صدرت حديثا الطبعة الثانية من كتاب: ‘مدخل إلى الأدب الإسباني الحديث: دراسات نقدية'، في الجزائر عن منشورات دار الألمعية، لمؤلّفه الدكتور عبد الله حمادي يقع في 365 صفحة من الحجم الكبير ويحتوي على تقديم وسبعة فصول، تتبع فيها المؤلف تطور المدارس الشعرية الحديثة في إسبانيا ووقف عند أهم الحركات التي مثّلته منذ ما يسمى بحركة جيل 1898 إلى يومنا هذا، وذلك بالتوقف عند أهم الشعراء الذين ميزوا هذه الحركات. حيث خصّص فصلا مهما للشاعر المتجدد أنطونيو ماتشادو ( 1875- 1939)، ويعتبره أحد قادة حركة جيل 1898 وهو بالنسبة إليه ‘الشاعر الأوحد الذي استطاع بفضل حسّه المتوقّد أن يعبّر عن مسارب الحياة الوعرة وتغلغل بقوة في خبايا الروح الإسبانية الأصيلة، وعبّر عن مكنونها الخفية في شتى أوقاتها السارة منها والعسيرة' ( ص13. ) ولد ماتشادو في أشبيلية التي تركها وهو طفل صغير، تنقل في بعض المدن الإسبانية حتى لحق بأخيه سنة 1899 بفرنسا التي يقول فيها: ‘إن ما كان يعمّ فرنسا آنذاك هو المذهب الرمزي في ميدان الأدب، أما الفنون التشكيلية فالاتجاه الانطباعي هو السائد..' (ص.17) وفي فرنسا تعرف على ‘أوسكار وايلد' و'جان موريسون' و'أناتول فرانس′ وغيرهم، وحينما عاد إلى إسبانيا درّس اللغة الفرنسية، لكن الحياة السياسية كانت متوتّرة وكانت إسبانيا تمر بمرحلة انقلابات وتصفيات، مما دفع بمتشادو إلى النضال ضدّ فرانكو ودكتاتوريته، فأجبر على مغادرة إسبانيا سائرا على الأقدام ومتخفّيا إلى جنوبفرنسا حيث توفي بمدينة ‘كويور' يوم 22 فبراير سنة 1939 ثم لحقت به والدته بعد ثلاثة أيام. ترك مجموعة دواوين شعرية تتقد بروح التطلّع الإبداعي وتعكس حياة صاحبها الذي عاش حياة صعبة، وهي عبارة عن أسفار متواصلة كما انتمى إلى حركة 1898 التي تعبّر عن ظهور جماعة جعلتها الظروف تعالج نفس الهموم ولها نفس التطلعات وقد كان متشادو ‘قائد زمانه، حيث انتقل من مرحلة الشعر إلى مرحلة الحس الفلسفي، وخاصة أن هذه المرحلة تبرز للوجود أثناء عزلة الشاعر بقرية ‘بياسة' بالشمال الشرقي الأندلسي فهناك درج الشاعر في البحث عن أسلوب جديد للحياة، وشرع في كتابة محاولاته الفلسفية الأولى'. ( ص.47). أما أسلوبه فهو يمتاز ‘بالبساطة المتناهية والوضوح المشرق والنزول في أغلب الأحيان إلى لغة التخاطب اليومي' ( ص.57) كما يؤكد المؤلف الذي أبحر في عالم ماتشادو محللا مكانته على المستوى المحلي والعالمي. أما الفصل الثاني والرابع فخصصهما إلى الشاعر فديريكو غارسيا لوركا الممثل لجيل العشرينات وتحديدا حركة 1927، وهي تسمية لم تستقر إلا في ‘أيامنا الحديثة، وبالتحديد في أخريات الربع الثاني من النصف الأول من القرن العشرين' (ص.94)، هذا وتطرق الباحث إلى أهم المراحل الشعرية التي مر بها لوركا، وعن تأثره بالشاعر الفرنسي بودلير، وعرف لوركا مراحل شديدة الصعوبة انعسكت في أشعاره وأن الجيل الذي انتمي إليه عبّر عن المرحلة السياسية التي عاشها والتي دفع لوركا حياته من أجلها، وهذا محور الفصل الرابع الذي يؤكد فيه المؤلف بأن لوركا لم يقتل على ‘أيدي الكتائبيين الإسبان المعروفين باسم ‘الفلانج' في زحمة مضاعفات الحرب الأهلية الإسبانية بسبب تعاطفه مع الجمهوريين، لكن منطقة الظلمة التي تغطي ساحة مقتل لوركا ظلت بعيدة عنا' ( ص.199)، فالمعروف عن لوركا أنه سافر إلى الولاياتالمتحدة وقضى فيها قرابة عام، كما عرف بأسفاره داخل إسبانيا، وأن الأجواء التي اختارها في حياته ربما أزعجت بعض المحافظين، علاوة على نقده اللاذع للممارسات الاجتماعية الذي جلب إليه أنظار السياسيين، حتى داهمته كتيبة في صباح 18 أوت 1936 وحملته في حافة قديمة إلى إحدى المراكز كما يؤكد سائقها ‘تريسكترو' الذي بقي على قيد الحياة إلى فترة قريبة، حيث اعترف للكاتب الإرلندي ‘إيان جبسون'- الذي ألّف كتابا عن حياة الشاعر لوركا- بأنه كان ‘مع الذين قتلوا لوركا في تلك الرحلة المشؤومة، لكنه تبرّأ من المشاركة الفعلية ونسبها إلى ‘رويث ألنسو' الذي كان يقيم ساعة صدور كتاب فيلا سان خوان بمدينة سلمنكه' ( ص.229) ثم يستمر المؤلف مؤكدا على لسان المواطن الغرناطي ‘أنخل سلدانيا' الذي يقول: ‘كنت في صبيحة يوم من أواسط شهر أوت 1936 جالسا في مقهى ‘الباخريرة' (العصافير) بغرناطة فدخل تريسكتر وقال: الآن عدنا من عين الدموع بعد أن أعدمنا غارسيا لوركا وقد أطلقت عليه الرصاصة الأخيرة' (ص.229)، ورويس ألنسو عرف بجلاد غرناطة. وعندما فضحه موضوح القتل حاول القاتل دفع التهمة لكن الوثائق والأدلة التي أتى بها الكاتب إضافة إلى شهادة بعض من كانوا مع القاتل عرّته على حقيقته مما دفع بالمحكمة لأخذ الموضوع للتحقيق في القضية، هكذا إذن قتل لوركا بعد حياة مليئة بالتعب والأمل والإبداع الذي تركه خالدا وجعله في قائمة الشهداء الإسبان المدافعين عن الحرية. تطرق المؤلف في الفصل الثالث إلى علاقة جيل السابع والعشرين مع السريالية التي عرفتها إسبانيا عن طريق الشاعر الفرنسي أندري بريتون الذي ألقى محاضرة في مدريد حضرها مجموعة من المبدعين، خاصة من جيل السابع والعشرين، ومن هنا بدا التأثر واضحا في أعمالهم وفنهم مثلما نرى مع الفنان سلفادور دالي، وبدأت هذه المدرسة تعرف إقبالا كبيرا عليها في إسبانيا، حيث يؤكد الناقد ‘آنجيل دلريو' في كتابه عن غارسيا لوركا ‘شاعر في نيويورك' قائلا: ‘يرجع اتصال الشباب الإسبان بالسريالية بطريقة مباشرة إلى 18 من أبريل عام 1925 عندما ألقى الشاعر الفرنسي الكبير لويس أراغون محاضرة عن السرياليين بحي الطلبة بمدريد، وكان من بين المقيمين بالحي آنذاك الشاعر غارسيا لوركا وألبرتي، والرسام سلفادور دالي، والشاعر ألكسندري ودامسو ألنسو، وخيرار دويافو ولويس ثرنودا وغيرهم' ( ص.17)، ولعل الوضع السياسي ساعدا في انتساب هؤلاء الشعراء إلى هذه المدرسة التي عرفت ازدهارا قويا على يد ‘جيلين هما جيل (1898 وجيل 1927) والذي ظلت عناصرهما متعايشة تقريبا إلى حدود الأربعينيات لكن الحرب الأهلية أتت عليها، فكان من قربانها كما نعرف غارسيا لوركا شهيد غرناطة عام 1936′ (ص.196). كما توسعت الحركة في الأوساط الثقافية وعرفت تطورا كبيرا، وأعطت الكثير من الإبداعات كما وطّد أصحابها علاقات مع الكثير من الشعراء في أوروبا وأمريكا اللاتينية. خصص المؤلف الفصل الخامس إلى الشاعر رفائيل ألبرتي ( 1902- 1999)، الذي نتتبع مراحل حياته المليئة بالسفر والتنقل بين المدارس الفكرية، تطرق في أشعاره إلى ثورة الإنسان على الشر وعلى القوى العمياء وفق خلفية ماركسية، وعرف بنضاله وبتقرّبه من القضايا الاجتماعية، مما سبب له متاعب كثيرة من بينها النفي الذي دام أكثر من 40 سنة، لا لشيء سوى لرفضه الدكتاتورية والعبودية، وظل مناضلا في صفوف الحزب الشيوعي. أما الفصل السادس فقد تطرّق فيه إلى الشاعر بيشتني ألكسندري المولود سنة 1898 بمدينة أشبيلية، ترجم شعره إلى الكثير من لغات العالم وبخاصة الفرنسية والأنجليزية، فهو لم ينعم بالحب لذا ‘راح يعزف في قصائده ودواوينه الكثيرة على هذه الرغبة المكبوتة في مخزونه الشعري، ولما كانت هذه الرغبة وراء كتلة الشعور الكثيفة فإنها برزت على شكل إشراقات غريبة يكتنفها الضباب وتغلب عليها التلقائية السريالية والحميمية الغرائبية، وإن شئت الحضور الصوفي المتناهي' ( ص.273). كما أكّد على التعايش السلمي، وعلى العموم كما يؤكد المؤلف فأن ألكسندري ‘ مع كل هذا يبقى شاعرا أندلسيا، متشابك التصوير كأجداده ابن خفاجة وابن الزقاق البلنسي على حد تعبير أستاذنا الكبير إيميليو غارشي غوس′ ( ص.293). أما الفصل الأخير فأتى بعنوان ‘مظاهر التجديد في الشعر الإسباني الحديث' والذي تميّز بالغرابة، وتطور الذاتية والشخصانية، إضافة إلى قضية الالتزام والاقتراب من الواقع الأليم الذي عاشه مختلف الشعراء الذين تطرق إليهم المؤلف، وأن التأثير ما بين المدارس الشعرية واضح في مسيرة هذا الأدب، الذي أبرز عباقرة كبارا أصبحوا قامات هائلة في الإبداع الأدبي والنضال السياسي، ومحل اهتمام من الدارسين والنقاد، لأنه أدب حافل بالتغيرات والمنجزات، وله جذوره المتمثلة في تراثه الأندلسي الذي يمثل لوحة فنية مميزة لكونه وليد ملتقى حضارات وثقافات غنية، والشعر الإسباني الحديث هو امتداد لذلك التراث الغني، وهو مثله مثل أي مدرسة شعرية أو فكرية وليدة ظروف ومعطيات تاريخية وسياسية وفكرية مختلفة. تجدر الإشارة إلى أن الدكتور حمادي ذيل كل فصل عالج فيه حياة ومسيرة شاعر بمختارات شعرية مترجمة إلى اللغة العربية، علاوة على أنه أثبت الكثير من صور الشعراء والأدباء والمؤسسات الثقافية الإسبانية وبعض المناظر الإسبانية. أغلب الشعراء الذين تطرق إليهم المؤلف هم من أصل أندلسي، هاجروا وانتقلوا في مختلف المدن الإسبانية، ومنهم من هاجر خارج بلده إسبانيا، لكن بقي حنينهم الدائم إلى الأندلس، كما أنهم كانوا يعتبرونها أرض شعر وإبداع أدبي مهمين وغالب، ومحمّلة بإرث ثقافي وحضاري وفكري كبيرين. إنه كتاب غني بالمعلومات وهو بمثابة مصدر عن الأدب الإسباني بمنتخبات أنطولوجية، لأنه يدخلنا في تغيراته وتقلباته وتطوراته كما يصفه مؤلّفه ‘أعطينا للقارئ بعض ملامح التجديد التي تميّز الشعر المعاصر، ...إنها بأبسط تعبير محاولة إلى الغوص في أعماق التجارب الشعرية عن طريق اللغة والانفعال' ( ص.360)، وقد اقتصر المؤلف في هذا الكتاب على الشعراء المعروفين الكبار، وللعلم فإن المؤلف تطرق في كتاب مستقل إلى الشعراء والأدباء الشباب الذين أضافوا أشياء مهمة للأجيال التي سبقتهم، خاصة بعد تخلّص الإسبان من دكتاتورية فرانكو وجماعته وفرض واقع سياسي جديد مغاير تماما لتلك الفترة الحالكة الظلام، وهذا الانتقال من الدكتاتورية إلى الحرية كان وليد تضحية الكثير من الشعب الإسباني بمختلف شرائحه الاجتماعية والثقافية، ولوركا نموذج لذلك المناضل الشريف الذي دفع حياته من أجل أن ينعم أهل بلده بهذه الحرية. تجدر الإشارة إلى أن الدكتور حمادي عبد الله هو أستاذ للأدب العربي واللغة الإسبانية بجامعة منتوري بقسنطينة، ومتخصص في الأدب الأندلسي واللاتيني الأمريكي، وهو شاعر وباحث ومحقق ومترجم ورئيس مختبر الترجمة في الأدب واللسانيات، صدر له أكثر من 28 كتابا.