تعيش المنطقة اليوم على إيقاع اندلاع الثورات الشعبية والتي بدأت من تونس بعد هروب زين العابدين بن علي، ووصلت نيرانها إلى مصر لتسقط عرش الطاغية حسني مبارك، وما تزال جذوة الثورة متواصلة في لبيبا ضد نظام معمر القذافي بعد أن اتخذت مسارا مختلفا عن الثورات السابقة لها، و صارت حربا مسلحة بين الشعب الثائر ومرتزقة نظام القذافي البائد. ويبدو أن رياح الثورة لن تتوقف في ليبيا وربما تمتد إلى بلدان مغربية أخرى كالجزائر والمغرب ومورتانيا والتي ترزح كلها تحت حكم أنظمة استبدادية قمعية تحارب شعوبها، وقد بدأت بوادر الاحتجاجات الشعبية في البروز مستفيدة من زخم الثورات الناجحة. ولعل أحد أهم أسباب نجاح الثورات في شمال إفريقيا دون غيرها يعود بشكل أساسي إلى واقع المجتمعات في هذه المنطقة والتي تعرف انصهارا عميقا وقديما بين مكوناتها المختلفة المتعددة والمتنوعة. إن هذا يمنح الثورة قدرة هائلة على التحرك ويجعل المعركة بين طرفين واضحين : الشعب الثائر والتواق لنيل حريته في مواجهة أنظمة استبدادية عقيمة ومتهالكة معظمها موروث عن فترة ما بعد الاستقلال مباشرة منذ حوالي نصف قرن. وهو ما يختلف جوهريا عن واقع المجتمعات في الشرق الأوسط، حيث يهدد اندلاع الثورات هناك باندلاع حروب أهلية، بعد أن نجحت الأنظمة الاستبدادية ونخبها المتعفنة في خلق نزوعات طائفية ( دينية ومذهبية ) يجري توظيفها لمحاربة أية إمكانية للتغيير تطيح بها. وذلك من خلال ربط أية حركة تغييرية بجهة طائفية معينة وتخويف الأطراف الأخرى منها، ما يجعل تحقيق وحدة الشعب على مطالب واحدة مسألة غاية في الصعوبة إن لم نقل مستحيلة في ظل النظام الاجتماعي الطائفي، ليس فقط السياسي وإنما الثقافي أيضا، وهو الأكثر خطورة. كما هو الحال مثلا في بلدان مثل العراق وسوريا ولبنان والبحرين... وغيرها، حيث الطائفية السياسية ضاربة في جذور المجتمع وتشكل عائقا كبيرا أمام إمكانية للتغيير وبناء الدولة الحديثة على أسس المواطنة والديمقراطية. وفي المغرب حيث بدأت حركة الاحتجاجات السلمية مع بروز حركة 20 فبراير ورفع مطالب التغيير السياسي الشامل للنظام المغربي، بعد تزايد اليأس الشعبي من خطابات العهد الجديد والانتقال الديمقراطي الذي طال أمده ولم يسفر على أي شيء ملموس، إضافة إلى تزايد وتيرة التراجعات عن المكتسبات السياسية السابقة خاصة بعد أحداث 16 ماي وعودة الدولة البوليسية إلى الواجهة... إلخ. كل ذلك أعطى هذه الحركة التي يقودها الشباب زخما أكبر والتفت حولها جميع أطياف المشهد السياسي في المغرب. وفي خضم هذا الجو برزت إلى الوجود مجددا أسئلة ملحة عن الهوية الجماعية للشعب المغربي في مواضيع مختلفة ثقافية ولغوية وسياسية...إلخ. وسنقوم هنا - في هذا المقال - بمحاولة تعريف العناصر الأساسية والمهمة، المتعلقة بموضوع الهوية في المغرب وفي منطقة شمال إفريقيا عموما، في أبعادها ودلالاتها المختلفة : - أولا : في الإنسان أثبتت كل من الأبحاث الأثرية والوراثية الحديثة التي أجريت بشمال إفريقيا أن عملية تعمير المنطقة كانت نتيجة تاريخ طويل ومعقد من الهجرات البشرية العديدة التي وصلت إلى المنطقة عبر آلاف السنين الماضية، كما هو الشأن بالنسبة لبقية مناطق حوض البحر الأبيض المتوسط. ولم تتوقف هذه الهجرات البشرية طوال التاريخ الطويل للمنطقة في إعادة تشكيل البنية الوراثية للمجتمعات هناك، منذ ظهور الإنسان الحديث بها قبل حوالي 35 ألف سنة مضت إلى يومنا هذا. ويمكن القول بأن التعمير التاريخي القديم للمنطقة هو بالتأكيد جاء نتيجة عملية انصهار طويلة – بنسب غير محددة بالضبط – بين ثلاثة عناصر بشرية رئيسية هي السلالة الإبيرومورتانية ( وأسلافها العاتريون ) منذ أزيد من 23 ألف سنة مضت، والسلالة القفصية منذ أويد من 7 ألاف سنة ق.م، وسلالة العصر الحجري الحديث منذ 4 ألاف سنة ق.م، والتي كتبت لها الغلبة في النهاية على سواها. ولم تتوقف هذه الهجرات مع بزوغ فجر التاريخ فوصلت إلى المنطقة شعوب عديدة من مناطق مختلفة منذ البحارة الفينيقيين الذي أسسوا مدنا استقرت بها جاليات مهمة في السواحل المتوسطية الشمالية، مرورا بالمستوطنين الرومان والوندال والبيزنطيين رغم أن تأثيرهم الوراثي بقي ضئيلا جدا وفي بعض الأحيان شبه منعدم. وصولا إلى الهجرات العربية الكبيرة في العصر الوسيط والتي كانت لها تأثيرات وراثية واجتماعية ملحوظة، ولم يكن العرب الهلاليون المهاجرين الوحيدين إلى المنطقة في العصر الوسيط بل رافقتهم بعد قرون قليلة هجرات الموريسكيين الفارين من محاكم التفتيش في إسبانيا والذين استقروا بالمناطق الشمالية، وأخيرا تلك الهجرات الكبيرة للزنزج الأفارقة الذين تم جلبهم إلى المنطقة ضمن التجارة الصحراوية التي ازدهرت في العصر الوسيط، وكانت لهم تأثيرات وراثية لا يمكن تجاهلها. وخلاصة القول، فإن الاختلافات الثقافية واللغوية الملحوظة بشمال إفريقيا لا تعني أي شيء في قضية الأصول الوراثية للأفراد بالمنطقة، وبالخصوص تلك الاختلافات الملاحظة بين الناطقين باللغات الأمازيغية والناطقين بالعربية في منطقة شمال إفريقيا والتي هي اختلافات ثقافية ولغوية بالأساس وليست عرقية وراثية، ما يمكن تفسيره بأن أسلافهم المشتركين تلقوا بشكل مختلف تأثيرات الهجرات العربية إلى شمال إفريقيا حيث كان تأثر البعض وخصوصا سكان السهول أكبر بكثير من تأثر البعض الآخر وخاصة سكان الجبال. و يبدو من هذه النتائج أيضا أن الهجرات العربية الكبيرة إلى المنطقة ابتداء من القرن السابع الميلادي، لم تكن بالأساس سوى ظاهرة ثقافية ( تعريب مناطق شاسعة ) مع تأثيرات وراثية ضعيفة لا تتجاوز العشرة بالمائة في أحسن الأحوال، رغم أنها تبقى ملحوظة مقارنة بغيرها من الهجرات الأخرى التي سجلتها كتب التاريخ بسبب تأخرها الزمني. وفي الواقع لا يوجد لحد اليوم وسائل فعالة للقياس الدقيق لمدى التأثير الجيني للهجرة العربية إلى شمال إفريقيا. فنحن نستطيع أن نعتبر أن هذا التقارب الوراثي الملاحظ بين المجموعتين ( سكان شمال إفريقيا والمجموعات العربية في الشرق الأوسط ) ربما كان قائما حتى قبل الهجرة العربية إلى المنطقة في العصر الوسيط وهو احتمال وارد، ونستطيع أيضا تخيل إمكانية حصول اختلاط وراثي واسع النطاق ومستمر بين المجموعتين في شمال إفريقيا، وكلا الأمرين محتمل بشكل كبير ويوجد عدد كبير من الشواهد التاريخية و الأنتروبولوجية على حصولهما معا. إن التقدم الكبير في مجال الأنتروبولوجيا الوراثية أصبح في وضع يجعل كل الباحثين الجادين في المسألة يرفضون وجود أعراق موحدة في الجنس البشري برمته، بما في ذلك وجود عرق بشري في شمال إفريقيا ( أمازيغي أو عربي ) يمكن وصفه بأنه " خالص " و " موحد ". ولكن، وإن كانت هذه النظرة القائمة على واقع التعدد والانصهار أكثر علمية واستنارة، فهل سيؤدي ذلك إلى إلغاء الشعور عند البعض وخصوصا أصحاب النزعات القومية، بالنموذج العرقي في تعريفهم لهوية الإنسان والشعوب ؟ إن المسألة برمتها ثقافية بالأساس، فالاعتراف بالتنوع والتعدد سواء بين الأفراد أو الجماعات في إطار وحدة الجنس البشري عموما هو الحل الوحيد في نظرنا للخروج من المشاكل العديدة التي يفرضها مفهوم العرق والتعريف العرقي للشعوب. - ثانيا : في اللغة هناك حقيقة لا مفر لأحد من الاعتراف بها، وهي أن المشهد اللغوي في منطقة شمال إفريقيا هو مشهد تعددي بامتياز، ليس فقط من خلال واقع وجود مجموعتين لغويتين هما العربية والأمازيغية، وإنما بوجود تعددية داخل هذين المجموعتين سواء العربية ( الدّارجة والفصحى ) والأمازيغية ( وجود عشرات اللغات المختلفة والمنتشرة على امتداد الرقعة الجغرافية الشاسعة لشمال إفريقيا وتوجد ثلاث من أكبرها في المغرب ). وقد أدى التاريخ الطويل المشترك بينهما إلى حصول عملية انصهار بين تلك المكونات المتعددة كان أحد أبرزها ظهور الدارجة المغاربية، لغة التخاطب اليومي لدى أغلبية سكان المنطقة، والتي هي نتيجة انصهار روافد معجمية ونحوية عربية بأخرى أمازيغية امتدت لأزيد من ألف سنة. وبالتالي فإن أي حديث عن لغتين فقط في شمال إفريقيا منفصلتين ومتصارعتين هما العربية والأمازيغية ( الموحدة والمعيارية ) هو من قبيل الخرافة التي لا أساس لها في الواقع، مع وجود عدد لا يحصى من الشواهد على حصول امتزاج لغوي بينهما وعملية تأثير وتأثر بليغة يشهد على ذلك المشترك المعجمي وعملية الاقتراض اللغوي المتبادلة بين جميع المكونات المتعددة للفسيفساء اللغوية في شمال إفريقيا، كأحد الشواهد على مدى غنى وثراء التجربة التاريخية والحضارية للمنطقة. فقد كانت كل مجموعة بشرية تأتي إلى منطقة شمال إفريقيا حاملة معها لغتها وثقافتها الخاصة التي هي حصيلة لتراكم تاريخي طويل وعمليات تأثير وتأثّر – طويلة الأمد وبالغة التعقيد - بالشعوب الأخرى التي صادفتها في طريقها. ولأن تاريخ البشرية هو تاريخ التلاقح اللغوي فإن ما كان يحصل في شمال إفريقيا لا يخرج عن هذا الإطار، حيث أدت عمليات الانصهار والاندماج الوراثي بين تلك المجموعات البشرية المختلفة إلى حدوث انصهار واندماج لغوي بينها، وبالتالي إلى نشوء لغات متعددة تشترك فيما بينها في بعض الأمور وتختلف في أمور أخرى وذلك بسبب الظروف المختلفة التي تمت بها عملية التلاقح اللغوي تلك والنتائج اللغوية والتاريخية المختلفة التي ترتبت عنها. وحتى بعد مجيء الجفاف النهائي للصحراء الكبرى ظل هذا المشهد الثقافي واللغوي التعددي في منطقة شمال إفريقيا - والذي يعود في أصوله إلى عشرات آلاف السنين – مفتوحا باستمرار على تغيرات جديدة تحملها معها كل هجرة بشرية جديدة نحو المنطقة. وقد برزت تأثيرات جديدة ذات طابع متوسطي منذ مجيء الفينيقيين في القرن الثامن ق.م والرومان في القرن الرابع ق.م والوندال في القرن الثالث وصولا إلى الهجرات العربية الكبيرة ابتداءً من القرن 11 ميلادي. وقد كانت لتلك الهجرات الخارجية إضافة إلى هجرات أخرى داخلية تأثيرات كبيرة على مستوى الثقافة واللغة والكتابة. - ثالثا : في الثقافة إن مشهد التعدد اللغوي يفرض بالضرورة الحديث عن تعددية ثقافية أحد مظاهرها هو التعدد اللغوي، لكنها لا تختزل في مسألة اللغة فقط، بل تتعداها إلى جميع المكونات الثقافية الأخرى في هوية الإنسان بشمال إفريقيا. وبما أن الثقافة – بحكم تعريفها – هي مجموع المنتجات العقلية للإنسان من لغات وفنون وآداب ومطبخ وعادات وتقاليد ومعتقدات وأفكار ورموز وقيم ومعايير وأنماط العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، فإن الروافد التي شكلتها عبر التاريخ هي روافد متعددة ساهمت عمليات الهجرات البشرية والتلاقح الثقافي بين المجموعات البشرية المختلفة في إغنائها باستمرار. وهو ما حصل عبر التاريخ لطويل لمنطقة شمال إفريقيا ولعملية التعمير التي دامت آلاف السنين منذ الثقافات الموغلة في القدم ( الثقافات الأولدوفانية، الأشولية، الموستيرية، العاترية، الإبيروموريتانية، القفصية، وثقافة العصر الحجري الحديث...إلخ )، وصولا إلى عصر التاريخ مع وصول البحارة الفينيقيين إلى المنطقة وتأسيس قرطاجة ما فتح المنطقة على مصراعيها للتأثيرات الثقافية الشرقية للبحر الأبيض المتوسط. هذا دون أن ننسى التأثيرات الثقافية المتبادلة بين شمال إفريقيا وحوض وادي النيل والتي لم تتوقف قط على امتداد مراحل التاريخ. ومع وصول الغزو الروماني والوندالي والبيزنطي صارت المنطقة مفتوحة أكثر على التأثيرات الثقافية الشمالية ضمن حوض المتوسط، قبل أن تصير في العصر الوسيط جزءً من المنظومة الحضارية لجنوب المتوسط عقب انتشار الدين الإسلامي والهجرات العربية إلى المنطقة. وهي نفس الفترة التي عرفت ازدهار التجربة الأندلسية بمزيجها الثقافي والحضاري الغني والتأثيرات المتبادلة بينها وبين شمال إفريقيا ( يكفي هنا أن نستعرض بعد الأسماء المؤثرة في ميادين مختلفة علمية وفكرية وأدبية من أمثال ابن رشد وابن طفيل وابن حزم وابن عربي وابن زهر... واللائحة تطول )، هذا دون نسيان العمق الإفريقي الضارب في الجذور والممتد عبر التاريخ الطويل للتلاقح الثقافي في شمال إفريقيا وعبر الصحراء الكبرى. إن استعراض هذا التاريخ كاف للبرهان على تهافت أي خطاب عن ثقافة " أصلية " و " خاصة "، ثقافة لم تخضع قط لمنطق التأثير والتأثر ولمنطق التلاقح الثقافي والحضاري، سواء جرى تعريفها بأنها أمازيغية أو عربية، وتناقضه مع أبسط حقائق الواقع حاضره وماضيه. وهو ما يعني أن أي كلام عن صراع ثقافي بين الثقافة الأصلية لسكان شمال إفريقيا ( والتي تُعرّف بأنها ثقافة أمازيغية ) مع ثقافة أخرى توصف بأنها دخيلة ( هي الثقافة العربية )، ليس في حقيقة الأمر سوى " أيديولوجيا انعزالية " تحاول العيش على تقسيم المجتمع الواحد إلى جزر ثقافية معزولة عن بعضها البعض والعلاقة الوحيدة الممكنة بينها هي علاقة الصراع والهيمنة وربما الإبادة ( ابتلاع ثقافة لأخرى ). وذلك في مقابل " أيديولوجيا اختزالية " تنفي وجود تعدد ثقافي في منطقة شمال إفريقيا، وتروج لإمكانية اختزال هذه الثقافة في أحد مكوناتها العديدة ( المكوّن الثقافي العربي ). - رابعا : في التاريخ يترافق مع الترويج لهويات لغوية وثقافية جديدة في المغرب وشمال إفريقيا، عملية إعادة قراءة لتاريخ المنطقة تقوم على الانتقائية وتقطيع أوصاله وإعادة دمج مستمرة، من أجل الخروج بتاريخ مزعوم لهويات مزعومة ( عربية وأمازيغية ) منفصلة عن بعضها البعض ومختلفة، وهو ما انتهى إلى إنتاج نسختين من تاريخ المنطقة : الأولى نسخة القومية العربية ( ابتداءً من روادها الأوائل في الحركات الوطنية المغاربية )، وتقوم على تحديد نقطة البدء في تاريخ المنطقة من شخصية عقبة بن النافع لحظة بداية الفتوحات العربية أوائل القرن الأول هجري / السابع ميلادي، وبناء مدينة القيروان سنة 59 ه / 670 ميلادية. وتحاول هذه النسخة مَحْوَ ما سبق ذلك من هذا التاريخ، واعتباره لاغيا وغير ذي أهمية، ما دام لا يتضمن أي إشارة إلى العرب أو تاريخهم. وفي ضوء هذه القراءة الانتقائية يجري القفز على المحطات التاريخية التي لا يراد لها أن تشوه تلك الصورة النمطية عن الفاتحين العرب الذين تحركهم عقيدة دينية سامية ويرغبون في نشر قيمها في أقاصي الأرض...! أو ما يسمى اختصارا ب " الفتح الإسلامي ". في حين أن القراءة المتمعنة للنصوص التاريخية عن تلك الفترة ( العربية أساسا ) توضح عكس ذلك، وأن ما كان يحرك تلك الغزوات هي مصالح سياسية واقتصادية لإمبراطورية وليدة ( الدولة الأموية ) كانت تعمل على خلافة الإمبراطوريات السابقة عليها ( البيزنطية والفارسية ). بينما يكاد نصيب الدين الإسلامي في الموضوع يكون منعدما، على الأقل في منطقة شمال إفريقيا حيث كان انتشار الإسلام منفصلا زمانيا عن لحظة الفتوحات وجاء متأخرا عنها وبمجهود محلي من أبناء المنطقة المتحمسين للدين الجديد ولقيمه، وليس من قبل الفاتحين الذين كان همهم الأساسي هو " الغنائم "، ما جعلهم يخوضون حروبا مستعرة في المنطقة دامت حوالي قرن من الزمن، وانتهت باستقلال المنطقة وإنشاء إمارات محلية للمعارضة السياسية ( الخوارج والشيعة الزيدية ). كما أن هذه النسخة من تاريخ المنطقة، تعمد إلى جعل " العروبة والإسلام " شيئا واحدا على المستوى التاريخي وذلك من خلال الربط بين انتشار الإسلام واعتناق الأغلبية الساحقة من سكان شمال إفريقيا له، مع انتشار العربية والتعريب، وهي مسألة غير صحيحة تاريخيا، لأن انتشار الإسلام كان سابقا عن انتشار التعريب الذي ارتبط أساسا بالتغريبة الهلالية في القرن الخامس هجري / الحادي عشر ميلادي، واستيطان تلك القبائل العربية في أرجاء مختلفة من المنطقة. لقد سبق انتشار الإسلام عملية التعريب كما أنه جاء لاحقا للفتوحات ولم تؤثر كثيرا في مساره، وهو ما ينسف بالكامل مقولة " ترابط العروبة والإسلام " تاريخيا على أرض شمال إفريقيا. كما أن الحاضر يشي بالعكس، مع وجود ملايين المسلمين في المنطقة من الناطقين بالغات الأمازيغية، ولم يكونوا مرغمين في أي لحظة تاريخية على التخلي عن لغاتهم وثقافتهم بمجرد اعتناقهم للإسلام، ما دام هذا الأخير دينا إنسانيا ( للناس كافة ) وليس دينيا قوميا للعرب فقط. الموضوع الآخر الذي تركز عليه هذه النسخة من تاريخ المنطقة، هو قضية نشوء الدولة في شمال إفريقيا وتاريخها، حيث يجري السكوت تماما عن التجربة التاريخية للدول السابقة على عصر الفتوحات وما تلاه، والتركيز على أن الدولة ولدت مع المهاجرين العرب إلى المنطقة. ويأخذ هذا النقاش طابعا خاصا في المغرب حيث الدولة لها تاريخ عريق، بالقول إن الدولة نشأت مع إمارة الأدارسة وتأسيس مدينة فاس منذ حوالي 12 قرنا، في حين أن الجميع يعلم أن تاريخ نشوء الدولة في المغرب قديما جدا ويعود إلى القرن الثالث ق.م على أقل تقدير، كما أن إمارة الأداسة نفسها عاصرت إمارة أخرى أقدم وأكبر وأقوى منها هي إمارة برغواطة والتي بقيت بعد انهيار إمارة الأدارسة إلى زمن الموحدين وعجز المرابطون على القضاء عليها. لكن تواطؤ الفقهاء السُّنة والمؤرخين الرسميين ( ومن بينهم ابن خلدون نفسه ) ضد دولة الخوارج تلك وضد حركات الخوارج عموما في المنطقة، كان سببا في تهميشها ومحاربتها. لكن الأبحاث الأثرية الحديثة رغم قلتها بدأت تعيد إلى تلك الدولة التي تواطؤ الجميع على محاربتها بعضاً من مكانتها في تاريخ المغرب. النسخة الثانية من تاريخ شمال إفريقيا هي نسخة القومية الأمازيغية، وتقوم هذه النسخة قلب كل ما قامت به النسخة الأولى، من خلال انتقاء التاريخ السابق على المرحلة الإسلامية وتمجديه على أساس أنه التاريخ الأصلي ل " الأمازيغ " قبل مجيء " الغزو العربي ". وبذلك يكثر الحديث عن ماسينيسا على أنه المؤسس الأول الدولة في شمال إفريقيا والذي دشن أمجاد التاريخ الأمازيغي، رغم أن الرجل لم يكن في النهاية سوى حليف للرومان في زمن كان معنى أن تكون حليفا لروما هو أن تكون " عميلا " لها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن القول بأن ماسينيسا هو المؤسس الأول للدولة في القرن الثالث ق.م، هو قول فيه إجحاف كبير بتاريخ المنطقة، حيث تدل المعطيات التاريخية بأن نشوء إمارات محلية في الحدود الجنوبية لقرطاجة كان سابقا بأزيد من ثلاثة قرون على ولادة ماسينيسا ودولة نوميديا. لكن المشكلة هي أن المصادر التاريخية الوحيدة هي تلك الرومانية التي كانت تناصب العداء للقرطاجيين وللسكان المحليين معا، بسبب أطماعها في المنطقة. لكن الأبحاث الأثرية الحديثة في المناطق الشمالية لتونس والمغرب تعد بقلب كثير من التصورات السابقة التي رسختها المصادر التاريخية الرومانية بعد أن ضاعت المصادر التاريخية القرطاجية والتي كان وجودها سيغير نظرة المؤرخين لتاريخ المنطقة. أما الإستراتيجية الثانية فتقوم على عزل التاريخ القديم للمنطقة عن التأثيرات المختلفة التي أحاطت به، حيث يجري صنع " تاريخ أمازيغي خاص " لا مكان فيه للتأثيرات الأخرى خاصة الفينيقية منها في نسختها القرطاجية والتي يجري تجاهلها تماما رغم أنها جزء مهم وأساسي من التاريخ العام للمنطقة، وكانت لها تأثيرات هائلة في نشوء الدولة لأول مرة في تاريخ شمال إفريقيا، حيث نشأت معظم الإمارات المحلية جوار المستوطنات الفينيقية وليس في أي مكان آخر. هذا فيما يخص التاريخ القديم، أما فيما يخص التاريخ الإسلامي للمنطقة، فيجري تهميشه بالكامل رغم أنه التاريخ الأكثر أهمية من حيث قيمة المنجزات التي حصلت فيه، وليس أقلها " توحيد شمال إفريقيا " زمن دولة الموحدين وقائدها التاريخي عبد المؤمن الكومي، ومن قبلها إنجازات المرابطين في المغرب والأندلس زمن يوسف بن تاشفين. لكن الذنب الوحيد لهؤلاء والذين كانوا ناطقين بالأمازيغية، هو أنهم يحملون أسماء عربية ويعتنقون الدين الإسلامي وساهموا في نشر العربية وترسيخ أقدامها في المنطقة كأحد مكوناتها الثقافية التعددية. هكذا صار لدى النخب القومية في شمال إفريقيا باختلاف انتماءاتها، تاريخها الخاص بها، يستبعد ما لا يتناسب مع هذا الخطاب أو ذاك، ويعيد تأسيس أساطير تاريخية عن " الذات و الآخر ". في الختام ليس بوسعنا سوى تكرار ما اعتدنا على ترديده زمنا طويلا، حول مبدأي " التعدد والانصهار " الذين يشكلان أساس هوية الإنسان في المغرب وفي منطقة شمال إفريقيا عموما. حيث ساهمت عناصر متعددة وذات جذور متنوعة في تشكيل وصياغة هوية الإنسان على جميع مستوياتها، وفي خضم هذه العملية الطويلة التي امتدت على طول تاريخ المنطقة منذ عشرات آلاف السنين الماضية، حصل " انصهار " كامل لتلك العناصر المتعددة فيما بينها، لتشكل وحدة واحدة متماسكة ومتينة. وبالتالي فإن أي حديث عن هوية جزئية أو خاصة، عربية كانت أو أمازيغية، هو من قبيل الخرافة التي لا أساس لها في الواقع. * باحث بجامعة فليبس ماربورغ ألمانيا