باحث في علم الأخلاق الرياضي مؤلف كتاب"الأخلاق بين المفهوم والممارسة..التربية البدنية والرياضة نموذجا" [email protected] إن المتأمل لتاريخ البحث العلمي في المجال الرياضي سيقف على حقيقة مفادها أن البحث العلمي كان دائما محكوما بسقف إبستيمي (معرفي) محدد، السقف الإبستيمي الأول كان محددا في الإطار التقني والبدني والتكتيكي ، فكانت جل الأبحاث العلمية التي أُنتجت من نظريات و مفاهيم ومقاربات تمت تحت هذا الإطار المعرفي العام(الإطار التقني والبدني والتكتيكي)،ثم بعد ذلك ظهر سقف إبستيمي آخر تجلى في الإطار النفسي والذهني، فكانت الأبحاث العلمية كذلك محكومة بهذا السقف المعرفي، وأما الإطار المعرفي الحالي تمثل في الإطار الأخلاقي ، وهذا هو الرهان الآني للبحث العلمي في مجال الرياضة صنف البحث الفكري الرياضي، من هنا كانت مجموعة من الإشكاليات تفرض نفسها بقوة أمام الباحثين ومنها: هل يمكن تلقين القيم الأخلاقية للرياضيين من خلال الأنشطة الرياضية؟ ما هي القيم الأخلاقية المراد تلقينها للرياضيين؟ على أي أساس مرجعي سيتم تحديد هذه المفاهيم الأخلاقية؟ كيف يمكن تلقين القيم الأخلاقية للرياضيين من خلال الأنشطة الرياضية الفردية والجماعية؟ كيف يمكن برمجة القيم الأخلاقية إلى جانب البرامج التقنية، البدنية، التكتيكية،والنفسية في الحصص التدريبية؟ كيف يمكن اختيار هذه القيم على أساس أن تتناسب مع الطبيعة النفسية والسلوكية للرياضيين (فئة البراعم، فئة الصغار، فئة الفتيان، فئة الشبان، وفئة الكبار) وعلى أن تكون منسجمة مع الاستحقاقات الرياضية المنتظرة؟ كل هذه الأسئلة وغيرها أصبحت تفرض نفسها بقوة أمام خبراء الفكر الرياضي ،إذ أن النشاط الرياضي أصبح وسيلة ضرورية لمعالجة الوضعية الأخلاقية والقيمية للرياضيين، وكذلك مصدرا لإشباع حاجياتهم الأخلاقية. ولبيان ذلك فلابد أن نقف أولا على حقيقة علم الأخلاق أو فلسفة القيم من حيث المفهوم ومن حيث التطور الكرونولوجي، فعلم الأخلاق اهتم بدراسة السلوك الإنساني من حيث منابعه ودوافعه وغاياته، وبتحديد القيم والقواعد الأخلاقية التي يجب مراعاتها في السلوك، كما يدرس وسائل الإلزام والالتزام بالسلوك الخير، فالفكر الإنساني انشغل منذ الأزمنة الأولى بموضوع القيم والأخلاق، وكانت بداية هذا الاهتمام مع الفكر الإغريقي، فمنذ الفلسفة اليونانية وإلى حدود اليوم مرَ الفكر الفلسفي الأخلاقي عبر ثلاث محطات متتالية وهي : الأخلاق المعيارية، ما وراء الأخلاق ثم الأخلاق التطبيقية، فمرحلة الأخلاق المعيارية كان مدار النقاش فيها حول المعايير التي من خلالها يمكن أن نميز بين الخلق الحسن والخلق السيء، بين الفضيلة والرذيلة، بين الجميل والقبيح، ومن رواد هذه المدرسة المعيارية نجد أرسطو وإيمانويل كانط. فمن تحديد معايير السلوك والفعل إلى تحديد المفاهيم والمصطلحات الأخلاقية انطلاقا من البنية اللسانية للمصطلح الأخلاقي، وهذا ما يُعرف عند الفلسفة الوضعية بما وراء الأخلاق، فالوضعيين اهتموا بدراسة المصطلح الأخلاقي في علاقته بالواقع مبتعدين بذلك عن كل دراسة ميتافيزيقية للأخلاق، فقبل الحديث عن الواجب أو الخير يجب أن نحدد أولا مفهوم ودلالة الواجب أو الخير، فالفلسفة الأخلاقية مع الوضعيين ترتكزوا أساسا على دراسة المفاهيم الأخلاقية، ومن أبرز رواد الفلسفة الوضعية نجد آير الذي نص على أن موضوع الفلسفة الأخلاقية يجب أن يرتبط أولا وأخيرا بتحديد المفاهيم الأخلاقية، وكذلك جورج مور الذي اعتبر أن أول ما يجب أن تنطلق منه الفلسفة الأخلاقية الجديدة ( ما وراء الأخلاق) هي البداية من تحديد مفهوم الخير، وبعد الإجابة عن هذا الإشكال الأخلاقي يمكن آنذاك للفلاسفة أن ينطلقوا للإشكال التالي: وهو تحديد السلوكات التي تندرج داخل دائرة الخير، فمرحلة ما وراء الأخلاق تمت معها نقلة نوعية للفلسفة الأخلاقية. وأخيرا محطة الأخلاقيات التطبيقية، فنتيجة للمشاكل التي خلفها هذا التطور المهول في الصناعة والتكنولوجيا ظهرت تيارات أخلاقية تنادي بضرورة وضع ضوابط أخلاقية لكل المهن والتخصصات، فظهرت سنة 1971 م البيوإثيقا مع بوتر رينسلار وهي عبارة عن مجموعة من الضوابط الأخلاقية التي تُنظم مهنة الطب والبيولوجيا، فكانت البداية لظهور سقف إبستيمي جديد في علم الأخلاق، ، ثم تناسلت مجموعة من الأخلاقيات كأخلاقيات المقاولة، أخلاقيات الصحافة، أخلاقيات السياسة، وأخلاقيات الرياضة..، فإلى جانب العقل الأخلاقي الانساني الذي أنتج هذه النظريات والمفاهيم الغنية بالقيم الكونية، نجد ثقافتنا الاسلامية غزيرة هي الأخرى بالقيم و الأخلاق الانسانية، فيكفي أن نقف على أن الدعوة التي حملتها كل الرسالات السماوية هي دعوة أخلاقية بامتياز وهذا ما يُجليه الحديث النبوي الصحيح "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق"، فالنبي (ص) ما جاء إلا ليصحح خلق الإنسان عندما انحرف و انحط فمهمته عليه السلام هو تعليم و تدريب الناس على تكلف الخلق حتى يصير فيهم طبيعة فقد قال عليه الصلاة و السلام " إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم"، فبناء على ما سبق يتضح أن هناك علمين (علم الأخلاق الاسلامية وعلم الأخلاق الرياضي) لزم على المربي الرياضي أن يتزود منهما لكي تكون ممارسته التربوية تلقى إلى مستوى الاحترافية والعلمية، كيف يعقل أن المربي الرياضي يفتقر إلى مقاربة أخلاقية محددة و واضحة، يتزود من خلالها بالقيم الضرورية المراد تلقينها للطفل الرياضي، فالاحترافية تقتضي ألا يكون تلقين القيم مبني على الارتجال والتلقائية، بل على المربي الرياضي أن يتسلح بعلم الأخلاق مما يُخول له القدرة على أن يمارس دوره التربوي إلى جانب دوره الرياضي، فالرهان الرياضي لم يعد يقتصر على التكوين التقني والبدني والتكتيكي فقط بل أصبح يستدعي بشكل قوي علم الأخلاق الرياضي لكي يكون إلى جانب هذه المكونات الفنية، وأن تُحدد الحاجيات الأخلاقية لكل فئة عمرية (فئة الصغار، فئة الفتيان، فئة الشبان، وفئة الكبار)، فحضور المقاربة الأخلاقية في البرامج التدريبية للمدربين كفيلة بأن تزيل كل الظواهر اللاأخلاقية التي أصبحت ملاعبنا مرتعا لها. ومجمل القول أن المربي الرياضي بحاجة إلى تكوين في علم الأخلاق كحاجته إلى علم الفيزيولوجيا وعلم النفس الرياضي لكي يرقى إلى درجة التكوين الاحترافي، وهو مطالب بأن يكون للقيم والأخلاق نصيب في برامجه التدريبية وذلك حسب ما تقتضيه الحاجيات الأخلاقية لكل فئة عمرية، وألا تُأخذ التربية الأخلاقية بمنطق الارتجال والعشوائية في زمن أصبحت العلمية شعارا لكل تنمية ، فالنهضة الرياضية أصبحت مشروطة بما مدى حضور القيم والأخلاق في التخطيط الرياضي ، وإذا كان يجب تحقيق حكامة جيدة يستلزم استحضار جوانب تقنية متعددة ، فإن الجانب الأخلاقي هو الركن الأساسي فيها والورقة الرابحة التي يجب المراهنة عليها ، لأن القيم الأخلاقية هي معيار قياس الرقي الحضاري لدى الأمم كما جاء على لسان أمير الشعراء أحمد شوقي"إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا".