أنقذونا من هذا الكم من الحماية والحماة، أنقذونا من هذا الركام من التنميط والتحنيط، فأي أقفاص هذه التي تعملون جاهدين دون كلل أو ملل على أن تسجنوننا داخلها وأي قيود تسعون إلى تكبيلنا بها ؟ عفوا فإنسانيتنا لا تتسع لها أي إطارات وكينونتنا أكبر من أي حدود ترسمونها ومن أي جدران تشيّدونها. نحن لم نعد شعوبا قاصرة بما فيه الكفاية كي تنصبوا أنفسكم أولياء علينا وكي ترسموا لنا حدودكم وتغرسوا فينا أسلاككم الشائكة وتثبتوا علينا متاريسكم وايديولوجياتكم، من أجل حمايتنا وصوننا من كل ما هو غير مناسب لنمط عيشكم ولإجاباتكم الجاهزة أو حتى لأذواقكم، فالشعوب لا تتنفس إلا حيث توجد الحرية والحياة. يبدو أن هناك حرص شديد ومبالغ فيه حتى أنه تحول لأصحابه إلى هواجس من أجل حمايتنا وصوننا بل وحفضنا من كل ما لا يليق ببواطن أنفسنا حسب معاييرهم وضوابطهم هكذا يعملون على: حمايتنا حتى لا نتشبه بالنصارى الكفرة وحفضنا من كل ما هو وثني وتحصيننا من كل الأبواب التي قد يتسرب منها الشيطان إلى دواخلنا، كالاحتفالات والأفراح في المناسبات غير "الإسلامية" والغناء والرقص والسينما والمسرح والرسم والنحت…أي حرماننا من كل ما قد يوحي إلى عمقنا الإنساني المناقض لقواعدهم وأحكامهم. فلا الاحتفالات برأس السنة الميلادية تناسبهم ولا الاحتفالات برأس السنة الأمازيغية أو الفلاحية تأتي على هواهم والمهرجانات والأفراح كلها تعكر صفوتهم. حتى دولة فرنسا الاستعمارية احتلتنا واستعمرتنا بدعوى وتحت ذريعة حمايتنا، وإلى حدود الساعة لا أدري من ماذا ومن من حمتنا فرنسا ؟ ففي معاكستهم للعصر يعمل الدعاة والوعاظ التدجينين بإصرار وبشكل حثيث على استحضار كمًا هائلا من الممنوعات والحدود والسياجات والبرامج للترويض على التنميط ولتدجين الطبيعة الحيوية والمرحة في الإنسان، في الوقت الذي تعمل فيه البشرية بجميع الطرق على إزالة أقصى ما يمكن من هذه الحدود سواء المرئية أو اللامرئية والإنتماء إلى كل ما هو حرية وحياة. تحت يافطة المقدس الديني وتحت ذريعة حراسة الهوية النقية للأمة وعلى خلفية اجتثاث بقايا الوثنية وقيم الجاهلية من المجتمعات العصرية، تتحرك جحافل من حراس المِلّة تدربوا على خطاب المنع والتحريم والدعوة إلى كل ما يوحي على الموت والنهايات، تراهم كما لو أنهم ثقوب سوداء يبتلعون كل ما هو نور وكل ما هو حي وحياة وجمال وبهجة وسرور وينفثون كل ما هو عدم وظلام وكراهية وقبح. هكذا يعادون كل ما هو فن: مسرح، سنيما، رسم، نحت، موسيقى ورقص ويعملون جاهدين على تحويل العديد من الأفراح والأعراس إلى ما يشبه المآتم والعزاء. كما يرفعون لاآتهم التي تصل حد التجهيل (من الجاهلية) والتكفير للمجتمع ولكل من لم يصطف وراء دعواتهم العدمية. هكذا فهم مكلفون بحماية إيمان المسلمين حتى لا يتعرض لأي اهتزاز وكذلك بتطهيره من كل الشوائب التي قد تعكر صفوة إيمانهم كما هم المسؤولون على تحصينه كي لا يدخل الشيطان عبر هذه الممارسات وعبر هذا الغناء إلى أعماق الناس ويعمل على زعزعة إيمانهم وإفساد عقيدتهم بل تقويض فطرتهم التي فطرهم بها الله. يبدو أن هناك عدميتان: العدمية التي أعلن عن قدومها الفيلسوف الألماني نيتشه، أي التقويض والهدم الشامل لجميع القيم التي تأسست وقامت عليها الإنسانية. وأيضا العدمية التي ما فتئ يدعوا إليها ويمارسها رهط من الدعاة والوعاظ الجدد أي تنحية كل ما هو حي وحياة وجمال وأفراح مما راكمته البشرية عبر تاريخها. وحينما يحاربون ويحاصرون هذه الأنماط من الأنشطة والتعابير التي تفصح عن ماهية الإنسانية، فهم يحاصرون كل ما هو جميل في حياة الإنسان. هكذا يعملون على استدعاء جملة من الضوابط والمعايير قصد خنق ووأد هذه الأعمال الفنية، محورها هو: عدم تجاوز ما اعتبروه "ثوابت الأمة" من أخلاق وقيم وعادات وتقاليد. علينا أن نتساءل ما الذي يجعل هذا النمط من الخطاب الديني يجاور كل هذا الكم من المنع والتحريم ووضع الحدود والجدار لكل ما هو فن وفنون وحياة ؟ في العمق، هذا الركام من المنع هو موجه أساسا إلى حرية الإنسان التي تشكل الفزع والرهاب لهذه العقول المتحجرة والمنمطة. فضاءاتنا لا تخلو من ضجيج، فصوت الدعاة والوعاظ علا في كل وسائل الإعلام وراحوا يستعرضون ويقدمون نماذج وأنماط عيش لم تعد قابلة للسكن وللعيش أو حتى لأخذ قسط مما قل أو كثر مما هو صالح كي نتسلح به لمواجهة حاضر يعج بالإشكالات المستعصية أو لإيلاج مستقبل يعد بالكثرة من الجِدّة والمفاجآت. إن مؤسسة الفقيه الحديثة مازالت مصرة على صم آذانها عن أي تغيير يمس منظومتها الفكرية ولا تقترح في المقابل إلا ترديد واجترار نفس الدعوة التي ضاعت بين ثنايا واقع مرير والحنين إلى ماضي الأجداد الذي لم يعد صالحا للإستعمال وللحياة. الآلاف من الكتب والمجلدات والمجلات والأقراص المدمجة وأمول طائلة أهدرت وتهدر في الكلام والحديث عن مواضيع هامشية وسخيفة من قبيل: كبائر النساء، العجب العجاب في أشكال الحجاب وعن الطهارة وقضاء الحاجة…، فقه تائه في التفاصيل المملة وموغل في الجزئيات بشكل مكثف ويتغذى من كل ما هو هامشي حتى أصابته التخمة وأصبح مملا ومضجرا. هذا النمط من الفكر لم يعد له من مصداقية ولا من شرعية للوجود وللبقاء إلا الدعوة إلى نبد ورفض كل ما هو حي وحياة أو الدفع بالأجداد إلى الفضاء العمومي وإعادة تشغيلهم تحت أفق دولة الملة مع وهم استرجاع ما تبدد وضاع من أمجاد الأمة. هذا الفقه الكسول الذي راح يجهد نفسه لمعاكسة وتبخيس كل ما هو ليس ملائم لتفكيره وكل ما يقع خارج سياجاته، هكذا بعد رفضه وتحريضه للناس على عدم مباركة المسيحيين في أعيادهم راح يبحث عما يجعله يشكك في مصداقية تاريخ ولادة المسيح عليه السلام هكذا وجد ضالته في فهمه الخاص للآية القرآنية الواردة في سورة مريم. (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) واستنتج أن المسيح ولد في أيام الصيف حيث ينضج الرطب بدلا من أيام الشتاء المعلنة بشكل رسمي. هذا العقل الفقهي الكسول نسي نفسه باستحضاره "المنطق" في حقل المعجزات كما لو أنه يتحدث عن البابا أو القديس أو زعيم سياسي وليس عن نبي وهو "كلمة الله" وعن ولادة معجزة خارج الطبيعي والمألوف، ربما لو تساءل هذا العقل في إطار منطقه عن مدى قدرة امرأة نفساء على هز جدع نخلة أو حتى عن إمكانية تساقط التمر من النخلة عبر هز جدعها فالنخلة ليست كما هي شجرة المشمش مثلا. إن تحدي الحداثة والعولمة والاشكالات التي استحدثت مع التطورات الحاصلة على جميع الميادين شكلت ضغطا قويا على الفقه الإسلامي الحديث وجعلت الكثرة من فقاء الإسلام يتراجعون ويتوارون إلى الخلف ويرتعون في مراعي الهوامش ويقتاتون من كل ما هو حواشي. لذلك حجوا بكثرة إلى نصوص استنفذت مهامها ولم تعد تحدث أحدا من سكان هذا العصر. هكذا يسجل غيابهم عن كل ماله علاقة بقضايا الناس الأساسية وتقاعسهم على مسايرة الأحداث والتطورات الهائلة التي شهدتها وتشهدها الساحة الدولية. وبدلا من أن يشتغل هذا الفقه الإسلامي "المعاصر" على إشكالات من إفرازات الواقع المعاش، تراجع وانساق وراء الخوض في ظواهر ومشاكل وهمية يومية شكلية حد التفاهة من أصناف: (مصافحة الرجال للنساء أو أشكال الحجاب وتفاصيله وتقنياته (الجلباب أم النقاب أم البرقع) أو حف الشارب والعفو عن اللحية أو تحريم الموسيقى والصورة أو مضاجعة الموتى ونكاح القاصرات، تقنيات الوضوء، أسبقية اليمين وأفضليته على الشمال، السواك، الكحل، الأكل بثلاثة أصابع، كبائر النساء وعذاب القبر وإرضاع الكبير، كيفية وشكل الجلوس واللائحة تطول……). هذا التضخم في الحديث عن التوافه جعله يحشر أنفه في كل شيء وأصبح الفقهاء يعلمون كل شيء لذلك تراهم يفتون في كل شيء. يتسم الفقه الحديث بالانحصار والجمود مع الفعالية السلبية والتأثير المضاد، هكذا أصبح منظومة فكرية مغلقة أكثر من ذي قبل وانتقل من الفعل إلى رد الفعل. وفقهاءنا يعيشون عطالة فكرية شاملة، شعارهم "الحلال بين والحرام بين" ومبدأهم: "المنع والتحريم" وشغلهم الشاغل الرد على كل من سولت له نفسه المس ب"دين الحق" وب "ثوابت الأمة" وتجاوز الخطوط الحمراء المنحوتة في عقولهم، وإن اقتضى الأمر بالقذف والسب والشتم بل ربما التخوين والتكفير. إن أكبر خطر يهدد الأمة الإسلامية، هو هذا الفقه الجامد، المتحجر والفقير حد البؤس الذي يأبى نزع جلباب الأجداد، نظرا لخطاب التحريم والمنع والكراهية الذي ينشره وأيضا الوجبات الدسمة من الرداءة والضحالة والتفاهة التي أصبح يقدمها لأغلبية الشعوب الإسلامية مع غياب خطاب الفكر الحر والتنوير. إن خطورة أغلبية وعاظ ودعاة الإسلام في راهننا، تكمن أساسا في الدعم المادي اللامشروط الذي يتلقونه من بعض الدول وأيضا من الصناديق السوداء لبعض الجماعات والجمعيات، كذلك قربهم من عامة الناس وفي الأسلوب التبسيطي السطحي المدرسي المشحون بخطاب يمتحي من المقدس ويركب العاطفة، مع استغلالهم لقنوات عديدة من أجل تمرير خطاباتهم، منها التقليدية التي تكتسي طابع القداسة أو ما يجاورها، كالمساجد والكتاتيب القرآنية والجمعيات الخيرية، ومنها العصرية كالمدرسة، المذياع والتلفاز والأنترنيت. كما يقتنصون الفرص العديدة والمتنوعة، كمناسبات الموت والعزاء، أو تحويل لحظات الفرح (الأعراس، العقيقة، الختان…) إلى مآتم من أجل حشو عقول المدعوين بالخطابات المخيفة والمروعة، ليس أقلها الحديث عن عذاب وهول القبور والحساب والعقاب، أو عن قصص عديدة جلها من نسج خيالاتهم وهي تحمل الكثير من العنف الفكري كي يسلم لهم المستمع /المتلقي عقله ووجدانه على بياض. كأن الإيمان لا يعرف طريقه إلى قلوب المسلمين إلا عبر التخويف والترهيب. 1. استعرت هذا العنوان من الشاعر الكبير محمود درويش والتعبير الأصلي لدرويش كان: "أحبوا الحياة ما استطعتم إليها سبيلا".