بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    ميغيل أنخيل رودريغيز ماكاي، وزير الخارجية السابق لبيرو: الجمهورية الصحراوية المزعومة لا وجود لها في القانون الدولي    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    بريطانيا بين مطرقة الأزمات الاقتصادية وسندان الإصلاحات الطموحة    الجزائر والصراعات الداخلية.. ستة عقود من الأزمات والاستبداد العسكري    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    الوزير بنسعيد يترأس بتطوان لقاء تواصليا مع منتخبي الأصالة والمعاصرة    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء        التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    وسط حضور بارز..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تخلد الذكرى الستين لتشييد المسجد الكبير بالعاصمة السنغالية داكار    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور    قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    "مرتفع جوي بكتل هواء جافة نحو المغرب" يرفع درجات الحرارة الموسمية    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة        "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العربية لغة العلم و لا خوف من التعريب العلمي!!‎
نشر في العرائش أنفو يوم 25 - 12 - 2015


العربية لغة العلم و لا خوف من التعريب العلمي!!
محمد أبوغيور
ما إن يطرح موضوع التعريب في ميدان العلوم حتى ينقسم المتحاورون إلى مجموعتين تدعي إحداهما عجز اللغة العربية عن التعبير عن المدلولات العلمية فيقال أنها ليست لغة علمية بل هي لغة الشعر والأدب عموما. فترد عليها المجموعة الثانية يحشد من الأدلة التاريخية عن تطويع اللغة العربية للتعبير عن العلوم لدى علمائنا الخالدين.. الكندي.. ابن سينا.. ابن الهيثم والرازي...إلخ. وبالتالي، فإنها قادرة على أن تكون لغة للعلم ولا خوف من التعريب العلمي.
ومع كثرة ما كتب ويكتب عن الموضوع، قلما طرح الموضوع خارج هاتين الدائرتين وإن خرج عنهما فلكي يعود إليهما، بينما يستمر التساؤل كيف ولماذا نعرب ؟ ويستمر النقاش وكأنه لم يضف شيئا !
ومع اعتزازي بأولئك الذين يدافعون عن تعريب تعليم العلوم وكتب العلوم ومصادرها، أرى أنهم لم يحاربوا من مواقع العصر والمنطق العلمي نفسه بقدر ما تمترسوا وراء الأسانيد التاريخية فسحبوا القضية إلى دائرة التاريخ، وما التاريخ إلا بعض جوانب الصورة. ولشدة ما أعادوا الأدلة ذاتها –وهي صحيحة وثابتة وحاسمة- دون استلهام دلالاتها كاملة، بدوا وكأنهم سقطوا في وهم تقسيم اللغات إلى قادرة وغير قادرة على استيعاب العلوم ومفرداتها ! ولكن لا أحسب الأمر كذلك برغم كثرة التأمل فيه. بل هو قبل كل شيء حق الأمة وواجبها أن تتعلم بلغتها ومن يتوهم غير ذلك يدير ظهره لحق أساسي من حقوق الأمم ويتهرب من المساهمة في أداء أقدس واجباتها، وإذا كانت العلوم كشفا عن القوانين الموضوعية وتعامل معها، فإن استيعاب تلك القوانين بالسبل والمدركات التي تضمن لها الوضوح والحياة والتأثير في الأمة، جزء من تلك القوانين ومتمم لتأثيرها حتى ليكاد أن يكون قانونا هو الآخر، فبقدر ما يتيسر لك استيعاب القانون تتيسر لك السيطرة عليه أي تتيسر لك الحرية ما دامت الحرية فهم للضرورة وسيطرة عليها. وبقدر ما يشيع ذلك الاستيعاب تشيع روح التحرر ويسود منطق العلم حيث القوة والتقدم صعودا.
وعلى ذلك فإن الدول المستعمرة حين تفرض لغتها على مستعمراتها وتتشدد في ذلك بميادين العلوم بصورة خاصة، فليس لمجرد عجرفتها الاستعمارية واستعلائها القومي فحسب، بل هو تعبير عن الإحساس بخطورة امتلاك الأمة المستعمرة (بفتح الميم) قوة العلم وآفاق قوانينه وحتى إذا تلقاها بعض أبناء تلك الأمة بلغة المستعمرين فمن أجل أن تقترن بتقدمهم هم ومن أجل أن تتحكم بأولئك المتلقين عقدة العجز، ومادامت لغتهم لا تمنحهم مطبوعا في العلوم التي تخصصوا فيها، لاسيما وهناك من يوحي لهم إيحاء مخططا بأن ذلك جزء من عجز شامل بعض أعراضه عجز اللغة عن استيعاب العلوم، وما تلك سوى مغالطة وخلط للأسباب بالنتائج تغطية للحقائق أو قلبها لأهداف لا علاقة للعلم ولا للحقيقة بها.
فالحقيقة تقول أن اللغة ليست نبتا شيطانيا لا يتأثر بما حوله، وليست هي مجردات ثابتة لمطلقات عامة، بل هي وسيلة الشعوب للتعبير عن مدركاتها وحاجاتها ووسيلتها للتعبير عن الواقع، وبالتالي لا يكون فقر لغة ما من المطبوع العلمي نتيجة لعجزها عن استيعاب العلم بقدر ما يكون لضعف الواقع العلمي أو تدهوره في المجتمع الذي ينطق تلك اللغة. تلك هي، كما أرى، أبرز دلالات غزارة الإنتاج العلمي العربي يوم كانت الحضارة العربية منارة العالم بينما كان الهلع يهز شارلمان وحاشيته وهم يستمعون لدقات ساعة الرشيد، حتى إذا نهضت أوربا وامتلكت أسباب العلم والمعرفة وارتقت صعدا وتخلفنا نحن أصبح النشر العلمي قرين اللغات الأوروبية بينما تضاءل في لغتنا إلى الحد الذي توهم بعض أبنائها أن ذلك لعجز فيها وتلك هي المسألة. فكيف يوجد النشر العلمي دون علوم ؟ وكيف ينمو الأدب العلمي دون مادة له ؟ إنه غزير ومتواتر بقدر ما يصبح العلم ومنابعه سمة من سمات المجتمع والعكس صحيح.
في هذا الإطار تكون العودة إلى ذكر إنجازات ومؤلفات العلماء العرب الخالدين دليلا على حقيقتين : أولاهما، المستوى العلمي الرفيع للحضارة التي كان أولئك العلماء رموزا لها.
وثانيتها : قدرة اللغة العربية على الاستجابة لحاجات تلك الحضارة ومستواها العلمي الرفيع، ومن هنا نحن مع الدكتور يسري خميس حين أكد على أن اللغة "احتياج ملح للتعبير عن معرفة ما" أي أنها تعكس بشكل مباشر كما سبق أن أكدنا المستوى الحضاري لفترة ما وأن "المشكلة في الحقيقة ليست مشكلة اللغة ذاتها بقدر ما هي مشكلة من يتعامل مع اللغة".
والحق أن مشكلتنا –والتعريب العلمي عندنا يتعثر ويتعثر منه أكثر النشر العلمي عموما- تعكس فعلا، وإلى حد لا يستهان به، في البعض ممن يتعامل مع اللغة العربية في المراكز العلمية والجامعات. ويبدو تشخيصا صريحا لبعض حججهم في معارضة التعريب أو الالتفاف عليه حين لا تسعفهم شجاعتهم في المعارضة مادام ذلك توجه الدولة وقيادتها نفسها من شأنه أن يضعف من تلك الحجج ويحد من تأثيرها كثيرا وهو ما نحاوله في النقاط التالية :
أ- فقولهم بعدم إمكانية اللغة العربية استيعاب التعبير العلمي مردود لا بالاستناد إلى الأدلة التاريخية فقط، وإنما بالاستناد إلى بعض الحقائق التي تميز اللغة العربية نفسها لاسيما كثرة مفرداتها ومترادفاتها، فللسفينة في لغتنا –فيما أعلم- أكثر من 300 اسم، وللسيف أكثر من 480 اسما، وللأسد عدة مئات من الأسماء كذلك.. بل إن لبعض أعضاء الإنسان في لغتنا عشرات الأسماء للعضو الواحد. وذلك ما يتيح إمكانية خاصة للعالم بالذات لاستعمال المرادف الأنسب في المكان الأنسب بما يمنح التعبير قوة مضاعفة. كما أن هذه الحقيقة نفسها تفتح للترجمة العلمية آفاق غاية في الرحابة، غير أن ذلك مرهون بقدرة العالم نفسه على معرفة تلك الإمكانية اللغوية وعلى إلمامه بتلك الثروة اللفظية ودلالاتها وبطرق استعمالها وهو ما يفتقر إليه الكثير من علمائنا إن لم أقل أكثرهم، ودع عنك أن بينهم من يفتقر حتى إلى ما دون ذلك بكثير !
نعم، ليس انتقاصا من أحد القول بصراحة أن كثيرا من أساتذة العلوم والباحثين العلميين في جامعاتنا ومراكزنا العلمية لا يتقنون الكتابة العربية بالسلاسة والتشابك الذي يمنح الفكرة الوضوح وقوة الحجة الضروريين للكتابة العلمية ولعل ذلك ما يفسر لجوء الكثير منهم إلى خلط جملهم المكتوبة والمنطوقة يجمل أو ألفاظ أجنبية من اللغات التي درسوا بها تخصصهم العالي، وليتهم يكتفون بذلك. لا، فأنت تسمع بعد تلك الرطانة تبريرا لها بعجز اللغة العربية وافتقارها إلى المفردات العلمية المناسبة. وفي هذا الباب يقول الأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي : "ومن الغريب أن يكون أهل العلم من هذا النفر الذي لم يحذق العربية على معرفة حسنة بالإنجليزية أو غيرها من اللغات الأعجمية غربية كانت أم شرقية، إنهم يباشرون هذه اللغات حديثا وكتابة وهي وسائل عمل لهم ولا يبيحون لأنفسهم أن يخرجوا على قواعدها وأسسها، ولكنهم يتساهلون مع أنفسهم حين يرتكبون الخطأ في العربية وحجتهم أن العربية صعبة وهي لغة لا تناسب العصر". ثم يضيف محذرا : "هذا خطأ كبير بل جهل مخيف! فإلى أين المصير". ومن ميزات لغتنا أيضا أنها لغة متطورة لأنها حية، وهي إلى تطورها : "الوحيدة بين المجموعة السامية التي ثبتت على مر العصور في حين لم تثبت تلك اللغات".
وخلال مراحل تطورها لم تكن اللغة التي استوعبت الحضارة العربية والإسلامية فحسب وإنما اتسعت للعديد من التسميات والاصطلاحات الوافدة من لغات عديدة فأصبحت فيما بعد جزءا منها ومن مفرداتها.
وبالمثل وجد الآخرون في لغتنا ما يعبر عن بعض حاجاتهم فضموا إلى لغاتهم من كلماتها واصطلاحاتها. ولعل هذه القدرة على التطور والثبات معا تجد دابلا لها في اختلاف لغتنا اليوم عن لغتنا القديمة باتجاه استيعاب ملامح عصرنا وبخطى متوازية لمراحل تقدمنا نفسه وهو شأنها مثلا عندما كانت "انتقالتها الأولى" "من لغة الأدب والشعر إلى لغة العلم والمصطلح العلمي...". لتفي باحتياجات حضارة عصر الإسلام الأول وجديدها في العديد من شؤون الدين والحياة.
وخلال مراحل تطورها أيضا جابهت الحاجة إلى نقل بعض علوم الآخرين من اللغات الأعجمية فنهض بإيفائها العديدون على مر العصور حيث وجدت العلوم فرصتها للتعامل مع نتاج الحضارة العربية عبر مراحلها المتعاقبة. أفليس غريبا أن نجد نحن في هذا العصر في لغتنا عجزا عن نقل العلوم إليها، بينما فعل ذلك أجداد لنا قبل قرون دون أن يكون لهم ما لدينا من وسائل وسهولة اتصال !!
ولو عدنا إلى خصوصيات لغتنا نفسها إضافة إلى غزارة مترادفاتها لأصبح لزاما علينا الإشارة إلى "قدرة العربية الاشتقاقية وإنها تتسع في الاشتقاق إلى حد الاشتقاق من أسماء الأعيان كالماء والهواء والحجر والحديد والخشب وما إلى ذلك. وأن لها من أبنيتها ما يعين على توفير مسائل كثيرة كالمصدر الصناعي الذي صنعت به النسبية والمادية والكهربائية والحيوية والديمقراطية والوجودية ومثل هذا كثير، وأن لها من أبنية أسماء الآلة وسائر المشتقات ما هو كفيل في توفير مادة اصطلاحية كبيرة"، ويضيف الدكتور إبراهيم السامرائي إلى ذلك قوله : "ولقد دل الاستقراء على أن في العربية أبنية لم يلتفت إليها الصرفيون ولم يقيدوها في مصنفاتهم وهي تصلح أن تؤدي أغراضا علمية، وكل تلك الميزات أسس لتوفير ثروة اصطلاحية كبيرة.
ب- كنا برغم ذلك لا نسمع اتهام لغتنا بالعجز، وإنما يضيف أصحاب ذلك الاتهام تبريرا آخر لتوجههم نحو اللغات الأجنبية هو قولهم بأن النشر العلمي باللغة العربية –لو تم- فسيؤدي إلى محدودية المادة المنشورة وبالتالي فإن استمرار اعتماد أو مباشرة لغة أجنبية –وهي عندنا في المغرب الفرنسية في الأغلب- تحصيل حاصل مادام النشر العلمي الذي سيباشره خريجونا المتخصصون سيكون بلغات أجنبية!
في هذه الحجة أكثر من خلل، فمفهوم المحدودية والانتشار هنا لا يستند إلى قياس مدى تأثير المادة المنشورة في محيطها الطبيعي ولا إلى قدرتها على تلبية الهدف الذي كان وراءها، بل يستند إلى الرغبة المسبقة في التوجه إلى قارئ معين.. إلى وسط معين يأمل إلى نيل الشهرة لديه والفوز برضاه، وبالحصر –وبصراحة لا تنوي الإساءة لأحد- إنه التوجه إلى الهيئات العلمية الأجنبية ! ولكننا نرى الأمر من زاوية أخرى.. إذا كنا نتفق أن أبحاثنا لابد أن تستجيب لحاجات قائمة فعليا في مسيرة تطورنا، وإن أي بحث علمي بالنسبة لمرحلتنا لا يستهدف حل المشكلة التي يتعدى لها فقط بل ولابد له –وهذا ضروري جدا- أن يساهم في شحذ الوعي العلمي وإغناء النظرة العلمية لدى أوسع عدد ممكن من القراء.. إذا اتفقنا على ذلك –وهو ما نراه فهما علميا لدور البحث العلمي في حياتنا- فسنجد أن الخروج بحل للمشكلة العلمية المطروحة في الواقع، أو بتفسير علمي لها سيكون المبرر الأول للفوز بالنجاح الذي يطمح له الباحث وبالتالي فإن الفوز بتفاعل الناس أصحاب المصلحة الحقيقية بذلك الإنجاز العلمي مع الباحث سيكون التزكية الأكبر للبحث والباحث وسيضمن منطقيا الانتشار الذي يستحقه البحث... غير أن ذلك ممكن فقط حين ينتشر البحث بلغتنا، أما الاقتصار على لغة أجنبية فإن كان جوازا للمرور إلى الشهرة العالمية فإنه ليس كذلك حقا إلا إذا كانت الأبحاث المنشورة على مستوى كبير من الإبداع وذات قدرة متميزة على الإضافة وعلى التعبير في الواقع الذي أفرزها –وهو شأن أبحاث كبار العلماء الذين نعرف بعضهم ربما أكثر مما نعرف علماءنا- وبغير ذلك ما أكثر النشر الذي لا يحقق شهرة ولا يصنع مجدا. وحتى لو حققت أبحاثنا الإبداع المرجو فإن نشرها بغير لغتنا يحرم باحثينا من أكبر وأشرف نجاحاتهم وهو إعجاب أهلهم وأبناء وطنهم بهم، وهو حرمان يقودهم إلى وهم الإحساس بالغربة وهاجس الضيق بالوطن الذي لا يقدر علماءه ثم الحديث عن عجز اللغة عن استيعاب نشاطهم.
والحق أن القول بمحدودية تأثير النشر العلمي بالعربية يعبر بهذه الدرجة أو تلك عن رؤية فكرية لا تستوعب الدور الاجتماعي والسياسي للعلم وهو الدور الذي يكون أقدر عليه كلما كان في متناول أوسع الجماهير مضيئا طريقها محررا إياها من الأوهام.. ذلك لأن هذا القول يتجاهل العديد من الحقائق العلمية نفسها : فلو عدنا إلى تقاليد البحث العلمي وتبادل المنشورات العلمية وتداولها لاتضح لنا أن تلك الرؤية تتجاهل دون عذر مقبول، حقيقة التطور العاصف الذي يشهده عصرنا في تبادل المعلومات والذي أرسى تقليدا علميا معروفا هو أن يرفق كل بحث علمي ينشر بلغة الباحث بخلاصة وافية لنتائج وطرق البحث وأهدافه بلغة ثانية وبعضها بلغتين. وغالبا ما تكون الإنجليزية هي المعتمدة في هذا المجال حيث تتيح لأوسع عدد من العلماء الذين لا يتحدثون لغة البحث فرصة طلب النص الكامل إن لم تسعفهم خلاصته ثم ترجمته إلى لغتهم. وهناك مراكز علمية متخصصة تستخدم أحدث الأجهزة الإلكترونية في الترجمة والاستنساخ... ويعرف كل أساتذتنا وباحثونا ذلك جيدا، ولاشك في أن العديد منهم قد فعلوا الشيء نفسه في طلب أبحاث ألمانية أو يابانية أو روسية أو صينية دون إحساس بتعقيد أو صعوبة، فلماذا لا يفعل الآخرون معنا أيضا ؟ أو بالأحرى لماذا لا ندعهم يفعلون ذلك معنا ؟ ليس ذلك مجرد إحساس بالغبن، لا، وإنما إحساس بالمرارة لإهدارنا الفرص التي يتيحها لنا التطور الحديث في تدفق المعلومات لأن ننشر علومنا بلغتنا دون أن ننعزل عن العالم أبدا، بل ويتيح للغتنا الانتشار في إطار من الاحترام نكسب منه على صعيد قومي وعلى صعيد شخصي أيضا.
إن مجرد وجود تلك السلسلة العملاقة لمستخلصات الأبحاث البيولوجية والأبحاث الكيماوية بل ولخلاصات أبحاث الفروع المتخصصة كأبحاث علوم التربة وغيرها من العلوم حيث تقوم بنشر خلاصات الأبحاث المتعلقة باهتماماتها المنشورة في جميع اللغات واعتمادها علميا كمفاتيح أساسية للبحث عن المعلومات والمصادر. إن وجود تلك السلاسل وتواترها رد حاسم على ادعاءات محدودية النشر باللغات المحلية.
ثم إذا كنا ندعي محدودية النشر العلمي بالعربية، وهناك أكثر من 100 مليون ينطقونها، وأن هناك جامعات ومراكز علمية مرموقة في 20 بلدا عربيا يتكلمون ويتعلمون هذه اللغة، وأن مؤسسات عالمية تعتبرها لغة رسمية لها كمنظمة الغذاء والزراعة الدولية ومنظمة العمل الدولية، فماذا يقول الباحث التايلندي حين ينشر بحثه باللغة التايلندية ؟ نعم، لقد أطلعت على نسخة من خلاصة إنجليزية لرسالة جامعية باللغة التايلندية ناهيك عن أن دولا تدرس وتنشر العلم بلغاتها دون أن تعتبر تلك اللغات لغات عالمية غير أنها تحقق نجاحات علمية ليست موضع شك كالهند التي تنطق 14 لغة رسمية وهي اليوم من الدول المتقدمة فعلا في ميدان النشر العلمي حيث تصدر فيها مجلات علمية متخصصة في كافة العلوم وبعدة لغات! وبعضها في ولايات الهند المتعددة وباسمها وبلغتها!!
وعليه، فإذا كان الهرب من مسؤولية نشر العلم باللغة القومية تحت ستار المحدودية يتعكز على حجة ملاحقة العصر والإسهام في علومه، فإن أكبر ثغرة في هذا المنطق هو تجاهل إمكانيات العصر نفسه، في نقل المعلومات الذي يسمى الآن عصر انفجار المعلومات، وتجاهل للإمكانيات التي تتيح للآخرين أيضا أن يطلوا علينا وقتما يشاؤون ويحتاجون، غير أنهم سيحتاجوننا فقط عندما يكون لدينا شيء ذا بال.
ج- أما القول بقلة منابر النشر العلمي العربية فتلك نتيجة قبل أن تكون سببا، فما زالت القاعدة بالنسبة للكثيرين أن ينشروا أبحاثهم بلغات أجنبية ! وبعض صور تلك القاعدة أن العديد من المجلات العلمية التي تصدرها بعض كلياتنا وبعض جامعاتنا تصدر بلغات أجنبية إنجليزية أو فرنسية. وهنا لابد من الإشارة إلى حقيقة أخرى هي تردد أو إحجام الكثيرين من أساتذتنا وباحثينا عن نشر أبحاثهم العلمية مما يشير إلى السبب الحقيقي ليس الهرب من محدودية اللغة العربية وإنما هو ذلك التوجه إلى الهيئات العلمية الأجنبية فيما يشبه نوعا من عقدة الأجنبي الأقوى الذي لابد من الفوز برضاه وتزكيته ولسوء الحظ تعزز بعض الدوائر العلمية من ذلك التوجه حين تقصر مكافآتها على الأبحاث المنشورة في الخارج !!
د- وهناك من يفسر قلة منابر النشر العلمي بفقر الإمكانيات الطباعية الضرورية للنشر العلمي وهو عائق جدي ولكنه لا يستدعي التهرب منه. وإنما يتطلب بإلحاح أن نناقشه وأن نبلور سبل تذليله، يتطلب دراسة أفضل سبل الاستفادة من التطور التقني في الطباعة وعرض البيانات، يتطلب ترشيد وزيادة كفاءة ما أصابته بلادنا من تطور في هذا المجال نفسه. إن نظرة إلى أية مجلة علمية مرموقة توضح لنا أن هذا التقدم العالمي في تكنولوجيا الطباعة وعرض البيانات مؤهل لأن يكون حافزا لنا للاستفادة منه في إغناء حركة النشر العلمي بلغتنا لا أن يشعرنا بالتخلف أو العجز.
ه- أما صعوبة تعريب بعض المصطلحات العلمية، فهي صعوبة تلقي على علمائنا البارزين بالذات مسؤولية خاصة، فلاشك أن تحديد المرادف العربي الدقيق للمصطلح يعتمد بالأساس على الإلمام المقتدر بدلالته.. الإلمام بأبعاد المصطلح العلمية وعلاقاته بغيره من المصطلحات. وملائمته للتعبير عن حالات أو طرق معينة وهو ما لا يتوفر إلا للمتضعلين في العلم موضوع البحث. فإذا امتلكوا ناصية اللغة العربية فسيجدوا بحورها اللفظية الواسعة وقدراتها الاشتقاقية وأبنيتها مؤهلة لاستيعاب التعبير عن دلالات تلك المصطلحات... فمن يفكر بوضوح سيعبر بوضوح، وفي هذا الباب لابد من الإشارة إلى الجهود الهائلة التي بذلتها مجامع اللغة العربية في القاهرة ودمشق وفي بعض العواصم العربية الأخرى لتعريب آلاف المصطلحات والكلمات العلمية، إذ أنها تقوم بتعريب ما لا يقل عن مليون مصطلح علمي سنويا، حسبما يذكر عبد المنعم محمد جاسم في مجلة الدوحة القطرية عدد 44، وهو رقم إذا صح، هائل ويثير من التساؤلات الكثير. فماذا صنعنا بهذه المصطلحات ؟ ولماذا لم تنعكس خيرا على حركة النشر العلمي والكتابة العلمية بالعربية ؟ وأية وسائل اعتمدت في تعميم تلك المصطلحات المعربة أو حتى مجرد التعريف بها ؟... وثانيا، لماذا لم تنعكس هذه الجهود على حركة التعريب العلمي ؟ أيكون ذلك لصعوبة في قبول المصطلح المعرب إذ ليس معقولا أن تترجم كلمة بخمس أو ست كلمات !!
أقول، لابد من استثمار تلك الجهود وتطوير سبل الاستفادة منها وإغنائها على ضوء أسس واضحة كتلك التي أشار إليها الأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي :
أن يكون المصطلح من الألفاظ التي لا تنصرف معانيها إلى مدلولات كثيرة.
أن يكون المصطلح من الألفاظ السهلة اليسيرة في بنائها من حيث الأصوات.
أن تكون بسيطة لا مركبة قدر الإمكان وبذلك يستغنى ما أمكن عن الألفاظ المنحوتة والألفاظ المضافة.
أن يكون المصطلح من الألفاظ المعروفة فلا يلجأ إلى الغريب إلا عند الضرورة في حالة أن اللفظ الغريب كان مصطلحا قديما معروفا للفني ذاته.
أن يكون المصطلح قائما على المادة المرادة فلا يشترك فيه موضوع آخر.
يتجنب المعرب عند اختيار المصطلح ويفضل عليه الكلم العربي.
ومع ذلك فاستعمال بعض المصطلحات دون تعريب على الأمد القصير لا أحسبه يؤثر جديا على التعبير باللغة العربية عن موضوع أو نقطة معينين. وإن كان في ذلك من ضير فليكن حافزا للمتخصصين لأن ينهضوا بمهمة وضع المقابل العربي المناسب، علما أن اللغة العربية جابهت مثل هذه المشكلة من قبل واستوعبت العديد من الكلمات والتراكيب الدخيلة ولعل ذلك الاستيعاب نفسه وما أدخله من مفردات يدعونا إلى الأخذ بنظر الاعتبار تلك الكلمات الغريبة التي أصبحت من مفردات حياتنا اليومية واضحة المعالم والدلالات والاستعمال.
على أن البحث في وضع وتعريب المصطلحات دون استمرار الترجمة للمواد العلمية لن يكون بحثا مثيرا إذ لابد أن تمتحن المصطلحات بالتطبيق ومعطياته ولابد لذلك البحث أن يغتني بما تتطلبه الترجمة من مراجعة وتجديد للبحث. ومن هنا سنحاول معالجة بعض جوانب الترجمة العالمية إلى العربية.
فترجمة المراجع العلمية إلى العربية تبدو في عديد من الوجوه إحدى المفاتيح المفضية لإرساء قواعد النشر العلمي العربي ولتطويره خاصة إذا اختيرت المواد المترجمة بعد دراسة لقيمتها ومنهجها لاسيما الكتب الجامعية. ولعل توفير المصادر العلمية بلغتنا حافز لمناقشتها وعرضها والتعليق عليها، إضافة لما توفره من ثروة تكنيكية للتطبيق.
ولتنشيط الترجمة في الميدان العلمي مع توفير الصلة الدائمة بالتطور العلمي يبدو لي أن إصدار مجلة علمية عربية للاستعراض العلمي مهمة ملحة وممكنة ومفيدة من أكثر من ناحية أعني مجلة تعني بنشر عروض موسعة للمصادر في كل الموضوعات البارزة في كل العلوم حيث تقسم المجلة إلى أبواب وأقسام فباب الطب مثلا يتضمن فروعه المختلفة وكذا الحال في أبواب الكيمياء والفيزياء وأبواب العلوم الهندسية والزراعية...إلخ والمجلة المقترحة هذه تصغير وتجميع لمجلات العروض العلمية المتخصصة كمجلة العروض البكترولوجية Bacteriological Reviews مثلا حيث يتناول العرض الواحد نتائج الأبحاث التي تناولتها وتطور دروس دراستها بالرجوع إلى أكثر ما يمكن من مصادر. ففي ذلك كسب على صعيدين :
نقل المادة العلمية المعاصرة وتوفير مرجع عربي لها أو على الأقل توفير المفاتيح الأساسية الموصلة لها.
تطوير الترجمة العلمية بالاستمرار والحداثة والمعاصرة.
ولعل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي أو مؤسسة البحث العلمي هي الجهة المؤهلة لإصدار المجلة المشار إليها، وهي قادرة على تأليف مجلس إدارة لهذه المجلة يمثل الجامعات ومؤسسة البحث العلمي لتوزيع مسؤولياتها وتسمية هيئة تحريرها بما يحقق لها الشمول ودقة المتابعة.
وأعتقد أن مجلة كهذه ستكون وسيلة فعالة لنشر استعراض المصادر لأغلب الرسائل العلمية الجامعية بما يحقق لتلك الرسائل وأفكارها الانتشار والمساهمة في رفد الحركة العلمية وعموم الحركة الثقافية وخاصة تلك الرسائل الموضوعة باللغة الإنجليزية، كما أنها ستحفز الباحثين الأساتذة على المزيد من تتبع المصادر العلمية الحديثة لاسيما إذا جرى تكليفهم بإعداد عروض لقضايا علمية محددة. وهنا تجدر الإشارة إلى بعض القيود التي يضعها الأساتذة على الكتابة العلمية باللغة العربية، فهم يؤكدون على اختلاف يرونه كبيرا بين اللغة العلمية ولغة الأدب، وتحت هذا التأكيد الذي بلغ حد التهويل أحيانا يقصرون التعبير العلمي العربي على جمل محددة بكلمات معينة تجعلها تكرارا ثقيلا على طول المادة المنشورة وعرضها. حقا إن العلوم تحتاج التحديد لا التورية وتحتاج النبرة المحايدة، لا الملتحمة، وتحتاج مباشرة الموضوع من صميمه الاستطرادات والاستعارات والإطناب في هوامش جانبية، ولكنها أيضا تحتاج قوة الحجة، ووضوح البرهان ومتانة البناء المكلف بإيضاح النتائج ! ومن هنا يبدو غريبا تطير بعضهم من الجمل التي يكون للبلاغة العربية نصيب ظاهر. إنهم يريدونها جملا جافة تتكرر فيها كلمات (ازداد) أو ارتفع (حين تنمو النتائج نحو الأعلى، وكلمات (قل) أو (انخفض) حين تهبط، ومفككة تتعطل عنها الأسماء الموصولة والضمائر وأدوات الربط، وتغيب عنها استعمالات لغوية عديدة، كواو المعية، أو الجمل الخبرية المقدمة.. يتكرر فيها، وبينها تعبير (وجد فلان) و(لقد درس فلان كذا فوجد كذا)، أما محاولات صب الموضوع في قالب بلاغي تتيحه العربية فيعلقون عليها بابتسامة الكبرياء أو المكابرة (تذكر أنك لا تكتب أدبا !).
ولعل ذلك بعض ما يفسر غياب الأسلوب الخاص بصاحبه في الكتابة العلمية عندنا، ذلك لأن هناك من يطالبك أن تحتد له وفق أية طريقة، أو كما يعبر عنها هو وفق أي Style تكتب ؟ أهي طريقة الكتابة الإنجليزية أم الأمريكية أم.. ؟ أجل، وكأن العربية عاجزة عن أن تتيح الأسلوب الكفء للكتابة بها !!
لذلك ولكي تكون المجلة التي أقترحها هنا وكذلك سائر الترجمات والكتابات العلمية أكثر إسهاما في تطورنا العلمي، لابد من أن نتحرر من قبل ذلك الجمود في عرض المادة العلمية ولابد أن نتذكر دائما إمكانيات اللغة التي نكتب بها لا أن نقسمها تعسفيا إلى لغة علمية وأخرى أدبية. فالمهم أن تحظى من المادة بأكبر قسط من الوضوح والدقة والجمال أيضا.. لاسيما حين تكوين صورة شاملة إن لم تكن متكاملة، عن الموضوع وتطوراته وزوايا النظر إليه وهو ما تهدف إليه الاستعراضات العلمية.
وإذ أطرح إصدار هذه المجلة للنقاش أجد مناسبا أن أشير إلى أن مؤسسات النشر العلمي وكبار الباحثين يعيرون للعروض العلمية المتخصصة اهتماما كبيرا لذا صدرت وتصدر كتب عديدة كبيرة الحجم والمحتوى وهي تستعرض أبحاث موضوع واحد من زواياه العديدة حيث يعد الواحد منها مفتاحا ومرجعا لا غنى عنه لمن يبحث في ذلك الموضوع، إضافة لقيمته العلمية كنتائج وأحكام ووجهات نظر تضيء وتفسر دواخل القضية موضوع البحث. يكمل دور هذه المجلة ضرورة ترجمة وقائع وأبحاث المؤتمرات العلمية العالمية التي لابد من تكثيف حضورنا فيها والكف عن النظر لمن يطرح حضورها نظرتنا لمن يحتال للتنزه على حساب الدولة !
لحد الآن، طالت بنا الوقفة، عند النشر العلمي دون تدريس العلوم بالعربية، وهو ما عمدت إليه لاعتقادي بأن تنظيم وتطوير التعليم والنشر العلمي العربي سيدفع بعملية تدريس العلوم عندنا قفزا. لأنه سيتصدى لأهم المعوقات وأكثرها جدية وهي توفير المصدر العلمي.
والحق أن تدريس العلوم في جامعتنا لا نحسد عليه فهو يعرض حائرا بين إلقاء المحاضرة باللغة العربية –على افتراض تجاهلنا للرطانة الأجنبية التي تغلب على نصف المحاضرة تقريبا- وبين الاعتماد على مصادر باللغة الإنجليزية أو الفرنسية. أما المحصلة فهي هروب الطالب –وتلك مسألة ليست غريبة- من صعوبة المصدر إلى المحاضرة (العربية) على فقرها وعدم تبويبها وحتى عدم وضوحها، خصوصا بالنسبة لمن لا يحسن التقاط المحاضرة من الأستاذ وبذا نصل إلى محصلة أشد إيلاما وهي ضآلة الكسب العلمي وهشاشته، مع (اتفاق) غير معلن –بل يكاد يكون للتواطؤ أقرب- على تجنب المناقشة العميقة قدر الإمكان لاسيما وأن المادة تسعف الطالب المناقش لو أراد المناقشة بعكس الحال لو توفر له مدد علمي يرجع إليه وهو قادر على استيعابه أو حتى على تأمل معطياته للاستفسار عنها.
حقا، إن طريقة التدريس المتبعة وقدرات الأستاذ وفلسفته في الحياة عوامل مؤثرة في تحديد نوع وحجم المحصلة النهائية وفي مدى تفاعل الطلبة معها، ولكن ليس بدون مغزى أن تزداد محصلة المواد التي تتوفر لها المراجع العربية في كل الكليات.
وعلى ذلك، فلن يأخذ التعريب مداه ودوره المؤثر دون اقتران المحاضرة العربية بمرجع عربي أو معرب، على ألا يعني ذلك بأية حال انصرافا عن المراجع غير العربية، بل لابد من تنظيم الرجوع إليها وتيسر الإفادة منها بكل السبل وهو ما يتطلب نقلة نوعية في تدريس اللغات الأجنبية في الجامعة خاصة. والتمكين من السير في دروبها بثقة المبهر لا بتردد البصير على جسر من جذع شجرة كما هو حال معظم طلابنا مع المراجع الإنجليزية أو الفرنسية، أو على مفارق المجلات العلمية الأجنبية.
أما "القناعة" بتعريب المحاضرات دون المصادر فإنه في الحقيقة مجرد وهم أشد ما يكون خطورة إذا ما اعتبرناه تعريبا للتعليم. فليس التعليم الجامعي محض إصغاء وحفظ للمحاضرات بل هو بحث دائب في آفاق المادة العلمية استيعابا لها وتأسيسا عليها وصولا إلى تكوين رؤية ومنهج في التعامل مع المشكلات. وبغير ذلك لا تنطق المحاضرات المحفوظة بجواب عندما يقف الخريج على أرض الواقع في قلب القضية لدا يلجأ لاهثا إلى روتين الوظيفة يستر به عجزه عن مواجهة معضلات الإنتاج العملية، وهذا بعض ما نعاني منه، وجامعاتنا تدفع بالموظفين أكثر مما تصنع من كوادر مقتدرة !
ليست تلك دعوة لتأجيل عملية التعريب بانتظار توفير المصادر، بل هي دعوة للإسراع في استكمال العملية، ولسد نواقصها التي يتعكز عليها معارضوها لتبرير تأخيرها، إذ لابد من الاعتراف بتلكؤ ظاهر في هذا المجال –ربما لأن بعض معارضي التعريب أو غير المؤمنين به أنفسهم يقولون تنفيذ بعض مستلزماته ويا للمفارقة- ! وهو تلكؤ ليس في مصلحة تقدمنا العلمي في شيء. فتاريخنا العلمي يحدثنا عن أن دار الحكمة على عهد المأمون في حركة نقل العلوم والفلسفة إلى العربية كان في أساس ازدهار العلوم والثقافة العربية ورسوخ النشر العلمي العربي.
أجل، إن دعم المبادرات الفردية وهو الملاحظ حاليا، أمر حسن ولكن الأحسن منه أن تتفاعل تلك المبادرات ضمن خطة مبرمجة بما يخدم مرحلة تطورنا الاجتماعي ويتماشى مع التطور العلمي العالمي فيكون توفر المصدر العلمي العربي لا إشاعة للعلم وترسيخا للتعريب فقط وإنما مساهمة في تطوير المناهج العلمية بنحو ما يستجيب لتلك التطلعات أي أن جهد التعريب سيضاف إليه جهد اختيار المادة المعربة، ولكن ذلك وحده الكفيل بإنضاج ثمار طيبة.
وأيا كانت الكتب التي سيتقرر تعريبها لابد أن نهتم بتعريب التقارير المعدة من قبل الهيئات الدولية أو الخبراء الأجانب، كتقارير اليونسكو ومنظمة الغذاء والزراعة الدولية خاصة تلك التي لها صلة بقضايا العلوم وتطبيقاتها، مستفيدين في هذا المسعى من اعتبار اللغة العربية إحدى اللغات الرسمية لتلك الهيئات.
وعلى ذلك السبيل، من الضروري إعارة المجلات العلمية المتخصصة اهتماما خاصا في عمليتي التعريب والتدريس، كأن تتابعها هيئة من المتخصصين تصدر عنها نشرة أو مجلة دورية بأهم الأبحاث المعربة. وإذا كان ذلك ممكنا كما نراه في مجلات عديدة (للآداب الأجنبية) مثلا، إضافة إلى الدراسات الأدبية المترجمة هنا وهناك فإنه ممكن أيضا في العلوم ولا يقل ضرورة عن ضرورته في الآداب والفكر.
وهكذا... سيوضح تأمل كل الموضوع ثانية وثالثة أبعاده الأخرى، ولكنه يشير عموما إلى مهمة ضخمة ومتشعبة ومستديمة بحيث يكون إنشاء مؤسسة أو دار للنشر العلمي لا يمكن الاستغناء عنه أو انتظاره طويلا... ولذا فاقتراحه هنا إشارة إلى حاجة قائمة وستكون أكثر إلحاحا يوما بعد يوم.
وخلال كل تلك الخطى وعبر كل تلك الملاحظات تمتد ملاحظة هي الحاجة إلى علماء متخصصين للنهوض بالمهمة أكثر من حاجتنا في ميدان الآداب والفنون، لاسيما بالنسبة للعلوم الصرفة، وحيث أن المهمة كبيرة ومتسعة ودائمة أبدا لابد من معالجة الهدر الحاصل في قدراتنا الآن وهو هدر يعوق نهوضنا بالكثير من المهام العلمية والتعريب إحداها.. مما يطرح ضرورة التصدي له بروح الإحساس المرهف بالمسؤولية الوطنية والاجتماعية بالاستناد إلى كل القدرات والطاقات الوطنية ودعوتها وتمكينها لمنح الوطن حقه الذي له عليها، وبإسراع في توزيع مسؤوليات التخطيط والتنفيذ لهذه المهمة الكبرى على كل المؤهلين كل حسب قدرته وفي ميدانه، ولابد من نظرة جديدة في قضية اجتذاب كفاءاتنا العلمية المهاجرة تتجاوز الجانب المادي إلى التأكيد في شمولية متوازنة على حرية الفكر وتوفير أجواء البحث العلمي وترسيخ التقاليد العلمية وتوظيف الإجراءات الإدارية والمالية لضمان تلك الحرية والأجواء والتقاليد، فهذا هو الإغراء الحقيقي للعالم... يقينا أن لدى أساتذتنا أكثر وأعمق من ملاحظاتي هذه التي إن كانت قادرة على تحفيز تلك الملاحظات على الظهور فستكون قد أدت أهم أهدافها.
المراجع
الدكتور يسري خميس : "اللغة العربية لغة للعلم"، مجلة آفاق عربية، 1977.
الدكتور صلاح الدين المنجد : "الحياة الجنسية عند العرب"، بيروت.
د.إبراهيم السامرائي : "مقدمة في تاريخ العربية"، 1979.
عبد المنعم محمد جاسم : "لغة الضاد لغة العصر والأدب والبيان"، مجلة الدوحة، عدد 44، 1979.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.