منذ عدة سنوات نعايش ، في الحقل السياسي، نفورا متزايدا من العمل الحزبي و الذي لا يعني ، اتوماتيكيا ، عدم الاهتمام بالشأن السياسي من طرف فئات واسعة من الشعب ، وهذا النفور لايهم فقط فئة الشباب، كما يردد عادة و على خطأ في تقديري ، بل يهم ايضا أجيالا مختلفة بل حتى مناضلين سياسيين تشكلوا منذ عقود في خضم العمل الحزبي وغادروه دون انفصال مطلق عن الشأن السياسي و الشأن العام... وتوجه،عادة، أصابع الاتهام للأحزاب السياسية ، هكذا بشكل تعميمي ودون تمييز بين الأحزاب و لا داخل الأحزاب نفسها و التي يضم بعضها مناضلين حقيقيين يحملون قناعات فكرية و سياسية ويؤمنون بنبل العمل الحزبي ... غير أن هناك عوامل متداخلة ومتضافرة جعلت من الانتماء الحزبي تهمة بعد أن كانت بطولة أيام سنوات الرصاص .... تبخيس العمل الحزبي ، و السياسي عامة، وتصوير كل المناضلين الحزبيين كأنهم من طينة واحدة يستوي فيها الحاملون لقناعات و الحاملون لطموحات و أطماع، هذا التبخيس كان ، فيما مضى، سياسية للدولة، لأن العمل السياسي في فترة سابقة كان مزعجا لها وقد يشكل خطورة، فكان القمع و المضايقات البوليسية ، و التضييق ، وتزوير الانتخابات لزرع اليأس وسط المناضلين الحزبيين و الإحساس بلا جدوى العمل الحزبي... والهدف كان هو الابتعاد عن الانتماء الحزبي الجاد المبني على القناعات أو الاتجاه نحو أحزاب السلطة المدللة و المدعمة رسميا بكامل الوضوح.. وبعد أن كانت هذه السياسة إستراتيجية دولة تحولت في السنوات الأخيرة إلى إستراتيجية حزب الدولة.. فلإعطاء شرعية ما لما سمي ب" الحزب السلطوي الجديد " كان لابد من تهيئ الرأي العام لاستقبال هذا المولود عبر وسائل الإعلام التي أصبحت تردد، في غالبيتها، بوعي ودفع أو بدونه، لازمة فشل الأحزاب " التاريخية" وبالتالي ضرورة البحث عن البديل، وكان البديل المعلوم... غير أن هذه العوامل لاتفسر لوحدها هذا النفور ، بل ان بعض السلوكيات الحزبية تضافرت مع الإستراتيجية الرسمية ، لننتج وضعية أزمة تجلت بوضوح خلال الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة.... واعتقد أن " المزايدات السياسية" و المناورات التي تتقنها بعض الأحزاب ساهمت في هذا المسار .. فعندما يتبنى حزب ما شعارات كبيرة و إعطاء الانطباع على قدرته على حل كل مشاكل الناس إذا تحمل مسؤولية التسيير محليا أو وطنيا، وعندما تتاح له فرصة التسيير و ينسلخ بشكل تام عن هذه الشعارات، فان النتيجة هي الإحباط ، ليس فقط لدى المواطن بل أيضا لدى مناضليه. ثم أن بعض الأحزاب تستبلد المواطن وتعتقد أن المزايدات كافية لكسب عطفه... لنلاحظ مثلاأن حزبا كبيرا و محترما وهو الاتحاد الاشتراكي يهدد كل مرة بالانسحاب من الحكومة إذا لم تكن هناك إصلاحات ، ثم يفاوض من أجل مقعد إضافي و يصمت عندما يحصل عليه ( لاحظوا كيف تحول السيد إدريس لشكر وهو من القادة الأساسيين لهذا الحزب ب 180 درجة في حادثة عجيبة خلقت ذهولا لدى كل المتتبعين) ، ولاحظوا أن قائدا حزبيا مهما مثل السيد الأشعري ظل لمدة 10 سنوات وزيرا ولم يقل كلمة واحدة " تخدش " صورة النظام السياسي وظل يردد كل هذه السنين أن المغرب بخير و أن الأوراش الإصلاحية قائمة و أن المسار السياسي للمغرب سليم و كل شيء يسير على مايرام، ثم ...تحول بعد أشهر قليلة من خروجه من الحكومة إلى " تشي غيفارا" ويدعو إلى ربط المشاركة في الحكومة بالإصلاحات، و إلى الانسحاب وكل ما كان يقوله إدريس لشكر قبل الاستوزار... أي مصداقية تبقى؟ هل يعتقد هؤلاء أن الناس بدون ذاكرة وأنهم فعلا غير مهتمين بالشأن السياسي ويمكن أن نقول لهم أي شيء ويصدقونه؟ وحتى القائد التاريخي عبد الرحمان اليوسفي المحترم من طرف الجميع، لم يقل كلاما " مفيدا " سوى في بروكسيل بعد خروجه من الوزارة الأولى .. ماذا لو أعلن السيد اليوسفي ذلك وهو وزير أول وقدم استقالته من الوزارة الأولى، كفعل سياسي حقيقي ، لوجود العراقيل التي تحدث عنها في بروكسيل؟ كان ذلك سيساهم في رد الاعتبار للعمل الحزبي و للمواقف السياسية .. اما قوله بعد الخروج من الحكومة و عدم تجديد الولاية فليس له مصداقية كاملة... وعندما ربط الاتحاد استمرار وجوده في الحكومة بقيام هذه الأخيرة برفع طلب إلى الملك بالإصلاحات الدستورية فإنه كان يخلق الانطباع بعبث العمل الحزبي أكثر من أي شيء آخر .. هل يمكن تصور تقديم عباس الفاسي للملك شرطاإصلاح الدستور ليستمر في تحمل مسؤولية الوزارة الاولى و إلا ... هل كان يمكن لليوسفي أن يقوم بذلك ؟ ولماذا لم يقم بذلك؟ الناس ليسوا أغبياء لدرجة تصديق مثل هذه المزايدة الصغيرة ..... وعندما يقوم ذات الحزب ، في خطوة لها اسم واحد في الحقل السياسي وهو الانتهازية ، بالانضمام لمظاهرات الشارع بعد فوات الآوان كما هو معلوم، و المطالبة بحل البرلمان الذي يترأس كاتبه الأول مجلس النواب، وحل الحكومة التي يشارك فيها بعدد من الوزراء منهم كاتبه الأول السابق فإنه " يضحك" على الشعب و على الشباب و على نفسه في الواقع... وكم كان سيكون مفيدا لهذا الحزب ( وليس بالضرورة للمغرب) لو قدم عبد الواحد الراضي استقالته من رئاسة مجلس النواب و انسحب فريقه البرلماني من البرلمان ، وقدم وزراء الاتحاد استقالتهم الجماعية، تم انظموا إلى الشارع، آنذاك كان يمكن أن نتحدث عن مصداقية العمل الحزبي... ومادام أن الأمر ليس كذلك فإنه مجرد ضحك على الذقون وغير الذقون... وعندما يمارس حزب ، يمسك بزمام كل السلط الفعلية، المعارضة داخل البرلمان بمزايدات ملفتة وخطاب ناري ضد حكومة يعرف محدودية صلاحياتها، ويعرف مصدر السطة الحقيقية، فانه يقوم عمليا بتمييع العمل الحزبي .. وعندما يقدم قائد محترم لحزب إسلامي استقالته من البرلمان ثم من الحزب ويتراجع بعد ايام من تقديمها بمبرر الانضباط لتوجهات الحزب والتي لم ينضبط لها عندما قدم الاستقالة فان الامر يبدو مجرد رغبة في خلق الحدث ولفت الانتباه الى شخصه .. المواطن ، وليس فقط المتتبع، له قدرة على التمييز و على إدراك طبيعة هذه اللعبة البئيسة ... هذه القدرة هي التي جعلته ينفر من هذه الكائنات إلى إشعار آخر .. إلى حين الرجوع إلى الصواب و المجاهدة لكسب المصداقية قبل الثقة عبر ربط القول بالفعل، وقول ما يمكن فعله وليس فقط ما يعجب الناس ويسهل قوله، و قول الحقيقة بدل الكذب والمزايدات، و التحلي بالمسؤولية واعتبار ذكاء المواطن.. لينتهي كل هذا العبث.. المفروض، أو بالأحرى المأمول، أن ننتقل في الأشهر القليلة المقبلة إلى حياة سياسية سليمة، و لن تكون كذلك سوى بأحزاب سليمة، مادام أنه لا ديمقراطية بدون أحزاب سياسية حقيقية ، أحزاب جادة في قولها وفعلها، أحزاب مؤهلة لتدبير الشأن العام ليس بالشعارات و المزايدات بل ببرامج و أفكار وممارسة جادة و جريئة ... كل حزب سياسي ، مبدئيا وعلى العموم ( لكي لاأكون إطلاقيا) يسعى إلى تسيير الشأن العام عبر المشاركة في الحكومة وفي المجالس المنتخبة ، لاعيب في ذلك إطلاقا، لكن على أساس تطبيق برامجه و أفكاره في حدودها الدنيا على الأقل، و إذا لم تكن هناك شروط لهذا التطبيق او عراقيل " وجيوب المقاومة" هناك فعل سياسي معمول به في كل الدول الديمقراطية : الاستقالة ... أما المناورات و المزايدات والكذب على الناس و قول شيء وممارسة عكسه وقول ما لايمكن فعله، فلن يعود لها مكان، حسب المأمول دائما، في الممارسة السياسية و الحزبية الحقيقية والجادة.. وبدون ثقافة سياسية و حزبية جديدة جادة ومسئولة فلا يمكن للإصلاح الدستوري مهما كان متقدما أن يعطي النتنائج المرجوة ، فالدستور مجرد وثيقة وتطبيقها موكول لفاعلين سياسيين ومنهم بالاساس الاحزاب السياسية...