الترسيم الجغرافي و التقرير السردي في رحلة المشرفي عزيز قنجاع
عن منشورات كلية الاداب والعلوم الانسانية بتطوان صدر كتاب "تمهيد الجبال وما وراءها من المعمور واصلاح حال السواحل والثغور: او حركة السلطان مولاي الحسن الاول الى شمال المغرب" تاليف العربي بن علي المشرفي دراسة و تحقيق الدكتور ادريس بوهليلة، وقد جاءت كتابة المشرفي عن هذه الحركة مشوقا في اسلوبه حيث يبدو كتاب "تمهيد الجبال وما وراءها من المعمور واصلاح حال السواحل والثغور" كتابا اشكاليا منذ اول وهلة، و ياتي سؤال الى اي جنس ادبي يمكن الحاق هذا الكتاب ملحا، اذ يكتب الاستاذ نزار التجديتي في تصديره لهذا الكتاب ممهدا للموضوع من خلال محاوله تاصيل النظر في موضوع "الحركة " فيرى ان اصل الحركة العسكرية بالمغرب السلطاني في اصله الدعوي القديم يعود الى بعض نظم "دولة المدينة " التي سنها الرسول والذي استمر الى عهد الخلفاء الراشدين لمحاربة الردة، وهذا النهج كذلك استمر عليه الخلفاء الامويون والمروانيون وانتقل الى شمال افريقية مع تاسيس الدولة المغربية واستمر ال عهد السلاطين السعديين والعلويين. كما يرى في نفس التصدير ان المولى الرشيد ابرز من وظف هذا النظام الثنائي الوجه " عقدي وعسكري". وبناء على هذا التاصيل العربي الاسلامي يرفض الاستاذ نزار التجديتي ان تلحق بالمقارنة والتشبيه حركات مولاي الحسن الاول بتحركات الامبراطور شارل الخامس باعتبار الفارق المذهبي والثقافي و الجغرافي . لكن هذا التحديد لمضمون الكتاب باعتباره يتطرق لحركة مولاي الحسن الاول لا يصنفه و لا ينفحه انتماءه الادبي بل الكتاب اصله تدوين ليوميات الحركة الحسنية الى شمال المغرب وتتبع مراحلها مما يجعل الاستاذ التجديتي يحتار في تصنيفه ويحسم في الاخير الامر كون المؤلف هو جنس يخرج من جنس الرحلة الكلاسيكي الى جنس العرض السردي الرتيب " ونسجل هنا معكم ان السرد الرتيب لا يعد جنسا ادبيا، ثم يعود في الاخير بكثير من الغموض ايضا فيسميها "رسالة ادبية". ويضيف "انها فسيفساء ادبية متعددة المراجع والروافد والاجناس والاغراض " وينتهي من الموضوع تماما بالقول انها "فسيفساء غريبة" تزدان بديباجتها المغربية الاندلسية التقليدية" فالكتاب اذن هو عبارة عن "جنس يخرج من جنس الرحلة الكلاسيكي الى جنس العرض السردي الرتيب وهو في نفس الوقت "رسالة ادبية" و" فسيفساء ادبية متعددة المراجع والروافد و الاجناس والاغراض " وفي الاخير هو "فسيفساء غريبة" لماذا بدا صعبا على الاستاذ صاحب التصدير الحاق المؤلف بجنسه الادبي الذي ينتمي اليه فهو يؤصل الكتاب من حيث مضمونه من خلال تحديده لمفهوم الحركة و تاصيلها والرجوع بها الى "دولة المدينة " التي سنها الرسول واستمرت بعده مع الخلفاء الراشدين ودول الخلافة الاسلامية، وبهذا يمكن اعتبار كتاب المشرفي بناء على مضمونه هذا هو كتاب يدخل ضمن نوع سردي عرفته الكتابة العربية وسيكون بالتالي الكتاب استعادة لادب المغازي والسير الذي نشا في فترة الحكم الاموي مع الفتوحات الكبرى وتجاوز الفضاء المحلي العربي الى فضاءات جغرافية كبرى، في مسار تاريخي تنامى هذا الفن ضمن اطره التاريخية واتخد اشكالا قادرة على تجسيد البنى القائمة في السياق المكاني والزماني الفسيح ومع تقلص الفضاء اللاحق مع الانهيارات الكبرى للامبراطوريات تقلص مدى الخيال السردي كذلك واعاده الى شرنقة مغلقة احتفظت بقوالب السرد العام التي ينتمي اليها هذا الكتاب . اذن فادب المعازي هو جنس ادبي تاريخي ارتبط بالتحركات العسكرية ضمن مجال جغرافي يمتد حينا و يتقلص احيانا ، ويجعل من موضوعة تملك الفضاء والسيطرة محور سردياته ويبني عليه محور اهتمامه وهذا ما يعلن عنه المشرفي بداية من خلال عنوان الكتاب الذي هو "تمهيد الجبال وما وراءها من المعمور واصلاح حال السواحل والثغور" حيث يعلن المشرفي عن مضمون عمله كمواكبة داخلية للمشروع الامتلاكي للفضاء الجغرافي في الحضور والسيطرة والتحكم التي يقودها المولى الحسن الاول من خلال عملية الحركة، وتتحول الفضاءات العظيمة الشاسعة من جبال وما وراءها من المعمور على اعتبار ان هناك مجالات بين الجبال والمعمور وما بعد المعمور تعد في صنف القصي و المجهول والغير المعمور والمستوحشة والمنقطعة، وكذا السواحل والثغور التي تحيل باستعمال صيغ الجمع الى جسامة الفعل وعظمته في الفضاء الجغرافي الفسيح الشاسع والكبير، اذن فالكتاب هو سردية تطبيقية حول التوسع و التنقل في فضاء ينبغي ان يدمج ضمن خريطة السلطة ويتحكم به بشكل فاعل قبل تقبل حدوده او نظامه او خصوصيته عبر عملية ثنائية عملية التمهيد التي يستعملها مقرونة بالجبال ومهد الشيء كما استنتج الاستاذ بوهليلة ذلك هو البسط و التمكن و التوطئة وهي كلها معان تدل على الفعل الماحق المخضع الضابط والمهيمن على الفضاء الجغرافي وعلى معمريه لكن الاكراه الممارس على الجغرافيا هنا لا يرتبط ببساطة بأداء عمل القوة العسكري فقط بل يمنح مصداقيته و سريانه لذاته في تشاكل صيغ العنوان حين يتحول التمهيد في الجبال و المعمور الى اصلاح في السواحل والثغور كانه فعل متراكب يشرعن اللاحق منه السابق. اذن فالكتاب من حيث المضمون يبقى في اعتبارنا كتابا في المغازي لكنه ينفلت من هذا التصنيف حالما نعرف ان الكتاب هو يوميات سير ذاتية لمشاهدات مباشرة مصاحبة لتنقلات المحلة السلطانية في الفضاء الجغرافي، فيتحول الكتاب الى صنف ادب الرحلة التي حددها الاستاذ بوهليلة على انها مجموعة الاثار الادبية التي تتناول انطباعات المؤلف ووصف لرحلاته ويتعرض لوصف ما يراه من عادات الاقوام الذين صادفهم او نزل عندهم ووصف سلوكهم و اخلاقهم وكل ما يثير دهشته او يسرد مراحل رحلته مرحلة مرحلة او يجمع بين كل هذا في ان واحد. وفي نظري فالسرد في موضوعة المغازي و السرد الرحلي يلتقيان في كونهما عمليتين متماثلتين في الفعل مفترقتين في الآليات ذالك أن السرد في ادب المغازي هو تقرير وصفي عن السيطرة والتملك للفضاء الجغرافي والسرد في الادب الرحلي هو انشاء سردي عن تملك ثقافي للفضاء الجغرافي الفسيح والسيطرة عليه عبر تشويرهذا الفضاء الفسيح المجهول وترقيمه وادغامه ضمن بنية فوقية ثقافية معلومة ومستقرة يقوم الوصف بتقريرها وانتاجها من خلال انماط سردية مفتوحة ومختلطة وغير قابلة للتصنيف الاجناسي السهل المؤطر الدقيق، فهي مزيجة على مستوى الواقع والخيال والمعقول والسحري والشعر والنثر والامكنة والمواقع والمشهديات والانماط السردية و الدوائرية الحكائية. وهذا المضمون اشار له الاستاذ بوهليلة في كتابه هذا الاستقطاب المزدوج لنص المشرفي بين المضمون التقريري الوصفي باعتباره يدخل في باب ادب المغازي وبين كونه انشاء سرديا يدخل في اطار الادب الرحلاتي هو الذي اربك عملية تصنيف الكتاب. وفي نظري المتواضع ان الاستاذ بوهليلة تسرع في اغلاق الموضوع واعتبار الكتاب يدخل ضمن اطار الادب المكتوب الذي يتناول موضوع الانتقال من مكان الى مكان اخراي ادب الرحلة حيث ان الكتاب يتموج بين سرديتين تنحو نحو الالتقاء البعيد تماما عن أن يكون عرضيا بين انساق السلطة السردية المشكلة للغزوة /الحركة، حيث تحضر اولا مصطلحات القوة بشكل استعراضي ومهيمن عل السرد فنجد المؤلف يستعمل مصطلحات مثل "الغزوة "غزا ايضا جبال غمارة" كما يقول، او مصطلح "التمهيد" كما راينا في العنوان او مططلح "الفتح" او "النزول" وكلمات مثل "اطاعه" و"اذعنت له" و"جالت خيل جيشه" و"اظهرت على العدو" و"سرى رعبه" بما تحمله هذه الكلمات من معاني القوة والسطوة . وكذا انساق السلطة السردية المشكلة للرحلة حيث يتم ثانيا اضغام فعل القوة هذا خلال تطور مسار الحركة بالافكار والتصورات والتجارب التي منها تستمد الدعم ، و يستعيد المشرفي المخزون الماثور المعرفي الرسمي، الممأسس، مراقبا الاعراف، ومتتبعا الانساق، مولدا وصفات لغوية جاهزة اشد ادواتية هدفها تعبئة الموافقة والاقرار واجتثات الانشقاق وتشجيع حمية دينية تسرع خضوع الفرد للمعايير المهيمنة في لحظتها فيبدو صاحب الحركة "اماما عالما ناصحا فطنا طاهرا"، وتبدو "الحركة" بالاستتباع "جمع لكلمة المسلمين" و"رفع للخلاف" كما تخرج الجملة الوصفية الى الخبرية المحايدة الى جملة موقفية متحصلة حيث نحس ان السرد في كتاب تمهيد الجبال يستحضر معجما ضاغطا ومضبوطا متفاعلا تفاعلا خلاقا يعيد انتاج عالم منمط عقائديا و مستعاد سرديا مرسم ثقافيا فتبدو الحركة التي التي يصفها المشرفي " مهدها وحارت في امره الرهبان ، ورجفت لهيبته اهل الضلال والطغيان ، والله در من انصف وابرز اوصافه للعيان وسطرها بالقلم والبنان " هكذا تتكاثف الرحلة لتعزز السلطة مانحة اياها المصداقية والسريانية في مجرى تطور السردية، مستندة على شكل سردي يشرعن اكتساح الفضاء الجغرافي والسيطرة عليه من خلال امتصاصه وتضمينه ضمن بنية سردية محولة ومعدلة تمتلك في داخلها سلطة التاريخ والمجتمع و تستند اليها . تبدو الجبال وما وراءها خلال السرد الرحلي جد مؤنسنة بل مدجنة عكس ما يقدفه فينا عنوان الكتاب من معاني التوحش والانقطاع بل نجد ان الاقاليم ومساراتها متشابكة والحركة السلطانية تمت ضمن اقاليم معلمة ومعرفة ويحال اليها اسميا وقابلة للسرد. اقاليم ذات تواريخ متواشجة مشخصنة في تطابقات وترافدات بين المجالات المقسمة ضمن نفود روحي لاولياء مشتتين جغرافيا لكنهم ينتظمون ضمن المجال و ينظمون المجال والسفر والثقافة و التاريخ. وفي مسار الحركة يعمل السلطان على تثبيت هذه التشويرات القائمة و يرسًمها ويدعمها من خلال الزيارة والوقوف بالمزارات وهي افعال يقوم بها السلطان كل مرة و يكررها بايهاب و خشوع وقد كانت بالاهمية عند المشرفي اكثر من باقي الاحداث نظرا لفعاليتها العظيمة في انتاج الاشارات الاحتوائية والتمثلية للهيمنة الجغرافية والمجالية والرمزية في عملية مواكبة داخلية للمشروع الامتلاكي للفضاء الجغرافي في الحضور والسيطرة والتملك والتفرد ويبدو مسار الحركة تركيبة من العناصر الفعلية والرمزية التي تعيد انتاج نظام رؤية مستقر ومتجدد بتكرار فالمزارات صورة لهوية عبرتاريخية لجغرافية باكملها، مضغوطة في قالب من الانصياع امام الرموز والقبور المتناثرة التي تعيد توضيب الامكنة و المسارات وان خرجت عن الطريق الرئيسية للرحلة الا انها تبقى عناصر فارقة في لم المجال و اعطائه بعدا تمثليا في سياق النظام العام الرسمي و المعترف بامتلاكه لذا لا يتوانى المولى الحسن الاول في طلب الزيارة خارج مسار الحركة و في زيارته لضريح مولاي عبد السلام تتحول الدلالة العميقة للامتلاك المطلق بقوة الحضور الشخصي و شموخه كانه نفسا هادرة تندفع في طريقها لامتلاك الارواح بحيث تتملكها تملكا لا فكاك عنه بعد ان تملكتها جسديا تترابط المعرفة الانشائية للرحلة بالقوة والاستعراض والمعجبة حين تصور لنا دخول المولى الحسن الاول للمدن- بجلال في اللغة والتركيب و جزالة و شدة اسر ففي الشاون حصل له اقبال عظيم ود الرجال والنساء والاحرار والعبيد ان لا يرجعون عن متابعته...وفي تطوان كان يوم دخوله يوما مشهودا وعيدا عند اهل لاسلام معدودا.... وفي طنجة دخلها في عز ونصر تحيرت فيه عقول الناس.... وفي العرائش كان دخوله عند اهله ذلك اليوم مشهدا وموسم جسيم.... ان هيبة الدخول تعيد ترسيم المجال ثقافيا وانتاج الامة الموحدة سياسيا القوية و المتماسكة دونما الالتفات الى واقع التشرذم والضعف السياسي الحاصل على ارض الواقع، لا يلتفت الانشاء الذي يصوغ ترتيق اوشاج الهوية عند المشرفي الى التدقيق والتفصيل والعرضي كما يفعل مراسل جريدة تايم اوف موروكو حول سوء معاملة اليهود او حول وجه السلطان المغبر او التصورات النمطية الاستشراقية لبيير لوتي عن حركات السلطان ان هذه الاستدراكات قائمة على نظرة استشراقية يجب نقدها باماطة اللثام عن خلفياتها المعرفية المؤسسة لها وليس بالمحاججة التاريخية والحجة الموثقة ان اللغة الفخمة و الاستطرادات المسجعة عند المشرفي تصوغ باحكام و تصون واقعا ترثه من احالات مرجعية قائمة تمتاح من خليط ثقافي اشتمالي تدميجي لا باعتباره الواقع كما هو ولا باعتباره الواقع كما يجب ان يكون و لكن باعتباره واقعا انشائيا مستبنى قبليا وحاضرا حضورا سوبرا واقعي وهكذا فان الرحلة المشرفية هي سردية تاريخية بصورة محسوسة تصوغها تواريخ حقيقية لاحداث حقيقية غير انها تتلقى العون من العمل التاريخي تضيف سرديته كثافة لنسيج الهوية التي تمتاح من تاريخ طويل من انتاج ثقافي مفارق للواقع خاتمة تبدو رحلة المشرفي ليست فقط ابعد عن ان تكون مجرد رحلة, بل هي الى درجة متعالقة منشبكة في و جزء عضوي من هذا الاسترجاع الثقافي لترسيم واقع مفارق عن واقع اصلي قائم سماته التشتت التنافر و التقوقع والضعف والتكالب الخارجي