16 يناير, 2016 - 01:58:00 هذا مقال نشرته الصحيفة الكندية «لابريس» للدبلوماسي المغربي المتميز مختار لماني، الذي كان شغل منصب نائب الأخضر الإبراهيمي في سوريا، كما سبق له أن شغل منصب أول سفير للجامعة العربية في العراق قبل أن يقدم استقالته. اعتبر فيه أن «داعش» عرض من أعراض الاستبداد والفساد الذي حكم المنطقة منذ زمن بعيد، ولهذا فان المقاربة العسكرية الأمنية التي تنهجها أمريكا وحلفاؤها لمحاربته فاشلة وتفتقد الفعالية، ناهيك أن الميليشيات الشيعية التي تحالفت معها امريكا في العراق ليست اقل خطرا منه. كما يرى أيضا أن «الربيع العربي» ليس إلا حلقة ضمن سيرورة على المدى البعيد، على غرار المسار الذي قطعته الثورة الفرنسية، التي تشكل مرجعا في ميدان الحكامة وحقوق الانسان. نورد في ما يلي الترجمة الكاملة للمقال: ترجمة سعيد السالمي بعد مرور خمس سنوات على بدء الربيع العربي، على الرغم من حالة الفوضى التي تسود في منطقة معروفة بالركود السياسي، وانتشار الفساد والقمع كوسيلة وحيدة للحكامة، فإن ثمة تغيرات غير مسبوقة تشهدها المنطقة. أبرزها نزع القداسة عن الأنظمة السياسية البالية الخاملة المسؤولة عن كل المعيقات السياسية والسوسيوقتصادية.. ولكن الوضع الحالي يبدو أسوأ: حروب أهلية معممة، ونعرات طائفية، وظهور تطرف همجي غير مسبوق، ودول على شبه مفلسة (اليمن، ليبيا، سوريا، العراق). إن الأخطار التي تتهدد مستقبل المنطقة لم تكن أبدا بهذه الحدة، ولعل الأخطر هو التطرف الديني. من المؤكد أن الأجندات الإقليمية والدولية المتضاربة جداً لن تهدئ التوترات. لهذا فإن الخسائر الأخيرة التي تكبدها تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق عوضها بمكاسب كبيرة في أماكن أخرى، وفي ليبيا على وجه الخصوص. التطرف بالتعريف يتنامى ويتسع كثيرا في المياه العكرة، ومن المرجح أن ينتشر في المنطقة بأسرها بشكل يتعارض مع المثل الديمقراطية وأحلام الشباب الذين أطلقوا الربيع العربي. بالمقابل فإن استراتيجية المجتمع الدولي تفتقد إلى روح المبادرة والإستباقية لتحديد أهداف واضحة وطرق فعالة لتحقيق هذه الأهداف. في يونيو 2014، عندما فاجأ تنظيم «الدولة الإسلامية» العالم باحتلال أراضي شاسعة في سورياوالعراق، تعادل مساحة المملكة المتحدة، ردت الولاياتالمتحدة بتشكيل تحالف، وشن غارات جوية ضد مواقع التنظيم. سرعان ما أظهرت هذه السياسة محدوديتها، وأبرزت مدى تعقيد الوضع هناك. ففي غياب القوات البرية، يعول التحالف، على الأقل في العراق، على الجيش العراقي الطائفي المدعوم بقوة من طرف ميليشيات شيعية ليست أقل خطورة من الارهابيين الذين تقاتلهم. من مميزات تنظيم "الدولة الاسلامية" السهولة في تجنيد جيل جديد من الجهاديين في أكثر من 80 دولة، سواء في صفوف «المستائين» من طول انتظار تحقيق مشروع الخلافة على يد تنظيم «القاعدة»، أو في صفوف المرشحين للإجرام الذين وجدوا في التشدد الإسلامي منفذا مثاليا لميولاتهم الإجرامية. تجنيد الأطفال الأقل من 18 سنة. منذ بداية سنة 2015 جند «أشبال الخلافة» أكثر من 1000 طفل. القدرة على تنفيذ استراتيجيته «السمكة في الصحراء» ونهجه البراغماتي في السيطرة على مصادر التمويل، حتى أنه شن حربا شاملة على الفرع المحلي لتنظيم «القاعدة» في سوريا لكي تفرض نفسها كقوة وحيدة في المنطقة. استخدام تقنيات الإنترنت ووسائل الإعلام بشكل مهني للغاية (فيديوهات الإعدامات حرية باحترافية هوليوود). سياسة تهدف إلى الصدم عن طريق استخدام أساليب وحشية للغاية وصلت حد التطهير في صوره الأكثر مأساوية: الديني والطائفي والعرقي وحتى الثقافي الذي يخص التراث الإنساني لبلاد الرافدين. لقد مهدت الأزمات التي تمر منها المنطقة للتجذر القوي للتطرف في أرجائها. هذه الأزمات استفحلت على ثلاثة مستويات (الإقليمي والمحلي والدولي)، ومست دولا وتنظيمات لها أهداف جد متناقضة، وتسببت في تفتيت المجتمعات. وليس من قبيل الصدفة أن رجال «الدولة الإسلامية» في العراق جلهم عراقيون (أكثر من 80٪)، في حين أن نسبة السوريين في التنظيم نفسه في سوريا لا تتجاوز 25٪. لقد فهم التنظيم بشكل جيد أن الإنتصار في الحروب لا يأتي من عدم، وأن ميليشيات «التعبئة الشعبية» الشيعية تثير الرعب في نفوس المدنيين السنة في المناطق المعنية. إن تنظيم «الدولة الإسلامية»، ذلك الكيان الوحشي، يجب أن ينظر إليه كعرض للأمراض الخطيرة التي تنخر جسم الشرق الأوسط، والفراغ السياسي الذي خيم على هذه المنطقة لمدة طويلة. وهذا هو السبب في فشل، أو عدم فعالية المقاربة الحالية، المقتصرة على الجانب الأمني العسكري. إن المقاربة الناجعة ينبغي أن تكون شاملة ومتعددة الأبعاد، سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وتعليمية.. هل نحن أمام انتصار للثورة المضادة (مصر)، والاستخدام المكثف للعنف تحت ذريعة مكافحة الإرهاب (سوريا)، أو الفوضى الشاملة والحروب الأهلية التي لا تنتهي (اليمن، ليبيا)؟ يجب التعامل مع الربيع العربي كجزء من سيرورة على المدى البعيد، على الرغم من محاولات تحوير المسار من طرف القوى الإسلامية المحافظة، أو الثورات المضادة التي تقودها النخب المسيطرة منذ الاستقلال لمنع أي محاولة جدية للدمقرطة الحقيقية. إن الثورات ونجاحها لا تقاس بالأشهر أو السنوات، بل إنها حركة اجتماعية بطيئة وعميقة تتطلب تصحيحات بشكل مستمر. فالثورة الفرنسية مثلا، التي تشكل مرجعا في الحكامة وحقوق الإنسان، ألم تشهد نصف قرن من الإضطرابات بعد 1789 قبل أن تأخذ الأمور المسار الديمقراطي التي نعرفه اليوم؟