يبدو أن معركة نساء ورجال التعليم تأخذ هذه المرة صورة لم يألفها أحد، ولم يكن يتوقعها الكثيرون، خصوصا هؤلاء القائمين على الشأن التعليمي في المغرب، الظاهر منهم والخفي. وربما ذلك ما يفسر الاستخفاف الذي تعامل به هؤلاء في مستويات متعددة، سواء في صياغة نظام أساسي لا يوجد أبلغ من التعبير المغربي (الحكرة) لوصفه، أو من خلال خرجات إعلامية مستفزة، وغير محسوبة. لكن يبدو أن السحر انقلب على الساحر، ولو كنا في وضع طبيعي لقدم كل هؤلاء الذين خرجوا في تلك الخرجات الإعلامية، وخاطبوا نساء ورجال التعليم بتلك الطريقة الاستعلائية والمستفزة استقالاتهم تباعا، ولتحسس الكثيرون رؤوسهم. لكن يبدو أن زمن ربط المسؤولية بالمحاسبة لم يحن بعد لكبار المسؤولين . . . أما لماذا يجمع نساء ورجال التعليم على رفض هذا القانون المشؤوم باختلاف فئاتهم وتلاوينهم، فذلك يعود لأسباب عديدة ومركبة. بعضها يهم طريقة تمريره، وبعضها الآخر يهم طريقة تسويقه. أما أهمها فيرتبط بمضامينه وصياغته التي هي عبارة عن فخاخ مركبة، يقود الواحد منها إلى الآخر. 1 طريقة التمرير: قضى نساء ورجال التعليم سنتين من الانتظار، وانخرطوا في سِلْمٍ اجتماعي مجاني عاقدين الأمل على ما تم تسويقه على أنه منهجية تشاركية، تجمع بين الدولة ممثلة في الوزارة الوصية على القطاع وبين المؤسسات الشرعية الممثلة لنساء ورجال التعليم، وهي النقابات الأكثر تمثيلية. وحتى أكثر المتشائمين كان يعتقد أنه لا بد أن تكون الدولة قد التقطت الإشارات العديدة التي توالت والتي ستجعلها تحسم في علاقتها بالتعليم، في اتجاه التصالح معه، باعتباره المدخل الحقيقي لكل تنمية. وقد التقط نساء ورجال التعليم وجود الوزير شكيب بنموسى على رأس الوزارة باعتباره مهندس النموذج التنموي على أنه مؤشر على جدية الدولة في التعامل مع هذا الملف الذي يبدو أن كل برامج الإصلاح السابقة لم تزده إلا فسادا وانهيارا. لكن منذ البداية كان هناك إشارتان سلبيتان: الأولى تتصل بسرية المداولات في ملف ينبغي أن يكون على قائمة النقاشات المجتمعية، وأن ينفتح على كل الملاحظات والآراء المجتمعية، والثانية هي عدم قيام الوزير بأي تغيير في إدارته المركزية، على الرغم من أن الكثيرين داخلها ارتبطت أسماؤهم بتقارير المجلس الأعلى للحسابات، كما ارتبطت بالمسؤولية الأخلاقية عن فشل الإصلاحات السابقة، ما يقتضي، إذا كانت هناك إرادة حقيقية للإصلاح، أن يكون هؤلاء خارج اللعبة، وأن يأتي الوزير بفريق جديد، يستطيع أن يقدم به رسالة واضحة على الرغبة في القطع مع التجارب الفاشلة السابقة. وقد ظهر جليا لكل المتتبعين أن الكفة رجحت للإشارات السلبية، ففي الوقت الذي تقدمت فيه النقابات بمذكرة تعديلية مشتركة، بتاريخ 22 شتنبر 2023 ضمنتها مجموعة من الاقتراحات التعديلية أو الإضافية، تفاجأ هذه النقابات، ومعها الرأي العام، بأن وزير التربية قرر إحالة مشروع النظام الأساسي على المجلس الحكومي حتى قبل التوافق النهائي عليه مع التنظيمات النقابية، وأن المجلس الحكومي قد صادق عليه فعلا يوم 27 شتنبر 2023. ما لم ينتبه إليه الوزير، ومن معه، أنه بهذا الفعل غير المسؤول سيدخل القطاع في حالة غليان غير مسبوق، بدأ بحالة من الذهول، وباتهامات صريحة للتنظيمات النقابية المشاركة في الحوار بالخيانة. أما النقابات فقد ابتلع بعضها لسانه، فيما صدرت ردود فعل متناقضة من بعضها الآخر. واحدة فقط (النقابة الوطنية للتعليم التابعة للكونفدرالية الديموقراطية للشغل) تميزت بموقفها الواضح عندما أصدرت يوم 28 شتنبر 2023 بيانا تقلب فيه الطاولة على الوزير، وتندد بتهريب النظام الأساسي دون استكمال التفاوض حوله، وتدعو لعقد مجلسها الوطني لتدارس الرد المناسب. ولكن النتيجة النهائية أن النقابات كلها وجدت نفسها معزولة، ما فتح المجال لظهور تنظيمات جديدة تقود الصراع، كان أهمها التنسيقية الوطنية لأساتذة التعليم الثانوي، والتي كان ميلادها نتيجة طبيعية للإقصاء الغريب والكلي من أي استفادة من هذا النظام سواء ماديا أو معنويا. بل إن هذه الفئة وجدت نفسها وقد ضيع هذا النظام مكتسباتها القديمة. وسيتوالى بعد ذلك ميلاد تنسيقيات جديدة، أو دخول مجموعة من التنسيقيات القديمة في تحالفات توحيدية. والنتيجة مجموعة من المعارك النضالية غير المسبوقة، قادت إلى شل المدرسة العمومية، بدأت بمعركة 5 أكتوبر التي دعت إليها تنسيقية أساتذة التعليم الثانوي التأهيلي، قبل أن تلتحق بها مجموعة من التنظيمات الأخرى. وقد وجهت الشغيلة التعليمية، خلال ذلك اليوم، رسالة قوية إلى كل المتدخلين في الموضوع. وكان لدى الوزارة الوصية فرصة للتراجع، ووقف الاحتقان، لكنها اختارت أسلوب التجاهل والاستعلاء والتحدي، وقامت بإخراج القانون في الجريدة الرسمية أياما قليلة بعد ذلك. وهو الأمر الذي اعتبره نساء ورجال التعليم تحديا لهم واستخفافا بهم، يستوجب الرد المناسب. 2 طريقة التسويق: ظهر منذ البداية أن الوزارة في خرجاتها الإعلامية تواصل استراتيجية بدأتها للأسف منذ سنوات. فهي لا تتوجه بالخطاب إلى نساء ورجال التعليم، وإنما إلى الرأي العام بهدف توريط المدرس والتأليب عليه. وكأنها في كل خرجاتها تمارس ضد رجل التعليم حربا ينبغي أن تكسبها (يجب تحليل الأسباب العميقة لهذا الأمر، فما دامت هذه العقلية هي جوهر العلاقة بنساء ورجال التعليم داخل الوزارة الوصية على القطاع فلا يمكننا التقدم أبدا). وهذه الحرب لن تصبح بالنسبة إليها مربوحة إلا إذا تمكنت من إقناع الرأي العام بسرديتها. أما رجل التعليم ومخاطبته أو العمل على إقناعه فذلك آخر ما تفكر فيه الوزارة. ظهر ذلك جليا في الكبسولات التي اجتهدت الوزارة في ترويجها. وكثير منها مملوء بالمغالطات، وظهر ذلك أيضا في خرجات ممثليها، واستفرادهم بوسائل الإعلام العمومي، دون أن تعطى الفرصة للرأي الآخر للتعبير عن نفسه. بل أحيانا حتى الإعلاميون يساهمون في التعتيم ونشر المغالطات بشكل مباشر (الحوار الذي أجراه الوزير على إحدى القنوات الرسمية، ذكرت فيه المحاورة أن نساء ورجال التعليم يحصلون على سبعين (70) درهما كزيادة سنويا. وهو أمر، بطبيعة الحال على ضعفه غير صحيح إطلاقا)، أو غير مباشر، عن طريق ضعف شخصيات المحاورين، وعدم قدرتهم على طرح الأسئلة الحقيقية التي من شأنها تنوير الرأي العام بحقيقة ما يجري. والنتيجة سيادة الصوت الواحد. هذا الشكل التسويقي بصورته العدائية والمستفزة، والذي يعتمد على تزييف المعطيات ومخاطبة نساء ورجال التعليم باستعلائية وسلطوية سيمد حطب المدرسة العمومية اليابس أصلا بكل الزيت اللازم لإشعاله. لقد قامت استراتيجية الوزارة في مخاطبة نساء ورجال التعليم لا على الحجاج وإنما على التطويع بتعبير المختصين. والفرق هو المسافة بين مخاطبة العقل التي يعتمدها من يؤمن بصحة موقفه وسلامة تصوره، وبين اعتماد أدوات الإكراه التي يستعملها من يدرك ضعف موقفه واختلا ل أطروحته. ومن خلال متابعتي اعتمدت الوزارة وموظفوها في خرجاتهم على مستويات متنوعة من التضليل، تستهدف شيطنة نساء ورجال التعليم، وتقديمهم في صورة الكائنات الكسولة التي لا تريد أن تشتغل، والكائنات الجشعة التي لا تشبع (ولا تحمد الله) على الرغم من كل الامتيازات التي تقدم لها. استراتيجية التضليل هذه اعتمدت فيها أحيانا على الكذب الصريح، وأحيانا على التمويه من خلال تضخيم بعض المعطيات أو تحجيمها، ضمن آلية التأطير. أ الكذب: الأكذوبة الكبرى هي أن هذا النظام فيه مكاسب كبيرة لبعض الفئات، وليس الأمر كذلك. ولنضرب لذلك مثلا سنناقش وضعية أساتذة التعليم الابتدائي التي يُروج أنها المستفيد الأكبر في فئة المدرسين. فما هي الفائدة التي قدمها النظام الأساسي لهذه الفئة؟ في الواقع الجواب عن هذا السؤال يقودنا إلى كذبة أخرى، وهي استجابة الوزارة لمطلب الدرجة الجديدة الذي كان موضوعا لاتفاقات تفاوضية سابقة، دون أن يتحقق مع الحكومات السالفة. الحقيقة أن مفهوم الدرجة الجديدة، كما تم التوافق حوله في الحوارات الاجتماعية السالفة (26 أبريل 2011)، وكما تدل على ذلك تسميته، هو مطلب عام يقترن بتجاوز خلل في نظام الترقي في الوظيفة العمومية، يجعلها نظاما غير محفز، تنغلق فيه إمكانيات تطوير وضعية الموظف في مرحلة مبكرة من نشاطه المهني. وقد اقترن هذا المطلب بالخصوص بفئة الموظفين الذين يلجون أسلاك الوظيفة العمومية بالسلم العاشر أو الحادي عشر، إذ يجدون أنفسهم بدون أفق للترقي بعد ولوج الدرجة الممتازة. ولتصحيح هذه الوضعية وعدم غلق دينامية التحفيز باعتبارها المدخل لتطوير الأداء تم التوافق على إحداث درجة، لم تكن مدرجة في أنظمة الوظيفة العمومية، ولهذا سميت جديدة. ما حدث لأساتذة التعليم الابتدائي هو مظلمة كبيرة انتهت بِجَبْر فقير. ففي وقت معين كان الولوج إلى مهنة التعليم الابتدائي يتم بشواهد غير الإجازة، وبالتالي يجد أستاذ التعليم الابتدائي نفسه منظما في سلالم دنيا من أسلاك الوظيفة العمومية. ولما كان العبور نحو سلم آخر يقتضي أكثر من عشر سنوات (لم يكن مكسب الامتحان المهني الذي يقدم إمكانية اختصار المسافة إلى ست سنوات موجودا بعد)، فقد كان «طبيعيا» أن ينتهي المسار المهني لأستاذ التعليم الابتدائي في حدود السلم العاشر، وفي أقصى الحالات في السلم الحادي عشر (11). لكن هذا الوضع تغيرت مدخلاته دون أن تتغير مخرجاته. فلم يعد، ومنذ سنين، مسموحا بولوج مهنة التعليم الابتدائي بواسطة شهادة البكالوريا، بل أصبح مطلوبا من المترشح لهذه المهنة أن يكون حاصلا على الإجازة (هناك من ولجها بدبلومات أكبر). وقد ترتب عن هذا وضع جديد، حيث صار أستاذ التعليم الابتدائي يلج مباشرة إلى السلم العاشر مثله مثل أستاذ التعليم الثانوي مثلا. وكان هذا يقتضي منطقيا أن يرافق ذلك تغيير في المخرجات، فيتدرج أستاذ الابتدائي في سلم الوظيفة العمومية مثله مثل أستاذ الثانوي، أو لتكون المقارنة أصح مثله مثل سائر الموظفين العموميين. ولكن للأسف هذا لم يكن تُتيحه الأنظمة السابقة، فبمجرد أن ينتسب الإنسان المغربي إلى فئة أساتذة التعليم الابتدائي حتى يُحكم عليه، بشكل غير مقبول منطقيا وأخلاقيا، بأن يتوقف مسار الترقي عنده في حدود السلم الحادي عشر (11)، فيما يمكن لأستاذ التعليم الثانوي أن يواصل إلى خارج السلم. ما فعلته الوزارة الآن هو أنها صححت خطأ جسيما، ظلت تقترفه في حق أساتذة الابتدائي، بأن صححت الوضع القانوني الذي سينسجم مع المدخلات الجديدة للمهنة، ومكنتهم أخيرا مما هو حق لهم، أي ولوج خارج السلم. وليس هناك أي درجة جديدة. فأستاذ الابتدائي إذا كان صغير السن سيجد نفسه، على الرغم من هذا التصحيح، في نهاية مسار الترقي الذي تتيحه المنظومة الحالية سجينا في زنزانة جديدة هي زنزانة خارج السلم التي لا يوجد حتى الآن ما يمكن موظفي القطاع كلهم من تجاوزها. صحيح أن هذا الإجراء سيستفيد منه عدد من أساتذة التعليم الابتدائي الذين ولجوا المهنة بمدخلاتها القديمة؛ ولكنه، في جمع الأحوال، لا يتعلق بإحداث درجة جديدة، وإنما فقط تصحيح مظلمة كبيرة، وتمكين أساتذة الابتدائي من جق كانوا محرومين منه لأسباب غير مفهومة، وهو أمر لا يستدعي الاحتفاء والتطبيل، وإنما الاعتذار عن تأخره. لكن السؤال الأهم ما الذي استفاده بقية أساتذة التعليم الابتدائي الذين هم غير معنيين بشكل مباشر بهذا المكسب؟ وهم الفئة الغالبة. الجواب هو لا شيء. نعم لا شيء. أما سؤال كم عدد هؤلاء الذين سيستفيدون (علما أنهم لن يشرعوا في الاستفادة إلا ابتداء من 2024)؟ وماهي المدة التي سيقضونها في هذه الدرجة؟ وعلاقة ذلك بالتأثير على مستحقاتهم في التقاعد؟ فهذا نقاش آخر سيكشف فظاعات أخرى. في جانب آخر كنا ننتظر في هذا الحوار أن يتم الإفراج أخيرا عن التعويض الخاص بالأساتذة العاملين في المناطق النائية، والذي كان موضوع توافقات اجتماعية سابقة، من جهة، ونقطة من النقط التي نص عليها القانون الإطار من جهة ثانية. وكان هذا التعويض محددا في مبلغ سبعمائة (700) درهم. مع إلفات الانتباه إلى أن هذا الرقم صار متجاوزا، وكنا ننتظر مراجعته في اتجاه الرفع منه. لذلك لا داعي للكذب على الرأي العام وادعاء أن هناك مجموعة من الفئات التي استفادت من هذا النظام المشؤوم. ب التمويه: يتعلق التمويه بتقديم معلومات قد تكون صحيحة، ولكنها تتضمن مجموعة من المغالطات، تؤدي إلى تقديم الأشياء في غير صورتها الحقيقية. ومثال ذلك الحديث عن تخصيص ميزانية ضخمة للتعليم، تتجاوز كل الأرقام التي رصدت سابقا. السؤال هو: وبعد؟ الأصل أن هذا هو الوضع الطبيعي، فلماذا يتم تقديمه في صورة الاستثناء والإنجاز؟ أما لماذا هذا هو الوضع الأصلي؟ أي لماذا ينبغي أن تُعبأ أهم موارد الدولة لقطاع التعليم؟ فهذا سؤال سأجيب عنه بعجالة تجنبا للاستطراد. أولا، الخطابُ الرسمي نفسه يقدم التعليم باعتباره القضية الأولى بعد قضية الوحدة الوطنية؛ ثانيا، يستقطب هذا القطاع العدد الأكبر من موظفي الدولة، فطبيعي أن تكون كتلة الأجور فيه أكبر من غيرها (كتلة الأجور وليس قيمة الأجور التي هي الأدنى ضمن باقي القطاعات)، وبالتالي يؤثر ذلك على الأرقام المرصودة لميزانيته؛ ثالثا، هو القطاع الذي يهم بشكل مباشر جميع الأسر المغربية، ويؤثر بالنتيجة وضعُه على أوضاعِها. فجميع القطاعات الأخرى يتعامل معها المواطن المغربي في سياقات محددة ومخصوصة (لا نلجأ إلى قطاع الصحة، مثلا، إلا إذا كنا مرضى)، بينما التعليم هو القطاع الوحيد الذي يتعامل معه المواطن المغربي يوميا، عبر المدرسة. . من جهة أخرى، وهذا هو الأهم، لا تلازم بين تخصيص ميزانية ضخمة وتحقيق الإصلاح، فلقد سبق أن خُصصت ميزانيات ضخمة، ظهر، فيما بعد، من خلال تقارير رسمية أنها ذهبت إلى أماكن أخرى غير المدرسة (نموذج البرنامج الاستعجالي). والسؤال الأهم سواء كانت الميزانية كبيرة أو صغيرة هو ما الذي يصل حقيقة منها إلى الأستاذ؟ الحواب الذي يقدمه هذا النظام الأساسي هو لا شيء. إنه إصلاح بطموح كبير ربما، ولكن بصفر (0) درهم؟ وما الذي يصل من هذه الميزانية فعلا إلى التلميذ المغربي عبر المدرسة العمومية؟ يستمد هذا السؤال شرعيته من واقع ما يحدث في هذه المدرسة العمومية التي يقول الواقع أن لا شيء يصل إليها. التمويه الثاني يرتبط بالتعويضات التي قدمت لبعض الفئات، والتي تم تسريبها وترويجها بنفس الطريقة الفضائحية التي تُسوق بها، دائما، أي زيادة في أجور نساء ورجال التعليم، فيرافقها تطبيل وتهليل، وكأنهم الموظفون الوحيدون الذين يحصلون على حقوقهم في هذا البلد، بينما تمر زيادات القطاعات الأخرى بصمت إعلامي، وأحيانا بسرية تامة. ولهذا وجدنا من يتحدث عن زيادة أرقام فلكية لبعض فئات الشغيلة التعليمية. وما ذلك بصحيح. فما سبب هذا الوهم الذي انتشر كالنار في الهشيم، وخلق أحيانا، بسبب ضعف الوعي عند بعض العاملين في القطاع، بعض التوتر والتشنج بين هذه الفئات وغيرها. صحيح أن الوزارة، وربما لغاية في نفس يعقوب، فَرَّدت بعض الفئات ببعض الزيادات في التعويضات عن المهام، وليس في الأجر. وقدمت أرقاما توهم المتلقي بأهمية الزيادات المقدمة. ما لا يخبر به هذا المتلقي أن الوزارة اختارت تقديم المجموع السنوي للزيادة، وليس الشهري. لذلك فالرقم المقدم قبل الحديث عن فلكيته وجب قسمته على اثني عشر شهرا، وقبل ذلك وجب احتساب الاقتطاع الضريبي الذي سيخضع له ذلك المبلغ لتظهر حقيقته. وأهم من ذلك أن المبالغ المصرح بها ليست زيادات صافية، بل مجموع التعويضات عن المهام بما فيها تلك التي ورثتها الفئة عن الأنظمة السابقة. والنتيجة أن الزيادات التي سوقت على أنها زيادات فلكية هي، في الواقع، زيادات هزيلة، لا تليق بجسامة المسؤوليات التي على عاتق تلك الفئات. إن هذه الطريقة في تقديم المعلومة تكشف أن هناك عقلا ذكيا عوض أن يستثمر ذكاءه في ابتداع الحلول للمشاكل الحقيقية التي تعيشها الشغيلة المغربية، يستثمر ذكاءه في خلط الأوراق، وصناعة البؤس. 3 مضمون النظام الأساسي: ثالثة الأثافي كانت هي محتوى هذا النظام الأساسي، وما شابه من هنات ونواقص، فاجأت حتى أكثر المتشائمين. فهناك مجموعة من العناصر التي خلقت أفق توقع مرتفع عند نساء ورجال التعليم، وكل المتتبعين للشأن العام في المغرب. ذلك أن النموذج التنموي الذي يعتبر وزير التربية الوطنية مهندسه قد أبدى وعيا كبيرا بهشاشة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للعاملين في القطاع، واعترف صراحة بأن أوضاعهم هي أقل مما يطبق على فئات من الموظفين تتوفر على نفس مستوى تأهيلهم، أو أقل منهم. أما البرنامج الحكومي فقد نص حرفيا على أن «إعادة الاعتبار لمهنة التدريس تمر بالضرورة عبر تحسين دخل الأستاذ»، بل تم الحديث عن الزيادة المرتقبة بالأرقام (2500 درهما) منصوصا عليها في النسخة المطبوعة للبرنامج، كما تم تداولها داخل المؤسسات التشريعية المغربية وغيرها. كما أن نتائج الحوارات القطاعية الأخرى والتي أفضت إلى زيادات مهمة في عديد من القطاعات، تتجاوز ثلاثة آلاف درهم في بعضها، جعل الجميع يؤمن بأن قطاع التعليم سيحظى بدوره بزيادة مهمة تصحح أوضاع مختلف الفئات العاملة فيه. حتى المتشائمون كانوا يتحدثون عن الزيادة في الأجور باعتبارها واقعا. كان النقاش عندهم مرتبطا فقط بمبلغ هذه الزيادة ومدى انسجامها مع طبيعة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الحالية الموسومة بالتضخم وغلاء المعيشة. لكن صدمة الجميع كانت قوية، فبعد عامين من الانتظار، انقشع النظام الأساسي الجديد عن إصلاح بصفر درهم بالنسبة لفئة المدرسين بكل مكوناتها، وبزيادات هزيلة وملغومة بالنسبة لبعض الفئات ممن أراد البعض أن يقنعنا بأنها محظوظة. زاد من حدة التوتر الكذب العلني الذي مارسه المسؤولون أمام الرأي العام، حول تحسين دخل المدرسين، بل إن رئيس الحكومة نفسه قد تورط في هذا، وتحدث عن زيادة أجور الأساتذة (تصريحه في الجلسة المشتركة لتقديم برنامج الدعم الاجتماعي المباشر)، ولا زيادة تمت حقا. لقد وصلت أوضاع نساء ورجال التعليم، بفعل توالي سنوات التهميش، وبفعل غياب أي زيادة قطاعية، إلى درجة من التدني صارت تحتل بها المراتب المتأخرة في الأجور، وطنيا وعربيا ودوليا. وهو أمر لم يعد مقبولا البتة. وزير التربية الوطنية عندما طُرح عليه السؤال بهذا الخصوص لم يستطع أن يجادل في شرعية المطلب (ومن يستطيع أن يفعل؟). ولكنه تحدث عن زيادات أفقية، يمكن أن يشكل الحوار المركزي إطارا لها. لكن هذا التصور، في اعتقادنا، غير سليم، فقد عانى القطاع من تهميشه على مستوى الأجور عموديا، وظلت الزيادات المحدودة التي تحققت له تأتي دائما في إطار الحوارات الأفقية الممركزة، بعد أن تكون أكثر القطاعات قد حصلت على زيادات عمودية، مما يؤثر في حجم ما يتقرر من زيادات على المستوى الأفقي، على اعتبار أن هناك فئات من الوظيفة العمومية قد استفادت من زيادات معقولة، ولا يمكن مكافأتها مرتين، إلا في حدود معينة. وفي نهاية المطاف تتقرر زيادات محدودة وفقيرة، تغيب معها العدالة الأجرية، ويفقد الأستاذ مع كل حوار اجتماعي شيئا من ترتيبه في سلم الأجور، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن. لذلك فإن كثيرا من العاملين في القطاع لم يعودوا يطالبون بالزيادة في الأجر، وإنما بالعدالة الأجرية، بما يقتضيه ذلك من مساواة مع موظفي باقي القطاعات، وخاصة القطاعات المدللة. على الرغم من قسوة هذا الأمر(غياب الزيادة في الأجور) فلم يكن هو الدينامو الأساس لحراك نساء ورجال التعليم. بل هو أمر آخر. فقد ظهر بعد أن أصبح المرسوم متاحا أنه يتضمن خللا كبيرا، يتناقض كليا مع أحد أهم المبادئ التي بني عليها هذا القانون. وهو مبدأ التلازم بين الحقوق والواجبات؛ لأن ما انتهى إليه هذ القانون هو إثقال كاهل نساء ورجال التعليم بالواجبات سواء القديمة أو الجيل الجديد الذي استحدثه هذا النظام، دون أن يرافق ذلك عناية بالحقوق. يتجلى ذلك في مجموعة من النقط، تتحدد، من خلال متابعاتي المباشرة للموضوع، في أربعة، هي: ساعات العمل والمهام والعقوبات ثم نظام التحفيز. أ ساعات العمل: في الوقت الذي كان ينتظر فيه نساء ورجال التعليم الإعلان الرسمي عن تخلي الوزارة عما يعرف بالساعات التضامنية، وقدرها ثلاث ساعات لكل سلك تعليمي، والعودة إلى الوضع الأصلي، يفاجأ العاملون بالقطاع بأن المادة الثامنة والستون (68) من الباب العاشر (10) ورد فيها ما يلي: «تحدد مدة التدريس الأسبوعية بقرار السلطة الحكومية المكلفة بالتربية الوطنية. تؤشر عليه السلطة الحكومية المكلفة بالوظيفة العمومية.». أي أن النظام الأساسي الذي يشكل أساس التعاقد بين المدرسين والسلطات الحكومية المكلفة، يترك المجال الزمني مفتوحا أمام جميع الاحتمالات. وهو فعلا أمر خطير جدا لأسباب عديدة. منها مثلا أنه لا يمكن الحديث عن الساعات الإضافية والتعويض عنها بدون تحديد للساعات الأصلية. صحيح أن الوزير طمأن في إحدى خرجاته العاملين بالقطاع، وصرح بعدم وجود أي تغيير في ساعات العمل. ولكن السؤال البديهي الذي يطرح نفسه، هو: إذا كان ذلك كذلك فعلا فلماذا لا يتم التنصيص على الأمر بوضوح ضمن بنود القانون الأساسي؟ ب المهام: في الواقع هذه واحدة من أكثر النقط إثارة للجدل بين سائر الفئات التي يتناولها النظام الأساسي. وسأركز، شخصيا، من باب التمثيل، على فئة المدرسين. ففي الباب الثاني من النظام الأساسي تُرتب وتُرسم المادة الخامسة عشرة (15) مجموعة من المهام الجديدة، غير مهمة التدريس، من مثل المشاركة في تنظيم المباريات وامتحانات الكفاءة المهنية، أو المشاركة في الأنشطة المدرسية والأنشطة المندمجة والدعم المدرسي. الإشكال لا يوجد في هذه المهام في ذاتها، ولكن في ترسيمها دون ترسيم أي تعويض عنها. ومن باب المقارنة المفيدة لمهندسي النظام الأساسي في فهم سبب غضب نساء ورجال التعليم، أن الموظفين في القطاعات الأخرى يعتبرون حراسة المباريات والامتحانات المهنية امتيازا، ويكون عادة مصدرا للكثير من المناوشات ممن تم إقصاؤهم من الحراسة، فلماذا يغضب هذا الأمر نساء ورجال التعليم؟ الجواب ببساطة هو أنه في كل القطاعات الأخرى يعوض الموظفون عن هذه الحراسة بمبالغ قد تربو على الخمسمائة (500) درهم عن كل يوم أو نصف يوم أحيانا. في حين يجد المدرس نفسه يقوم بهذه المهمة بدون أي تعويض، بل حتى قنينة الماء التي سيستعملها أثناء الحراسة عليه أن يشتريها من ماله الخاص. تتعمق المشكلة التي تطرحها المهام في المادة السابعة والستين (67) من الباب العاشر التي ورد فيها حرفيا «يتم تدقيق وتفصيل المهام المنصوص عليها في هذا المرسوم، أو إسناد مهام أخرى للمعنيين، بقرار السلطة الحكومية المكلفة بالتربية الوطنية». إن جملة « أو إسناد مهام أخرى للمعنيين » هي بمثابة قنبلة موقوتة، يمكنها أن تنفجر في أي وقت مخلفة شظايا كثيرة، وهي جملة تنقلنا من القرن الواحد والعشرين لتعود بنا أدراجا إلى أزمنة العبودية. أما الأنشطة الموازية، فعدا أنها تتطلب تكوينا خاصا واستعدادات شخصية قد لا تتوفر لدى الجميع، فإنها أيضا تطرح مشكل التعويض باعتبارها أعباء إضافية. نعم لقد صرح الوزير في لقائه الحواري بالقناة الأولى أن هذه المهام ستكون ضمن الغلاف الزمني العادي للأستاذ، ولن تمارس خارجه. ولكن، تواجه هذا التطمين للأسف ملاحظتان تعصفان به: الأولى أن هذا الغلاف الزمني غير محدد في هذا المرسوم، والثانية وهي أخطر. وقد تضمنها الباب السابع المتعلق بالتحفيز المهني، إذ شرط الحصول على المنحة التحفيزية بمجموعة من الشروط، حددها في خمس عوارض، يهمنا الأخيرة منها. فقد ورد فيها حرفيا: «تقديم أنشطة الدعم التربوي المبرمج خارج حصص التدريس المعتمدة» أظن أن منطوق النص صريح ويغني عن أي تعليق. ج نظام العقوبات: في الوقت الذي لم يتضمن النظام الأساسي السالف (2003) أي إشارة إلى العقوبات، واكتفى بالتالي بالعقوبات المتضمنة في قانون الوظيفة العمومية، باعتبار المدرس موظفا عموميا يسري عليه ما يسري على سائر الموظفين العموميين، نجد النظام الأساسي الجديد قد خصص بابا كاملا للعقوبات، هو الباب التاسع، ضمنه عقوبات تتوزع على أربع درجات، وتمتد لأكثر من صفحة ونصف. يستوجب هذا الباب مجموعة من الملاحظات، أولاها اختلاف هذه العقوبات عن العقوبات المنصوص عليها في النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية. عددا ودرجة. فقانون الوظيفة العمومية يقسم العقوبات إلى درجتين فقط، بينما يقسمها النظام الأساسي إلى أربع درجات، تتضمن كل منها مجموعة من الأحكام، بعضها غير متضمن في النظام الأساسي الوظيفة العمومية. يتذكر الجميع كيف أن مدير الموارد البشرية في الوزارة، في خرجته الإعلامية، حاجج في النقطة المتعلقة بعدم الرفع من الأرقام الاستدلالية بضرورة البقاء في مقاييس نظام الوظيفة العمومية، وأنه لا يمكن تفريد نساء ورجال التعليم بأرقام مستقلة لأن ذلك يتعارض مع وجودهم في الوظيفة العمومية. لا أدري مدى صحة هذه المعلومة، وإلا كبف نفسر الفروق الهائلة في الأجور بين قطاع التعليم وغيره من قطاعات الوظيفة العمومية؟ ولا أريد أن أجادل في ذلك الآن، ولكن أحب أن أطرح سؤالا هو: أين غاب مثل ذلك الإلحاح عندما تم صياغة النظام الخاص بالعقوبات، والذي لا يوجد له مثيل في القطاعات الأخرى في الوظيفة العمومية؟ الإشكال في هذا الباب ليس فقط أنه جاء بعقوبات جديدة، وإنما في غياب التحديدات والضمانات اللازمة. فمن الذي سيوكل إليه تنفيذ هذه العقوبات؟ وما هي القيود المحددة لمجال هذه العقوبات؟ وما هي الأفعال التي ستعتبر أخطاء مهنية موجبة لهذه العقوبات؟ وأهم من هذا: ما هي الضمانات التي توجد لدى نساء ورجال التعليم؟ هذه الأسئلة التي لا يجيب عليها النظام الأساسي من شأنها أن تحول العقوبات إلى أفعال تتسم بالفوضوية والمزاجية، وستصير بكل تأكيد مصدرا لعديد من المشاكل في القطاع، بدل أن تكون مدخلا لحلها. ولفهم الفرق ففي نظام العقوبات المنصوص عليه في الوظيفة العمومية تم تقييد جميع عقوبات الدرجة الثانية بمجموعة من الضمانات المهمة، على رأسها استشارة المجلس التأديبي التي ترقى إلى الإلزام في الفصل الواحد والسبعين (71) الذي ينص صراحة على أنه «لا يمكن في أية حالة من الأحوال أن تكون العقوبة الصادرة بالفعل أشد من العقوبة التي يقترحها المجلس التأديبي اللهم إلا إذا وافق على ذلك رئيس الوزارة». أما عقوبات الدرجة الأولى (التوبيخ والإنذار) فقد قيدهما بشرط التعليل، وهو شرط قانوني مهم، تسقط بموجبه العقوبات غير المعللة، أو التي تقدم تعليلا معيبا. من باب الإنصاف نورد أن هذا الباب تضمن نقطة شديدة الإيجابية بالنسبة لعقوبات الدرجة الأولى، وهي المادة الثالثة والستون (63) المتعلقة بإسقاط العقوبات ومحو أثرها الإداري من ملف الموظف الذي صدرت بشأنه عقوبة تأديبية. ففي نظام العقوبات في الوظيفة العمومية يمكن للموظف أن يحقق ذلك، عن طريق كتابة طلب إلى وزير القطاع يلتمس فيه حذف أثر العقوبة، ولكن ذلك مشروط بإطار زمني قاسٍ، هو «خمس سنوات إذا كان الأمر يتعلق بإنذار أو بتوبيخ [عقوبات الدرجة الأولى] وعشر سنوات في غير هذه العقوبات [ عقوبات الدرجة الثانية]»( الفصل الخامس والسبعون). بينما يمكن إسقاط هذه العقوبات، وفق المادة (63) من النظام الأساسي الجديد بالحصول على التشجيع أو التنويه، بالنسبة لعقوبات الدرجة الأولى؛ أو ميزة الشرف، بالنسبة للعقوبات الأخرى التي تقيد في ملف المعني بالأمر. مع ضرورة التنبيه إلى سكوت النص عن العقوبات التي لها آثار قوية وخطيرة، ولا تتعلق بالتسجيل في ملف المعني، سواء الحرمان من المنحة أو من الحركة الانتقالية، أو غير ذلك. ج نظام التحفيز: أفرد النظام الأساسي بابا مستقلا للتحفيز، هو الباب السابع (7) ضمنه ثلاث مواد (60، 61 و62). كلما أعدت قراءة هذه المواد أشعر بإحساس هو مزيج من الإحباط الشديد والشفقة بسبب ما تكشفه هذه المواد من فقر شديد في الخيال والإبداعية عند مهندسي هذا النظام. فما أريد له أن يكون تحفيزا يؤول إلى عقاب جماعي لكل المجتهدين، وعوض أن يخلق دينامية للمبادرة والاجتهاد والتفوق، سيتحول إلى كابح لها، كما سنبين. أول ملاحظة أن التحفيز هو ذو طبيعة إقصائية، فهو مقصور، وفق المادة الستين (60) على أعضاء الفريق التربوي الذي ينتمي إلى مؤسسة حاصلة على شارة «مؤسسة الريادة»، مع ضرورة استيفاء مجموعة من الشروط حُددت في خمس. لقائل أن يقول إن التحفيز لا بد أن يقوم جوهريا على اعتبار الفروق، وعدم مكافأة إلا المستحقين، ومن ثم فهو من حيث بنيتُه إقصائيٌّ، بالمعنى الإيجابي لهذه الكلمة. وهذا صحيح فعلا. لكن المشكلة التي سيخلقها قَصْرُ التحفيز على مؤسسات الريادة وحدها، وجعل المكافأة جماعية، هو تفجير مفهوم التحفيز نفسه. فالأستاذ المجتهد، المبادر والحيوي في غير هذه المؤسسة لن ينفعه تميزه في شيء، فهو مقصي لا لعيب فيه، وإنما لمجرد أنه لا ينتمي إلى هذه المؤسسة، علما أن معايير تحديد هذا النوع من المدارس مازال يلفه الغموض. بينما يسمح هذا التصور بمكافأة أستاذ «كسول» لمجرد أنه ينتسب لمدرسة حاملة لهذه الشارة. وهذه قمة التناقض، وستدفع كثيرا من الفاعلين داخل القطاع إلى الانسحاب الفعلي من الحياة المدرسية. وستترتب عن ذلك خسائر جمة. وسأعطي مثالا عمليا. ففي السنوات الثلاثة الأخيرة، للتمثيل فقط، استطعنا أن نكون وراء توقيع الثانوية التي نشتغل فيها لثلاث شراكات منتجة، وكنا وراء تكوين إشهادي في الأمن المعلوماتي من مؤسسة دولية (SISCO) لفائدة خمسة وعشرين مستفيدا (كان من المفترض أن هذه التجربة ستتواصل)، وكرسنا، رفقة فريق تربوي متميز، برنامجا للدعم النفسي والمهاري والمعرفي لفائدة تلاميذ المستويات الإشهادية المقبلين على الامتحانات الإشهادية، استعنا فيه بمجموعة من الخبراء والمختصين، ولم نكلف الوزارة سنتيما واحدا. شاركنا أيضا في البرنامج الدولي لتقييم القدرات (PIZA)، وليس فقط أننا لم نكلف الوزارة أي سنتيم، بل إننا لم نحصل على أي وثيقة للمشاركة أو شهادة تقديرية أو شهادة شكر من المسؤولين المحليين المشرفين على البرنامج. ونشرف سنويا على تصميم جميع الملصقات والدعوات والشواهد التقديرية لفائدة تلميذات وتلاميذ المؤسسة، وشواهد الشكر والتقدير للمتدخلين المتعاونين. كل هذا وكثير مما لم أذكره بصفر درهم . . . السؤال هو ما الذي سيجعلني أواصل عندما أرى شخصا لا يستطيع القيام بخمس هذه الإنجازات يُكافأ، بينما يتم إقصائي لمجرد أنني لا أنتمي إلى مدرسة حاملة لشارة مدرسة رائدة. لقد انخرطنا، وغيرنا، في الحياة المدرسية إيمانا بالمدرسة العمومية، واشتغل الكثيرون منا في نكران تام للذات، وكنا نطالب عبر القنوات الرسمية من خلال التقارير ومحاضر الاجتماعات بضرورة تجاوز المرحلة التطوعية، وتثمين هذه الممارسات ماديا ومعنويا، دون أن نوقف انخراطنا. لكن ما الذي سيقنعنا الآن بالمزيد؟ المسألة الثانية التي تغضب في هذا النظام التحفيزي أنه خلافا لموظفي القطاعات الأخرى يشرط حصولَ المدرس على هذه المنحة عملُه خارج ساعات العمل الرسمية. وهو الأمر الذي أشرت إليه سابقا. فقد نص الشرط الخامس للحصول على هذه المنحة على «تقديم أنشطة الدعم التربوي المبرمج خارج حصص التدريس المعتمدة» أما المادة (62) فهي تقرر أن الأستاذ المبادر والمتميز سيحصل على شهادات تقديرية، هي تباعا التشجع والتنويه وميزة الشرف، وتخبرنا الوزارة، في باب آخر، أن هذه الشواهد يمكن الاستعانة بها لإسقاط بعض العقوبات، وهذا جميل، ولكنها لا تخبرنا ما هي وظيفة هذه الشواهد الورقية بالنسبة للأستاذ الذي لا تستوجب ممارستُه المهنية أي عقاب، وما الأثر التحفيزي الذي ترتبه؟ أما أخطر شيء بالنسبة لي في هذا التحفيز فهو قيمته المادية. فكل هذه القيود والشروط من أجل الحصول على مبلغ (10000) درهم تعطى للأستاذ المستحق نهاية كل سنة دراسية. إذا قسمنا هذا الرقم على أشهر السنة فسيحصل الأستاذ المبادر على ما معدله ثمانمائة وثلاثة وثلاثون (833.00) درهما شهريا. في الواقع أجد نفسي عاجزا عن الاستمرار في الكلام، وأضطر إلى التوقف طويلا لأرتب الفوضى الذهنية التي يسببها الغضب من هذه المهزلة. والسبب أن معظم الموظفين إن لم يكن كلهم يحصلون على منحة جزافية خاصة بالتنقل (حتى في القطاعات التي لا تنقل فيها)، وهي في بعض القطاعات شهرية وفصلية أو دورية في غيرها، لا تقل، في كثير من القطاعات، عن سبعمائة درهم، يحصل عليها جميع الموظفين، بدون أي استثناء، حتى هؤلاء الذين يتغيبون نصف الأسبوع، أو هؤلاء الذين يضعون ستراتهم أو حقائبهم على مقاعد مكاتبهم، وينصرفون لقضاء مآربهم الشخصية، أو قتل الوقت في المقاهي المجاورة. وقد تصل هذه التعويضات، في بعض القطاعات، إلى ما يغني الموظف عن استخدام أجرته. وعندما نأتي إلى نساء ورجال التعليم، وبعد كثير من التطبيل والتهليل عن التحفيز نخبرهم أن أكبر مجتهد فيهم سيحصل على ما يحصل عليه موظف كسول لا يبذل أي مجهود. أي إهانة؟ وأي احتقار أكبر من هذا؟ لقد صبر نساء ورجال التعليم لعقود متتالية على كثير من الانحطاط الذي تتعامل به الدولة مع المدرسة العمومية بأساتذتها وإدارييها ومفتشيها ومرافقها، وظلوا يراقبون، ويتتبعون ما يحدث، واعتقدوا عندما اطلعوا على خلاصات النموذج التنموي ان الدولة صارت واعية أخيرا بأهمية المدرسة العمومية، وواعية أيضا بدرجة الانحدار الذي وصلت إليها بكل مكوناتها، وعندما رأت مهندس النموذج التنموي يحل على رأس الوزارة أملت خيرا، وانتظرت، بكل صبر، نتائج الحوار القطاعي الذي قاده لمدة سنتين، مستشرفة تحقق الوعود والالتزامات التي أطلقها المسؤولون، وتغنوا بها، واستثمروها في معاركهم الانتخابية والسياسية، إذ لم يعد مقبولا السقوط الذي وصلت إليه مهنة التعليم، ولم يعد مقبولا أن يستمر الأساتذة، وهم الذين جرى تفقيرهم الممنهج، في الانفاق على المدرسة العمومية، فيشترون أقلامهم ومحافظهم وأوراقهم والكتب المدرسية التي سيستعملونها في تدريس أبناء المغاربة وحواسيبهم ومطابعهم وأقلامهم الحمراء عندما يذهبون إلى التصحيح (لتحسين دخلهم) وقنينة الماء التي سيشربونها أثناء التصحيح، أو أثناء الحراسة. . . ثم لا يواجهون إلا بالنكران والسخرية والتنكيت والاحتقار. ولم يعد مقبولا أن يختزل فشل المدرسة في المدرس وحده؛ فالمدرسة المغربية فاشلة فعلا. ولكن الأستاذ ليس هو المسؤول عن هذا الفشل؛ لأن صناعة النجاح أو الفشل هي فعل جماعي، يساهم فيه الجميع (الوزارة الوصية على القطاع، الأحزاب السياسية، المجتمع المدني، الإعلام، الأسر . . .) بشكل أو بآخر. وما الأستاذ إلا حلقة من حلقاته، وليست أكثر من غيرها، بل ربما مسؤوليته في هذا الفشل أقل بكثير من غيره. ولذلك يرى نساء ورجال التعليم أنه لم يعد أمامهم خيار آخر غير الذهاب قدما في معركتهم، فقد احترقت خلفهم كل مراكب العودة الآمنة، ولم يعد أمامهم، وقد دخلوا أرض المعركة إلا الانتصار، أو الانتصار. فأي هزيمة أو تراجع يعتقد نساء ورجال التعليم لن يكون معناه سوى نهاية المدرسة العمومية. ولذلك على العقلاء أن يلتقطوا الإشارات، وأن يتداركوا الأمور، فَرُعونَتُهم السابقة أوصلت نساء ورجال التعليم إلى نقطة اللاعودة، وأخرجتهم مكرهين من حجرات الدرس حيث مكانهم الطبيعي، ولن يعيدهم شيء إلى أقسامهم إلا الظَّفَرُ، متمثلا في التعامل الجاد مع مطالبهم. ولن تتحقق هذه الجدية إلا بالإنصات الحقيقي لهذه الفئة، وسحب النظام الأساسي الجديد، وإعادة بنائه على قاعدة الوضوح والشفافية والتشاركية الحقيقية، بما يستجيب للحاجيات الحقيقية لنساء ورجال التعليم، وبما يحل بعض المشاكل العالقة بصفة نهائية وواضحة، وعلى رأسها مشكل التعاقد الذي ما يزال يلفه الكثير من الغموض، تُحْدِثه التصريحات المتناقضة، التي تكشف أن المجهود الأساسي الذي يحدث في هذا الملف هو ممارسة البهلوانيات اللغوية التي تبتدع التسمية تلو الأخرى، دون أن تنتهي إلى حل هذا المشكل الذي يجمع الخبراء والمتتبعون للشأن التعليمي على أنه طال أكثر من اللازم، وأنه خلق من المشاكل في المدرسة العمومية ما بلغ حجما يسائل كل الرهانات الوهمية التي عقدت عليه. كما أن هذه الجدية لن تظهر إلا إذا كان الذي يقود الإصلاح يحظى بثقة باقي اللاعبين معه. ولا يمكن أن تتحقق هذه الثقة عند نساء ورجال التعليم طالما أنهم يرون أن ملفات الفساد الضخمة التي تزكم الأنوف والتي تجثم على صدر الوزارة، لم يُفتح بصددها حتى الآن أي تحقيق جاد، يؤدي إلى محاسبة المفسدين، ووضعهم خارج رقعة المشاريع الجديدة. كيف، إذن، نقنع هؤلاء الذين خَبَروا كل خطابات الإصلاح الواحد تلو الآخر، لسنوات طوال، وفقدوا بفعل توالي النكسات أي أمل في التغيير؟ المدخل، إذن، للإصلاح هو إقناع نساء ورجال التعليم أولا بجدية الإصلاح. ولن يكون ذلك بدون استعمال المكنسة داخل الوزارة، وتقديم فريق عمل جديد ومقنع، يبدأ أولا بمحاسبة المسؤولين المركزيين والجهويين واٌلإقليميين، وبإطلاق عملية افتحاص واسعة النطاق، لا تقف عند وضع التقارير، بل ترتب الجزاءات اللازمة، وتقطع مع الفساد المستشري في القطاع والذي هو السبب الحقيقي لكل فشل يصيب مشاريع الإصلاح الطموحة في التعليم وفي غير التعليم. بغير هذا حتى لو ضخت الدولة نصف ميزانيتها في التعليم، فليس هناك أي ضمانات لوقوع الإصلاح؛ لأن الأيادي القذرة التي لا تعرف سوى منطق «الكاميلة» ستعترض كل ميزانية، وستفرقها في مطابخ عديدة، ولن يصل منها إلى المدرس والمدرسة إلا رائحة الطبيخ، وحكايات الجدات: «يحكى أن ميزانية رصدت فاعترضتها الغيلان . . . ( أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي)، الجديدة، 6 نونبر 2023