انعدام التعلق بأيِّ شيء يقينيا، يمثل حسب تقديري الخاص، أفضل قاعدة منهجية لتدبير واقعة الحياة، والنجاة منها بأقل الخسائر الممكنة،عكس القاعدة التي يمضى وفقها باستمرار اعتقاد الأغلبية، بأنه لاحياة يسيرة دون أمل جاثم، بمعنى مصدر متعة الحياة وأساس إمكانية تحملها من عدم ذلك، يكمن حتما في ضرورة الرهان على شيء ما؛رغم كنهه الوهمي، ثم التطلع نحو تحقيقه، وإلا فالمصير الحتمي لن يخرج عن كمين الاجترار المتثاقل لليوميات، وفي أفضل الحالات مدى القدرة على انتشال وجودكَ من براثن بؤس المصير،عبر الانتقال إلى ضفة الموت الإرادي، سواء كان اختيارا واعيا أو غير معلن عنه. إذن، يشاع بأنَّ العيش دون وازع أمل راسخ نحو اعتقاد ما، يجعل الحياة جحيما، بحيث تنصب وجهة بوتقة الحياة كل معاني الشغف، التفاؤل، الرغبة، التطلع، بينما تشير أضدادها مباشرة إلى احتفال بغرائز الموت. بناء عليه، يظل التصور الأسلم، بهذا الخصوص،انطلاقا من وجهة نظر مختلفة عن الثوابت النمطية لمقولتي التفاؤل والتشاؤم، صياغة جواب يهمُّ معطيات لعبة الحياة ضمن محفزات تصوِّر يراهن على كل شيء ولاشيء أيضا، يراقبها كدينامية أفق مفتوح على مختلف الاحتمالات وتتصورها كواقعة طارئة بامتياز،من ثمة، يستحيل تسيُّدها، تعريفها، تحديدها، بل ولااستشرافها على وجه اليقين المطلق. كيف نستوعب حقا هذه المعادلة اللَّزِجة، القائمة على حيثيات أقرب إلى مشهد الصراع بين القط والفأر؟ من جهة، لاتقوم للحياة قائمة سوى إذا استمر الإنسان محكوما بالأمل، ثم في الآن ذاته، الأكثر سعادة في الحياة أفراد لاينتظرون منها هدية، يؤمنون فقط بثراء وسخاء المحتمل، مستبعدين بالتالي كل يقين من انتظارهم. ينهي هؤلاء،مسار وجودهم دون خسائر فادحة، تتسم صدمتهم حيال مجمل خبايا حياة غير متوقعة، بنوع من بلاغة اللامبالاة أو بكيفية أوضح، يحتمون بدرع صلب يكسوه غشاء كوميديا سوداء، تكشف عن تجليها بالصمت أو الضحك. يقتضي السياق، استحضار خلاصتين ضرورتين مرتبطتين حتما بكل تأويل : أولا،تصعب الحياة بدون توهم يقين على سبيل الوهم. ثانيا، التوطد اللاواعي لفكرة اليأس من الحياة حتى مع وجود هذا الأمل/ اللا- أمل. منطوق الإشارتين،أنَّ الرهان بالحياة على تحقيق تطلع أو تطلعات، يشكِّل بداية المأساة بخلاف التصور السائد، مادام تطلع من هذا القبيل يرسخ طمأنينة واستكانة اليقين، في حين، كنه الحياة اللامتوقع والارتياب. حقا،هي معادلة عويصة، تعكس أولا وأخيرا، تعقيد الحياة قدر عبثيتها، فكيف يمكن للإنسان تحمل مجرى حياته دون أمل في الأمل؟ أيضا،تعبيد طريق الأمل، يستدعي ضمنيا بداية متاهات المأزق، لأنَّ استمرار الدَّأب يبقى رهينة تحقق هذا الأمل ثم استشراف آمال أخرى. في نهاية المطاف، تمتلك الحياة منطقها الخاص، تحتفظ لنفسها بمفتاح ولوجه، وليس في مقدور شخص، مهما بلغت مشارب علمه وحكمته، مجرد ادعاء سلطة التحكم في كيفية تواتر طبيعة متواليات الحياة. صحيح، ينبغي استراتجيا تناولها بمنطق الأمل، لكن بوضعية ضمن أفق الارتياب واللايقين والاحتمال وتعدد الممكن.الحياة بمثابة أمل في اللا- أمل، التعلق بالسراب، فقط يكمن الاختلاف بين إنسان أدرك جوهر الحياة،ثم آخر أضلَّ طريق ذلك. يعيش الأول الحياة بحيادية، مرجعيته الارتياب،بينما يستعصي على النوع الثاني تحمله وقائع التجربة، بالتالي، لامكان له تحت الشمس، سوى بإقباله الكلي على حياة ملؤها أمل يتحقق على وجه اليقين. يتفق الطرفان،على حتمية أن يعيش الإنسان بناء على سلطة الأمل، لكن الاختلاف بينهما، ثم انعراجهما صوب وجهتين متضاربتين، منطلقه طبيعة رؤيتهما لكيفية تحقيق ذلك الأمل. اختلاف بين اليقين والمحتمل، اليقين والطارئ. غالبا ما تتم الإحالة على مفهوم السعادة،وعبره تحديد معايير الفارق بين المحظوظ والتعيس،حسب مدىتلبية الحياة لرغبات الشخص و''نجاحه'' في تحقيق ذاته كحالة وجودية خالصة منسجمة مع تجاربها.بالتالي،انعدام هذا التفاوت الزمني وغياب فجوات الارتداد، بين ممكنات الشخص ثم تلقيه الحياة وتفاعله الايجابي أو السلبي. لذلك، بقدر تحقق التواصل بين الإنسان والحياة، من خلال التفاعل الايجابي مع رغباته اللامتناهية، طبعا، ازداد حبه لها وأظهر مناحي سعيدة. مقابل ذلك، كلما تقلصت هوية هذه المساحة، ترسخ حنق الإنسان على الحياة، وانتابته أكثر مشاعر الموت جراء تحطم آماله. المرتابون من الحياة، الذين لايأمنون لها جانبا ينعمون بسعادة مجردة، يمتصون بليونة نفسية عجيبة مختلف خساراتهم بكوميديا سوداء،مثلما ورد سابقا، قوامها ذكاء وجودي عميق، مادامت مرجعيتهم التعامل باستخفاف مع الحياة وعدم الرهان عليها بصيغة مطلقة أو نظرة بريئة، بحيث لاشيء يستحق الانتظار. عموما، تبرز إلى السطح بكيفية مكثفة، ملامح معينة تودّ هذه التأملات معاينتها : *هوية الحياة الأمل،غير أنه أمل بلا كيان، بمعنى لايتحقق على سبيل اليقين أو يلتزم مع الإنسان بوعود معينة، بل هي آمال تقدِّر فقط أهواءها الخاصة،غير مكترثة لما يريده الإنسان حقا. *الحياة حربائية وليست أحادية ولارتيبة ولا منطقية ولا عِلِّية ولا خَطِّية ولاهندسية. إنها جملة مشاهد مربكة يتداخل كل شيء بين طيات سياق جغرافيتها. لاتمنح سوى لتمحو، خلال الآن ذاته، كي تثيركَ بأوهام جديدة وفق لعبة العصا والجزرة، ويستمر صاحب الأمل الخَطِّي في ملاحقة خيط الإثارة،غاية أن يلتقطه الموت ويلفظه في غفلة منه والعالم والناس وكل مايوجد. *تنهض لعبة ملاحقة الآمال،التي لاتستقيم الحياة سوى بها على الارتياب والاحتمال، قد يتحقق هذا المبتغى ولايكون الأمر تبعا للتوقع المفترض، ضمن سياق لحظة عالقة باستمرار ومصيرية، تتبلور معها وتتجمع عندها المشاعر الوجودية التي بوسع الإنسان اختبارها، بمجمل كيانه، لأنها لحظة مفصلية دائما وأبدا، بخصوص تركيز دواعي الحياة أو الانحياز إلى درب الموت. *مصدر كل المشاكل الوجودية، طبيعة تعريفنا للحياة، فإذا اعتبرنا الأخيرة حادثة غير متوقعة، بدون مقدمات أو تعليلات، ربما بلغنا مرفأ الأمان، بينما إذا حاولنا ربطها بمنطق استدلالي لمشاعرنا الخاصة، ينتهي الأمر بالتأكيد وجهة هاوية يوميات موجعة.