إذا كان الدستور هو الوثيقة العليا للدولة وهو الذي يحدد طبيعة نظام الحكم والعلاقة بين السلطات ودور الفرد في المجتمع وواجباته تجاه الدولة والتزامات الأخيرة نحوه ورعايته وصيانة حقوقه وضمان حرياته فإن الدستور هو أيضا الضامن الرئيس للاستقرار وتوكيد سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان إلي جانب تحديد بوصلة الحياة السياسية والنشاط الاقتصادي وصيانة الملكية وكفالة حقوق التفكير والتعبير والإبداع, وإذا كانت لجنة الخمسين قد قطعت شوطا لا بأس به علي طريق إعداد دستور جيد للبلاد إلا أننا نظن أن الدستور محكوم في النهاية بالمناخ الذي يوضع فيه والبيئة الفكرية والسياسية لتطبيق بنوده واحترام نصوصه لذلك فإننا نورد الملاحظات التالية: أولا: إن مشروع الدستور الحالي يجري إعداده في ظرف استثنائي تمر به الدولة المصرية في أعقاب ثورتين أطاحت الأولي بنظام وطني ولكنه كان يحمي الفساد ويعتمد الاستبداد أسلوبا في الإدارة والحكم, بينما أطاحت الثانية بنظام يفتقد الحس الوطني ويقصر مزاياه علي فصيل واحد ولا يكترث كثيرا بقيمة الدولة المصرية داخليا وقامتها خارجيا, فضلا عن مسحة استبداد أيضا كانت بوادرها تلوح في الأفق, ولست أشك أن إعداد دستور مصري دائم في هذه الظروف هو مغامرة محسوبة وشر لابد منه إذ إن واضعي الدستور الجديد أو حتي المعدل مازالوا يعيشون أصداء التجربة ويعبرون عن مواقف آنية وظروف مرحلية, فمعاصرة الحدث تنعكس بالضرورة علي كتابة النص الدستوري والأجواء التي تدور فيها المناقشات والمداولات سواء في أولويات البنود أو أسلوب صياغتها وهي مسألة دقيقة وحساسة وتحتاج إلي ضمير وطني يقظ ورؤية بعيدة المدي لمستقبل البلاد والعباد. ثانيا: إن الدستور هو الذي يحدد هوية الدولة والتي يجب الإلحاح علي وضوحها خصوصا بعد تلك الفترة الضبابية التي مرت بها مصر في العامين الماضيين إذ إن العبث بهوية الدولة هو عدوان علي تاريخها وحضارتها والبشر فيها, فهو يبدو وكأنه محاولة لإنكار أهمية الزمان وطبيعة المكان ونوعية السكان, فالهوية المصرية تحديدا هي الأقدم علي الأرض لدولة مستمرة مستقرة منذ بداية التاريخ المسجل نقوشا علي المعابد وتواجدا علي الأرض لم ينل منها الغزاة ولم يغيرها الطغاة ولم يسقطها البغاة, وأنا أطالب معدي الدستور بإلحاح تأكيد هوية الدولة المصرية بتعبيرات واضحة وحادة في صدر الدستور علي نحو يقطع الطريق علي محاولات العبث بها أو النيل منها. ثالثا: إن الأديان السماوية الثلاثة قد تجاورت علي أرض مصر وتعانقت فيها ففي مصر آلاف المساجد ومئات الكنائس, وفي القاهرة وحدها سبعة معابد يهودية, لأنها مصر التي خصها القرآن في الذكر الحكيم وعبرت علي أرضها رحلة العائلة المقدسة وجاء ذكرها أيضا في العهدين القديم والجديد وخاطب موسي الكليم ربه العظيم من فوق جبل سيناء, فأصبحت مصر مرعية من الرب مباركة من الأنبياء, ولا أجد غضاضة في المطالبة هنا برعاية أشقائنا في الوطن والدم الواحد وأعني بهم مسيحيي مصر وتأمين دور عبادتهم واحترام عقيدتهم لأن المساس بهم هو اجتراء علي تعاليم السماء, ونبي الإسلام العظيم قال( من آذي ذميا فأنا خصيمه يوم القيامة) والنص الكريم يقول صراحة( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) إنني أطالبهم اقتداء بالرسول الكريم قائلا( استوصوا بقبط مصر خيرا) وليكن في مشروع الدستور نص واضح يغلظ العقوبة علي الجريمة الطائفية تحديدا. رابعا: إن للجيوش في دساتير العالم كله مكانة متميزة باعتبارها رمز سيادة الدولة ودرع أمنها وأمانها وحامية أرضها وحارسة حدودها فلا غضاضة علي الإطلاق أن يعطيها مشروع الدستور الجديد درجة من الخصوصية بحيث لا يكون فيها افتئات علي الديمقراطية أو عدوان علي الحياة المدنية أو انتقاص من حقوق أفراد المجتمع وسواد الناس من الشعب المصري, ولنتذكر أن جيشنا تحديدا هو جزء لا يتجزأ من الكيان المصري العريق ويصعب التمييز بين ماهو مدني أو عسكري إلا بحكم الوظيفة وطبيعة الدور ونوعية المهمات الوطنية الملقاة علي عاتق كل طرف, فالجيش المصري كان ولايزال وسوف يبقي مدرسة في الوطنية ودعما للدولة العصرية منذ قيام الدولة الحديثة من مطلع القرن التاسع عشر حتي الآن. خامسا: إنني أظن أن واضعي مشروع الدستور يدركون أن السواد الأعظم من المصريين من محدودي الدخل الذين يطالبون بالعدالة الاجتماعية حامية لهم وحافظة للحد الأدني الذي يسمح لهم بالمعيشة في وطن يتفشي فيه الفقر ولا يبرحه الجهل وتنهشه الأمية, لذلك فإن دور لجنة الخمسين أساسي بالدرجة الأولي لأنه ينوب عن الأمة المصرية في صياغة دستورها, ولن يتمكن المواطن البسيط من فهم كل بنوده إذا قرأها أو معرفة المغزي من كل منها, فالدساتير تبدو أحيانا معقدة النص غامضة الأسلوب لذلك فإنني ألتمس من واضعيه الاهتمام بدقة الصياغة والبعد عن العبارات الفضفاضة والشعارات التي لا معني لها, فالدولة الحديثة تحتاج في دساتيرها إلي نصوص محددة وأفكار واضحة وتعبيرات موجزة, كما أنني أهيب بالسادة واضعي مشروع الدستور أن يدركوا أن كثيرا من البنود التي احتواها دستور2012 ليس مكانها علي الإطلاق نص دستوري فهي لا ترقي إليه ولكنها قد تقف عند حدود النصوص القانونية العادية أو حتي اللوائح المهنية! ولنرتفع بالنص الدستوري إلي قيمته العالية ومكانته الباقية دون الغوص في التفاصيل أو اللجوء إلي ثرثرة لا مبرر لها. .. إن أهمية الدستور أي دستور ليست في نصوصه فقط, ولكنها تتجاوز ذلك إلي روحه التي تقف خلف النص وتكمن في الأفكار والظروف التي دفعت إليه والملابسات التي أحاطت به, إذ لا يمكن انتزاع النص الدستوري من سياقه بل يجب التعامل معه في إطار الظرف التاريخي الذي نشأ فيه, فالدساتير في النهاية نص وروح.. فكر وممارسة.. عقل وقلب في آن واحد, بل إنني أزعم أن الدستور وثيقة عقلانية وعاطفية في ذات الوقت. "الأهرام"