تنطلق الديموقراطية من الدولة لتمتد إلى مستوى الأفراد، فمتى كانت الدولة عادلة عدَل الأفراد، وأنى ظلمتْ ظلموا. هكذا يشطر الظلم النفس البشرية أنصافا وشظايا، ويحطم وحدتها المتماسكة جاعلا اندفاعاتها ورغباتها في صراع داخلي دائم عوض الوئام المتناسق مع الطبيعة، فتسير بدورها في منحى الظلم ، تنقل عدواه إلى أنفس اختلفت معها في الرأي والعقيدة والمنهاج، حتى يتحول المجتمع الموحد الأركان إلى فرق وجماعات تطارد بعضها البعض، وتذوذ عن نفسها من خطر وهمي بها محدق، بيد أن نبع الظلم واضح بيّن، يجلس ساخرا على هرم السلطة، كلما تزايد انقسام المواطنين زادت قوته وعلت همته في الاستبداد. والظالم سيء الصيت، وإن طغى وتجبر، وإن أرغم الناس أن يذعنوا لقرارته الهوجاء ولسلطته المبنية على سياط الجلادين ووحشة غرف السجون، فسيضمرون له كرها في قوته سيعلنونه إبان ضعفه. وقد لا تتحقق الديموقراطية كما أرادها شيوخ الفلسفة الأولون في أثينا، وقد لا يعدو قاطنو الجمهورية الفاضلة بضعَ عشرات يتناوبون على السلطة بين الفينة والأخرى، لكن السعي نحوها بين شعب الملايين فضل رباني ونبوغ إنساني. فكيف لعاقل أن يطلب الكمال والرسالات السماوية أجمعت أن آدم قد أتى إلى الأرض عقوبة من السماء، وأن الأمانة أثقلت كاهل الإنسان وحيرت عقله. سيبقى الظلم موجودا ما وُجد الإنسان، قد تربو حدته لكنها تنقص في دولة العدل، حيث لكل فيها نصيبه من خير الدولة، حقوقه في العيش الكريم مُصانة، وشخصه لا يُذل ولا يُهان. إنه المواطن المقدس صاحب الصوت الناخب لمسيرالدولة وراعي شؤونها العليا والصغرى، الساهر على تطبيق القانون على كل رئيس ومرؤوس فيها، إنه المواطن الجندي إذا ما تعرضت بلاده لخطر داهم أو كُربٍ كوارث، وهو المواطن المسؤول على نهضتها وتفوقها بين الأمم، وهو الذي يدرك حقوقه والتزاماته اتجاه الوطن، ولأن الوطن ملك للتأريخ فهو يعمل جاهدا على تسليمه نظيفا قويا مُعافى لمن سيأتون بعده. وما يحدث في مصر اليوم ظلمٌ بكل القيم والقوانين الوضعية قبل السماوية، وانقلاب على الشرعية، وتعدٍّ سافر على صوت المواطن، ودعوة صريحة إلى العنف ونبذ السلام، واستبدال لأوراق الانتخاب بلون الدم. ثلة من العسكريين يفسدون على مصر بإيعاز خارجي ثلاثي خليجي وغربي وصهيوني شقَّ سبيلها الحر مؤازَرين بإعلاميين رخيصين وقضاء فاسد وفن وضيع وأزهر تابع غير متبوع، ولولا مساندة من يخشون امتداد الثورة إلى ترابهم لما كانت للعسكر الشجاعة الكافية ليقدموا على ما أقدموا عليه، وهم الذين يعوزهم العلم وتنقصهم الحكمة. وتعود إلى الصورة وجوهٌ من حكم الأمس، لم يَطِب لها خسران امتيازات الفساد والاستبداد، قد تربصت بثورة 25 يناير منذ بزوغ فجرها، حاكت مؤامرة الانقلاب لأيام وليال، وأعدت لها عُدَّتَيْ الإعلام والرصاص، ووضعت الحواجز أمام نجاح تجربتها، وتحالفت مع الذين يودون إطفاء شعلتها، ثم استترت خلف العلمانية والاشتراكية والشيوعية والليبرالية وهي منها براء، فتدثرت بإزار الدفاع عن أرض الكنانة العظيمة، رافعة شعارات مهيجة لرعنات الحاقدين مستثيرة لإربة الضعفاء. إن الخاسرين في معركة مصر نحو دولة العدالة والديموقراطية ليسوا الانقلابيين ولفيفهم من رجال الدين والسياسة والإعلام والفن فقط، إنما فئة عريضة من المثقفين اليساريين والليبراليين والعلمانيين الذين خانوا مُثلهم العليا بدل أن يتقدموا الصفوف دفاعا عن شرعية الرئيس المصري مرسي. ختاما، سيكتب التأريخ أن الإخوان قد برعوا في السياسة، وكسبوا قضية الديموقراطية بواسطة الصبر والثبات وعدم الدعوة إلى العنف، متحملين الأذى، حتى فاجأتهم أيادي الغدر العسكرية بغتة، وأنّ من ستسقط حقا هي التيارات العلمانية واليسارية إن لم يتدارك الشرفاء من أهلها الأمر قبل فوات أوانه، وأما شرعية مرسي فباقية في السطور والواقع وضمائر الشعوب الحية.