موضوع تسميم الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، فوفاة أبو عمار مسموماً تعني سياسياً أشياء كثيرة لعل أبرزها وأهمها إزاحة نهج ومواقف لتعبيد طريق «التسوية» أمام نهج ومواقف أخرى، بغض النظر عما إذا كانت المسألة قد سارت على هذا النحو الذي هدفت إليه عملية الاغتيال. مع ذلك، فإن الوصول الى الحقيقة في شكل قاطع يظل على رغم أهميته الكبرى ليس الأهم، بل وليس خاتمة المطاف في هذا الملف الشائك على رغم وضوحه الشديد. الأهم في تقديري هو الإجابة عن سؤال يفرض نفسه هنا بقوة: ماذا ستفعل القيادة الفلسطينية؟ كيف ستتصرف فلسطينياً وعربياً، والأهم دولياً على نحو صائب يضع الحصان أمام العربة؟ في محاولة الإجابة عن ذلك، تأخذنا التفاصيل نحو عضوية فلسطين في الأممالمتحدة، وتبعاً لذلك نحو حسم مسألة الانضمام الى منظمات الأممالمتحدة المتخصصة ومنها محكمة العدل الدولية، حيث هناك بالذات يمكن خوض معركة تحقيق العدالة في اغتيال الزعيم التاريخي للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة. لم تكن مسألة الانضمام الى محكمة العدل الدولية قبل ذلك ترفاً، ولكنها باتت اليوم ضرورة، بل خطوة لا بد منها في سياق معركة التخلص من الاحتلال والوصول الى أهداف الشعب الفلسطيني العادلة والمشروعة، ناهيك عن حقيقة أن طي صفحة جريمة في هذا الحجم والخطورة تعني أول ما تعني أن القيادة الفلسطينية ستظلُ تفاوض تحت ارهاب سيف الاغتيال الذي سيغدو في حال كهذه إحدى وسائل القيادة الإسرائيلية في «ترويض» المفاوض الفلسطيني ومحاولة إخضاعه لشروط التسوية كما يراها بنيامين نتانياهو وطاقم حكومته الاستيطانية. هل ستوقف نتائج التحقيق الطبي المفاوضات العبثية الدائرة اليوم مع حكومة الاحتلال؟ سؤال يردده الفلسطينيون اليوم، ويجدون في ربط جريمة اغتيال أبو عمار بمصير المفاوضات مسألة منطقية تضاف الى موضوع الاستيطان وتأخذ الأهمية ذاتها، ذلك أن منطق المفاوضات أنها تفترض تاريخياً وفي العالم كله توقف الطرفين المتصارعين عن ممارسات كهذه في ظل مراحل التفاوض إن كان هدفهما حقاً تحقيق التسوية والوصول من خلالها الى السلام. هي معادلة مركبة بالتأكيد وهي كذلك بفعل تداخل مفردات قضية فلسطين وتفاصيلها والعوامل التي تؤثر في سيرورتها منذ بداياتها الأولى وحتى اليوم. ولهذا نعود للتأكيد أن الموقف من نتائج التحقيق الطبي في اغتيال أبو عمار لا يجوز أن ينطلق من اعتبار الاغتيال مسألة تثير ضجيجاً موقتاً لا يلبث أن ينتهي، فالأمر هنا يتعلق بجريمة سياسية كبرى لا يجوز القفز عنها أو التعاطي معها ومع ذيولها واستحقاقاتها بخفة، خصوصاً أن للمواطن الفلسطيني تجارب مع مواقف رسمية فلسطينية كثيرة سابقة. هنا بالذات من المهم أن يكون واضحاً لقيادة المنظمة والسلطة وحتى الفصائل والأحزاب منفردة ومجتمعة أن الهدف من الذهاب الى محكمة العدل الدولية لن يكون مجدياً من دون خوض معركة سياسية كبرى ساحتها العالم كله، لفضح من ارتكبوا جريمة الاغتيال أولاً، ولفضح الأهداف التي كانت وراء جريمة الاغتيال باعتبارها جريمة ضد السلام العالمي عموماً، وضد السلام في الشرق الأوسط على وجه الخصوص. هذه مسألة على درجة عالية من الخطورة والأهمية. فالسعي نحو تحقيق تسوية مع إسرائيل لا يجوز أن يعني مطلقاً الوصول الى «تسوية» في موضوع جريمة الاغتيال، ولا مكان هنا للحديث عن مرونة أو عدم رَغبة في توتير الأجواء التي لا نعتقد أنها بحاجة الى توتير في ظل ممارسة إسرائيلية شاذة للتفاوض مع مواصلة الاستيطان، بل مع تعمُّد تكثيف بناء المستوطنات وتسريع وتيرته. هي حال جديدة بكل معنى الكلمة، ونعتقد أن إدارتها على نحو صائب باتت سؤال المرحلة الراهنة والمقبلة، وإلا تحوّل تقرير المحققين إلى عبء يثقل كاهل القيادة الفلسطينية بدلاً من أن يكون وفي شكله الطبيعي عبئاً على كاهل من ارتكبوا جريمة الاغتيال. لا تنفع هنا «حوافز» الاحتلال، ولا تدخلات الوسيط الأميركي جون كيري التي تكررت وصارت سمة من سمات التفاوض وتمرير الوقت أمام المحتلين لإكمال تهويد ما تبقى من أراضي الضفة الغربية والقدس وبيوت المواطنين الفلسطينيين فيهما. "الحياة" اللندنية