في الحروب غير المتكافئة، كما هو الشأن في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، المستمر منذ السابع من أكتوبر الماضي، يكون على الطرف المقاوم الأقل عدة وعددا، وهو فصائل المقاومة الفلسطينية في هذه الحالة، أن يخوض المعركة في الأمكنة، وبالتوزيع الزمني، وبالوسائل، أي بالشكل الذي يتيح تحييد فائض القوة لدى العدو أو على الأقل تقليصه إلى الحد الأدنى. وإذا كانت هذه القاعدة تسري على المواجهات على الأرض، فإنها تجري وبالقدر نفسه على الحرب الإعلامية والنفسية، وهي تسري بشكل أكبر في حالة العدوان الإسرائيلي بالنظر لتحكمه وحلفائه واللوبي الموالي له، في أغلب وأكبر وسائل الإعلام في كل بقاع العالم. وتشير أغلب التحليلات العسكرية إلى نجاح الفصائل المسلحة المقاومة في القطاع في الحيلولة دون تحقيق جيش الاحتلال الإسرائيلي لأهدافه الاستراتيجية من العدوان المسلح، وفي رفع كلفتها المادية والبشرية، عبر تبني تكتيكات ووتيرة اشتباك ملائمة، وعبر تثمين مكامن القوة الذاتية إلى أقصى حد والاستغلال الأمثل لمكامن ضعف العدو. أما على الساحة الإعلامية، فإن الاشتباك لا يقل ضراوة وتحييد "فائض القوة " لدى المعتدي يحتاج إلى استثمار أمثل للوسائل المتاحة للوصول إلى الأهداف المرجوة من جهة، ولتغطية مساحة زمنية قد تطول لأشهر أو حتى سنوات . فالموارد والوسائل المتاحة لفصائل المقاومة لخوض الحرب الإعلامية قد تتقلص مع اتساع رقعة المواجهات في شريط ساحلي ضيق، ومع تقلص الخيارات اللوجستية بحكم خطة جيش الاحتلال الإسرائيلي لتقطيع أوصال القطاع بين شمال ووسط وجنوب، بل وبين أحياء المنطقة نفسها. كما أن الأداء الإعلامي للمقاومة والمنافذ المتاحة يتأثرون بتغير موازين القوى في المحيط وفي العالم. وفي هذه القراءة الأولية نتوقف عند أهم التقنيات والخيارات التي ابتكرها القائمون على إعلام المقاومة السياسي والعسكري، لامتصاص الفارق في الانتشار مع سردية العدو وللتأقلم مع التغيرات الطارئة على الخريطة الإعلامية العالمية وعلى تركيبة واختيارات الجمهور. إجهاض "الشيطنة" مباشرة بعد عملية طوفان الأقصى في سابع أكتوبر 2023، والتي فاجأت العالم، ومنه جمهور المقاومة نفسه، وبعد ساعات من الارتباك في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي حول الواقعة وتوصيفها، انطلقت حملة إعلامية ضخمة لشيطنة المقاومة الفلسطينية لدى الرأي العالم الغربي أولا، وفي باقي مناطق العالم بالتبعية، مع محاولة لإيجاد امتداد لها في بعض المنابر الإعلامية العربية التي ركبت قطار تطبيع أسرع حتى من قطار تطبيع الحكومات نفسه. وقامت هذه الحملة على محاولة استغلال التغييب المقصود للقضية الفلسطينية إعلاميا على المستوى العالمي وحتى العربي لسنوات، وتثبيت سابع أكتوبر 2023 منطلقا لتحليل الصراع في المنطقة، وبالتالي تصوير عملية الفصائل الفلسطينية في غلاف غزة المحتل كعملية هجومية أفسدت "استقرارا" تنعم به شعوب المنطقة. اعتمدت هذه الحملة بشكل رئيسي على كبريات الشبكات التلفزيونية في أمريكا وأوروبا وامتداداتها المحلية، وعلى تدوير ما ستنتجه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وشبكة الانترنت عموما، حيث شكلت عملية طوفان الأقصى في البداية مادة "خبرية" مهيمنة . وقد اضطرت هذه الشبكات، في ظل الارتباك الذي ساد تل أبيب مباشرة بعد العملية، إلى استخدام صور بثتها المقاومة الفلسطينية مع إرفاقها بتقييمات تخرجها عن سياقها أو تضعها في سياق السردية الإسرائيلية التقليدية (الإرهاب الذي يستهدف المستوطن المسالم). ولم تستغرق هذه الصيغة إلا بضع ساعات حيث ستنتقل هذه الشبكات إلى الاعتماد وبشكل حصري على ما يقدمه جيش وسلطات الاحتلال من صور ومن تقييمات، بل وحتى من قاموس لتوصيف ما جرى. على الجانب الآخر أي إعلام المقاومة الفلسطينية، سيسود الصمت تقريبا لساعات طويلة بعد البث المكثف لصور عملية طوفان الأقصى، والتي كانت موجهة بالأساس لخدمة ثلاثة أهداف تحققت جميعها بشكل كبير، وهي اثارة انتباه وإعطاء زخم جديد لدعم شعوب الوطن العربي والعالم الإسلامي بالأساس للقضية الفلسطينية، وزرع الرعب في الجبهة الداخلية الإسرائيلية عبر خلخلة " يقينيات" التفوق العسكري السائدة وسط الجمهور الإسرائيلي، وإعادة القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث عبر العالم. وساد الاعتقاد خلال اليومين أو ثلاثة ايام التي أعقبت طوفان الأقصى بنجاح السردية الإسرائيلية حول العملية في كسب مساحات كبيرة وسط الرأي العام الغربي، وهو ما سيشجع لاحقا ساسة غربيين وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي جو بايدن على ترديد أكاذيب " قطع رؤوس الأطفال" في غلاف غزة يوم سابع أكتوبر. وفي هذه المرحلة بالضبط ستظهر أولى الشروخ في السردية الإسرائيلية خصوصا مع تداول صور الأجهزة الإسرائيلية والتصريحات السياسية التي رافقتها، على شبكة الانترنت، حيث ستنجح هيئات أو أفراد في الكشف وبشكل لا يترك مجالا للمراوغة، عن زيف كثير من هذه الصور ومضمون التعليقات الإسرائيلية، وما انبنى عليها من مواقف ومنها تصريح رئيس أكبر قوة في العالم. وقد كان للفشل في ترويج الصور والمعطيات المغلوطة وقع كبير على الحملة الدعائية الإسرائيلية والغربية عموما حيث تحولت السردية الإسرائيلية لدى شريحة واسعة من الرأي العام الغربي نفسه (وهو الأهم في المعادلة بالنسبة للآلة الدعائية الإسرائيلية)، إلى مجرد "رواية " طرف. كما أن هذا الفشل سيكون إشارة انطلاق حملة إعلامية مضادة جزء منها جاء بداية على شكل تصريحات وبيانات لفصائل المقاومة، لكن الجزء الأهم منها كان من شخصيات مستقلة في العالم العربي وحتى في الغرب نفسه، وهي الحملة التي ستشتد مع انتشار أولى صور الدمار والقتل الناجمين عن القصف الإسرائيلي لقطاع غزة، ليضطر إعلام السردية الإسرائيلية إلى الانتقال إلى مرحلة غير مسبوقة منذ 1948 حيث نزل سقف هذا الإعلام إلى مجرد ترميم "الصورة " وسط الرأي العام الغربي بالتحديد. تقديم الانجاز المسلح لأجيال ألعاب الفيديو مع انطلاق توغلات قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة في 27 أكتوبر الماضي، بعد حملة قصف سجادي دمر كل مظاهر وشروط الحياة في القطاع، انضاف عنصر جديد وحاسم للمواجهة الإعلامية بين إعلام السردية الإسرائيلية وإعلام المقاومة الفلسطينية المسلحة بالتحديد. فمع أولى الاشتباكات مع القوات الإسرائيلية المتوغلة، بدأ إعلام المقاومة في نشر مقاطع فيديو توثق كل إنجاز مسلح للمقاومة بالصوت والصورة، وأيضا بغرافيك مساعد على فهم مجريات الاشتباك وأهدافه. ويبدو أن القائمين على إعلام المقاومة يحرصون من خلال هذه الفيديوهات على مخاطبة الأجيال الجديدة من الجمهور العربي والعالمي حيث تم اعتماد تقنيات تماثل تلك المعتمدة في ألعاب الفيديو لتوضيح مسارات المواجهة وأهدافها، وترتيب الرسالة الإعلامية وفق نمط المستويات المعتمد في الألعاب الإلكترونية. ويمكن رصد هذا التوجه من خلال ثلاثة تقنيات مساعدة اعتمدها إعلام المقاومة في الفيديوهات الخاصة بالعمليات المسلحة ضد الجنود الإسرائيليين. ففي حالة رصد الفيديو أكثر من عملية أو عملية مركبة يتم ترتيب الرسالة الإعلامية ومراحلها من خلال المثلات أعلى يمين الصورة حيث يومض كل مثلث بعد الآخر ليعلن عن الانتقال إلى مرحلة أو عملية جديدة، وهو ما يطابق الانتقال في الألعاب الفيديو من مستوى إلى مستوى آخر. وفي ظل انتشار الدمار وركام المنازل المهدمة بفعل القصف الإسرائيلي المستمر لجميع مناطق القطاع، لجأ القائمون على إعلام المقاومة إلى تقنية تظليل الأهداف باللون الأحمر مثلا عند تقديم شرائط مصورة عن عمليات قنص أفراد أو دبابات من جيش الاحتلال، وذلك حتى يسهل على المتتبع رصدها وسط الدمار. تقنية أخرى تحيل على ألعاب الفيديو وهي إعادة مقاطع من الشريط بتقنية العرض البطيء لتقريب الهدف وإظهار ماهيته مع تصوير عملية القنص الواحدة أحيانا من زاويتين على الأقل. البيان العسكري ..من " صوت العرب" إلى "أبو عبيدة » ولأنه لا يمكن تصوير فيديو عن كل عملية، وخصوصا عن عمليات اشتباك قد لا يختار الفلسطيني بشكل مسبق موعدها ومكانها، فإن إعلام المقاومة يلجأ بين الفينة وأخرى إلى إصدار بيانات لتقديم حصيلة 24 ساعة أو يومين أوثلاثة أيام أو حتى أسبوع أو أكثر. وقد حرص هذا الإعلام على تقديم هذه البيانات بالصوت والصورة وهو ما ضمن عرضها بصياغتها الأصلية على مختلف وسائط الاتصال الجماهيرية. وفي هذا الإطار اختار إعلام الجناح العسكري لحركة حماس بشكل خاص تقديمها على لسان شخصية " أبو عبيدة" أو الملثم. إنه اختيار وفر ثلاثة إيجابيات، فالشخصية مثيرة للفضول باعتبار أنها تظهر ملثمة، والفضول هو أقوى دافع للمتابعة وقد يفوق في قوته الاهتمام وحتى التضامن أحيانا. أما الإيجابية الثانية فهي، أن البيان العسكري يصبح مادة حية قابلة للنشر على وسائل الإعلام التقليدية، وأيضا على الوسائط الرقمية، ومنها على الخصوص تلك المخصصة للفيديوهات القصيرة. لقد كانت شخصية "أبو عبيدة" دعامة ناجحة لنقل الرسالة الإعلامية للمقاومة، وأيضا لضمان حضور الصوت الفلسطيني حتى خارج وسائل الإعلام باعتبار أن الشخصية ستكون موضوع رسومات (غياب الوجه يسهل عملية الانتشار) على نطاق واسع، فيما ستكون الشخصية المعنوية محور أحاديث وتعاليق على وسائل التواصل الاجتماعي وحتى بين الناس بشكل مباشر مما يجعل القضية الفلسطينية والفعل المقاوم أكثر حضورا. وإذا كانت الانتشار الذي حققته شخصية " الملثم" ( ستعتمد "سرايا القدس" على شخصية " أبو حمزة" الملثمة أيضا) يذكر بذلك الذي حققته شخصية "حنظلة" لفنان الكاريكاتير الفلسطيني الراحل ناجي العلي ، فإن ظهور " الملثم" بالصوت والصورة وعلى وسائل اتصال أكثر جماهيرية من الصحف جعله رمزا لدى الكبار والصغار على حد سواء، ولدى شرائح واسعة بغض النظر عن أي تفاوتات في المستوى التعليمي والثقافي. وإذا كانت شخصية "حنظلة" في رسومات ناجي العلي، صبي فلسطيني لا يلقي بالا لما خلفه ولا للجمهور، من يأسه حينا ومن غضبه حينا، فإن " الملثم " وباعتباره ناطقا باسم مقاومة مسلحة يواجه الجمهور وإن كان يخفي وجهه حتى يظل، كما حنظلة تماما، رمزا يمكن إسقاطه على كل واقعة مقاومة. إن تقديم البيانات العسكرية على لسان شخصية بهذه المواصفات يضمن لها انتشارا أوسع وعلى مختلف الوسائط وتقبلا أفضل، وهي قد تكون نقلة في مجال البيان العسكري العربي الذي لم يخرج في معظمه حتى الآن عن حماسة إذاعة " صوت العرب" أواسط القرن العشرين. التوازن بين صورتين: الشعب ضحية الجرائم والشعب المقاوم يبدو أن إعلام المقاومة الفلسطينية، وخصوصا منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي بالتحديد، يتحرك فوق خيط رفيع، قوامه، الحفاظ على ذلك التوازن الدقيق في صورة الشعب الفلسطيني لدى الجمهور العربي والعالمي. فالشعب الفلسطيني شعب وقع ضحية أكبر ظلم شهده التاريخ الحديث، وهو ظلم يتم تصريفه على شكل جرائم ومذابح في حقه، أفرادا ومجموعات، منذ ما يزيد عن قرن من الزمن، غير أن الشعب الفلسطيني هو أيضا شعب مقاوم لم يستسلم للاحتلال ولم يمكنه من احتلال الأرض بدون ثمن بل بدون شعور بأن الرحيل عنها احتمال قائم دائما. وقد نجح إعلام المقاومة الفلسطينية في عمومه (مقاومة عسكرية وخطاب سياسي) في صون هذه الخلطة الفريدة في التاريخ، على الأقل بهذا الامتداد في الزمن. وفي هذا الصدد وجب التوقف عند توزيع الأدوار في إعلام المقاومة الفلسطيني بين ناطقين ومتحدثين باسم حركات المقاومة خارج فلسطين والمتحدثين باسم مصالح استشفائية وبلدية في غزة من جهة، والمتحدثين باسم الأجنحة المسلحة التي تخوض المعركة ميدانيا من جهة أخرى. فالفئة الأولى من المتحدثين باسم المقاومة بشكل مباشر أو غير مباشر، يتولون تقديم حصيلة المذابح المرتكبة في حق الشعب الفلسطيني وبالتفصيل والصور فيما يتحدث الاعلام العسكري للمقاومة حصريا عن العمليات المسلحة ضد قوات الاحتلال وبالتفصيل أيضا وبالصوت والصورة أحيانا. إن توزيع الأدوار هذا سمح من جهة بإظهار دموية الاحتلال الإسرائيلي وحلفائه وتزكية ما تتناقله وسائل الإعلام من مشاهد دمار وقتل وتشريد للفلسطينيين، وسمح في الوقت نفسه بترسيخ فكرة إرادة وقدرة الجانب الفلسطيني على المواجهة والصمود وتكبيد المعتدي خسائر كبيرة، بمعنى آخر حرص إعلام المقاومة من خلال هذا التوزيع الدقيق للأدوار على صناعة رأي عام متضامن مع الفلسطيني ضحية غطرسة عسكرية بلا حدود ومساند(الرأي العام) في الوقت نفسه للفلسطيني كمقاوم قادر على المواجهة والصمود. إعلام المقاومة، الحقيقة والحق في ختام هذه القراءة العامة والأولية في إعلام المقاومة وبعض السبل التي سار عليها لتحييد فائض الانتشار الذي تتمتع به سردية العدو بفضل الشبكة الواسعة والممتدة للمنابر الإعلامية التي يتحكم فيها الإسرائيلي وحلفاؤه عبر العالم، لا بد من الوقوف عند معطى أساسي قد يتجاوز في مفعوله كل التقنيات والأساليب المبتكرة هذه. إن الحقيقة أكبر خادم للحق وهي القاعدة التي تأسس عليها إعلام المقاوم الفلسطيني حيث لم يثبت لحد الآن نشره لمعطى كاذب سواء تعلق الأمر بعدد الشهداء أو بسير عمليات المواجهة المسلحة. كما أن الحقيقة لا تحتاج في بعض الأحيان إلى سياسة إعلامية مساعدة لتطفو على السطح وتنتشر عبر العالم، وهو ما تجسد في تلك الصورة المؤثرة لتلك الأسيرة العجوز التي حرصت، قبل أن تغادر على متن عربة الصليب الأحمر الدولي بعد الإفراج عنها، على مصافحة أحد عناصر كتائب القسام في حركة تلقائية نسفت في ثوان كل السردية الإسرائيلية عن معاملة المقاومة للأسرى وللمستوطنين خلال عملية طوفان الأقصى، وهو ما ستؤكده شهادات أسرى إسرائيليين مفرج عنهم لاحقا. إنها وقائع تؤكد أن أكبر خدمة يمكن تقديمها لصاحب حق هو إظهار الحقيقة ولاشيء غير الحقيقة. صحافي من المغرب