في ظرفية سياسية مفصلية ودقيقة، يتطلع فيها المغاربة الذين صوتوا بكثافة على الدستور الجديد إلى إجراءات وخطوات ومبادرات تعزز الثقة في المستقبل، يأتي الإعلان عن تأسيس "التحالف من أجل الديمقراطية"، ليوجه صفعة قوية ومدوية لكل المجهودات المبذولة, والمطلوبة من أجل مصالحة المواطنين والمواطنات مع العمل السياسي والحزبي حتى لا تتكرر كارثة العزوف عن المشاركة في الانتخابات المقبلة , فقد أثار هذا التحالف الثماني ردود فعل قوية من طرف المواطنين والفاعلين السياسيين والنخب الثقافية، تراوحت بين التعبير عن الاستغراب والصدمة، وبين التنديد والاستهجان والريبة، واعتباره إمعانا في تمييع الحقل السياسي, وتعميق وضعية الخلط والالتباس فيه. ولأنه ليس بالإمكان هنا عرض كل ردود الفعل هذه ,التي تتبعها الرأي العام الوطني في مختلف وسائل الإعلام, لنأخذ نماذج منها : فأطر وقواعد أحزاب اليسار في هذا التحالف رفضوا هذا القرار, فقد أعلن نائب المنسق الوطني لحزب اليسار الأخضر عن رفضه "وضع يده في يد المفسدين"، ودعا فرع نفس الحزب بمراكش إلى "الخروج من هذا التحالف"، كما أصدر فرع الحزب العمالي بأسفي بيانا أكد فيه "أن الكتابة الإقليمية غير معنية بقرار التحالف الذي لا علاقة له بالمبادئ الأساسية للحزب"، وهناك حالة غضب قوية داخل قواعد أحزاب اليسار المتحالفة, تؤشر على مغادرة جماعية في القريب. ولم يخرج موقف جل الأحزاب الوطنية الديمقراطية عن هذا الإطار، إذ وصفت التحالف الثماني بالهجين والانتخابوي. وفي مواقف المثقفين والأكاديميين، يستوقفنا موقف الاقتصادي الدكتور إدريس بن علي, الذي اعتبر في مقالته الأسبوعية بجريدة المساء, أن ما جرى هو "دعارة ثقافية"، و "انتهازية سياسية"، بينما أكد الشاعر عبد اللطيف أللعبي في حوار مع "أخبار اليوم" أن هذا التحالف ، رغم ادعائه بأنه وضع الإيديولوجية جانبا, فإنه " تحالف إيديولوجي بامتياز على الطريقة المخزنية". إن الهدف من هذا التذكير بهذه النتف من ردود الفعل السلبية الواسعة على هذا التحالف ,هو تسجيل، وبكل ارتياح، الحس السياسي السليم لكافة مكونات "المجتمع السياسي" التي استقبلت هذه "القنبلة" (كما وصفها الرئيس ألتجمعي قبل الإعلان عنها) باستهجان، وجعلتها تنفجر فضيحة في وجه صانعيها, حيث قيل عن أهدافها ومبرراتها وتوقيتها و مكوناتها الفسيفسائية "ما لم يقله مالك في الخمر ".. ان الشعب الذي يريد إسقاط الفساد هو نفسه الذي يريد إيقاف مسلسل التمييع الاستبلاد ,الذي اتسعت دائرته والمنخرطين فيها. و في مرافعات بعض زعماء الأحزاب اليمينية واليسارية والإسلامية المتحالفة، هناك سيمفونية واحدة مشروخة يتم ترديدها بشكل مقرف: - زمن الإيديولوجية ولى - مقولتا اليسار واليمين لم تعد لهما أية صلاحية في عصرنا- الحديث عن التاريخ والشرعية التاريخية حديث كلاسيكي ومتخلف – نقد حزب الدولة الجديد سذاجة ودليل على عدم فهم جيد للوضع السياسي الراهن، حسب زعم "الزعيم العمالي".. إن هذه الحيثيات التي يرددها زعماء "ألجي 8 " لتبرير مبادرتهم, تفرض الأسئلة التالية: - ماذا يتبقى من السياسة, ثقافة وممارسة, إذا جردناها من الإيديولوجية والمرجعية ألهوياتية، و من مقولتي يمين ويسار، ومن التاريخ, الذي ظل, وسيبقى "محكمة العالم العليا"؟ - ‘ذا كانت بعض الظروف الصعبة والطارئة, تفرض أحيانا تشكيل تحالفات واسعة من أجل المصلحة العليا للوطن، كما حدث في منتصف التسعينيات لما أعلن الراحل الحسن الثاني دنو المغرب من "سكتة قلبية " محققة , واقترح صيغة حكومة "التناوب التوافقي"، فما الذي يجيز اليوم هذا التحالف الحزبي؟,في وقت أقبل فيه الشعب على صناديق الاقتراع بقناعة وحماس, وصوت بالإيجاب على الدستور الجديد ؟ أما زلنا في حاجة إلى "وصفة " التوافقات الاضطرارية والهشة لتسعينيات القرن الماضي؟ ألم تفقد بعد صلاحيتها, حتى نعززها بتحالفات من هذا النوع الغريب , وغير المبرر موضوعيا ؟ - ما الذي يدفع إلى تحالف اليمين الإداري ألمخزني، باليسار العمالي الاشتراكي وبالإسلامي ,غير حساب المقاعد بعد أن تم وضع الإيديولوجا جانبا ,واعتبار تصنيف اليمين واليسار متجاوزا؟ وهل يساعد مثل هذا التحالف ,على توضيح الخريطة الحزبية الوطنية للمواطنين والمواطنات,أم يزيدها ضبابية والتباسا ؟ إجابات المتحالفين عن هذه الأسئلة تتحدث بعمومية عن المشروع الحداثي الديمقراطي كرافعة للتحالف الثماني، إضافة إلى ثوابت وقيم مشتركة، وطموح جماعي إلى تجاوز وضعية البلقنة في المشهد الحزبي، وتنفي نفيا قاطعا, وغير مقنع, أية حسابات انتخابية أو سياسية ظرفية ( الحوارات التي نشرت مع كل من مزوار وبنعتيق وبيد الله بجريدتي "أخبار اليوم " و"المساء") إن المشروع الحداثي الديمقراطي المفترى عليه، والذي تحول إلى لازمة مملة يرددها ألمخزني والليبرالي اليميني والديمقراطي اليساري والداعية الإسلامي، يبقى إطارا نظريا عاما وفضفاضا, تتجاذبه إيديولوجيات مختلفة, نشأت وتبلورت في فضاء الحداثة الأوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر،من ليبرالية واشتراكية بمختلف تلويناتهما ,إضافة إلى النزعات "ما بعد حداثية".. إن كل حديث عن المشروع الحداثي ,والإدعاء في نفس الوقت بوضع الايدولوجيا جانبا,ينطوي على كثير من التناقض والتهافت، والاستسهال في توظيف الأطروحة الفاسدة حول "نهاية الإيديولوجيا". ولاشك في انه إلى جانب الثوابت والقيم المشتركة التي نص عليها الدستور الجديد والتي توحد كل المواطنين داخل الوطن الواحد، هناك أيضا قيم و ثوابت,ترتبط بالرؤية الفكرية والسياسية الموجهة والمرشدة للعمل الحزبي،والمحددة لاختياراته السياسية الكبرى التي تحدد موقع واصطفاف كل حزب داخل المشهد السياسي بصراعاته وتناقضاته، هذه القيم والثوابت الحزبية المشتركة مفتقدة في هذا التحالف, الذي لا يربطه فكر ولا توجه سياسي واحد ، ولا تجربة تاريخية متقاربة على الأقل : فليس لمن كان مصطفا إلى جانب قوى المحافظة والقمع والليبرالية المتوحشة زمن الرصاص,قيم ومبادئ تجيز له "الزواج" من مناضلي يسار هذا الزمن وضحاياه , اللهم من صار منهم "شاطرا"و "مقاولا" في السياسة ,لا مناضلا متفانيا في خدمة أهدافها النبيلة. و لعله من السخافة والافتراء، أن تزعم هذه الأحزاب بأن من أهداف التحالف عقلنة المشهد الحزبي، وهي التي كانت في نفس الأسابيع التي حضرت فيها هذه الطبخة في الظلام، ترفض في واضحة النهار, داخل لجنة الداخلية بمجلس النواب, كل إجراء لعقلنة المشهد الحزبي، فدافعت عن عتبة منخفضة، وعن تقطيع انتخابي على المقاس، معتبرة كل الأصوات المنادية برفع العتبة وتوسيع الدوائر اقصائية وهيمنية... إن التقاطبية الحزبية المرجوة، ليست تجميعا عشوائيا لأكبر عدد ممكن من الأحزاب كيفما كان لونها في سلة واحدة ولأهداف وقتية، وإنما هي تشريع ا لقوانين تساعد على فرزها ديمقراطيا من خلال صناديق الاقتراع من جهة , و سعي نحو توحيد صفوف "العائلات السياسية" المتقاربة فكريا وسياسيا ,وذات التجربة النضالية التاريخية المشتركة،من جهة أخرى.. وفي هذا السياق, فاليسار سيظل يسارا واليمين يمينا, ما دام هناك صراع اجتماعي ضد الظلم والاستغلال والتفقير، ونضال مستمر من أجل الكرامة والعدالة الاجتماعية، و عليه ,فان تصنيف يمين_ يسار يحتفظ بصلاحية دائمة في قراءة الاصطفاف الاجتماعي والسياسي والفكري بشكل موضوعي وواضح , دون خلط ولا تمييع. إن تجريد الفعل السياسي من أي محتوى فكري وإيديولوجي, والمراهنة على تقاطبية لا تعكس حقيقة الخريطة الحزبية ,بتمايزاتها الكبرى , سواء على مستوى التمثيلية المجتمعية والامتداد الشعبي,أو على مستوى المرجعيات الفكرية والاختيارات السياسية المرتبطة بها, لن يؤدي في نهاية المطاف ,إلا إلى اختزال السياسة في السباق على احتلال مواقع القرار في مؤسسات الدولة ,ونهج كل الطرق والوسائل المؤدية لذلك ,ولو كانت ضد طبيعة الأشياء ..وفي ذلك اغتيال للسياسة ,وإحلال لثقافة الانتهازية محل الالتزام السياسي والانتماء الحزبي المؤسسين على قيم العطاء والإيثار وتقديم المصلحة العامة على المصالح الضيقة للأحزاب والأفراد .. لقد بني التحالف الثماني على أباطيل ,هي التي ستسقطه في أول اختبار أو استحقاق جدي . . وان غدا لناظره لقريب..