سؤال بات الرأي العام التربوي الذي يلم أكثر من 280 ألف موظف بقطاع التربية الوطنية يسهر على أكثر من 8 ملايين تلميذة وتلميذ ينتسبون لأكثر من 15 ألف مؤسسة تربوية عمومية وخصوصية، يتوزعون على 12 أكاديمية جهوية للتربية والتكوين بميزانية تناهز70 مليار درهم. وإذا كان الوزير بنموسى أكد في صفحته الرسمية أنه حان الوقت لاسترجاع الثقة للمدرسة المغربية بهدف تحقيق لنهضة التربوية التي جاء بها شعار المومس الدراسي والنموذج التنموي الجديد الذي صاغه بمعية فريقه، فإن الفاعلين والمراقبين لشؤون أكبر قطاع اجتماعي بالمغرب (التربية الوطنية) يعتبرون أن الداخل الخمس الأساس لنجاح بنموسى في مهمته تتوزع بين الحكامة، وتحسين جاذبية المؤسسة التربوية، وتجديد النفس والدماء في المنظومة التربوية، وفي الوقت ذاته تخليصها ممن يعرقلون تنزيل مشاريع الإصلاح وشاخوا في هياكلها من دون أن يحالوا على المعاش. أي حكامة داخل القطاع؟ واعتبر الخبير التربوي محمد سالم بايشى، الذي شغل مهمة مفتش تربوي سابق بقطاع التربية الوطنية، أن "سوء تدبير قطاع التربية الوطنية يساءل حكامته، سواء في إسناد المهام أو الإعفاء، عمقت جراحها الزبونية في ملفات تجمع التربوي والمادي الربحي كورش تجديد الكتاب المدرسي الذي بقي محفوظا لجهات معينة، وكذا التعليم الأولي الورش الأساسي الذي انتظرنا هيكلته منذ إصلاح التعليم الأساسي منتصف الثمانينات وجاء به الميثاق ثم الرؤية والقانون الإطار ليفوت لجمعيات معينة علما بأن التجربة مع الجمعيات سواء في التربية غير النظامية أو محو الأمية لك تحقق المطلوب. ونحن نعيدها في ورش من المفروض أن تتحمل الحكومة المسؤولية المباشرة في إرسائه وتعميمه. وزاد موضحا: مكانة مهنة المدرس في المجتمع وضعف الامتيازات الاجتماعية ومحدوديتها حتى على مستوى خدمات مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للتربية والتكوين. أولويات صعبة تحتاج لتبصر ونبه عبد الرزاق بن شريج، وهو خبير تربوي، إلى أنه "يصعب الحديث عن أولويات وزارة التربية الوطنية، التي أصبح على الوزير المعين شكيب بنموسى الاهتمام بها أكثر، نظرا لأن المنظومة التربوية وصلت، تدبيريا، إلى الدرك الأسفل، وأن التربية شأن عام لن يتحكم فيه الوزير وحده، بل الحكومة والمؤثرين والمجتمع النقابي والسياسي والمدني بنسب متفاوتة، لكن الذي يهمنا هي المحاور الكبرى التي بإمكان الوزير معالجتها، إن عولجت بحكمة وتبصر ستعالج توابعها تلقائيا". وفي هذا الصدد، يقترح الخبير التربوي عبد الرزاق بن شريج، أربعة محاور كبرى أولويات على مكتب الوزير الجديد شكيب بنموسى. وأولها الميزانية في تدبير وإنجاح أي قطاع أو مشروع، ولكن هذا المحور ليس بيد الوزير، بل من اختصاص الحكومة، التي مع الأسف لم تخصص في الميزانية الأخيرة ما يدعو للاطمئنان، حسب مشروع قانون المالية المصادق عليه من طرف الحكومة المغربية يوم الاثنين 18/10/2021، بالإضافة إلى إشكالية وضع آليات عقلنة لترشيد تدبير هذه الميزانية، على ضعفها، مركزيا وجهويا وإقليميا". وفي نفس الاتجاه، سار محمد سالم بايشى، ، للتأكيد على أن "أولى الأولويات قضية الموارد البشرية انتقاء وتكوينا وتأطيرا وضمن هذا المحور قضايا عرقلت الإصلاح كالتعاقد ودور المر اكز الجهوية والتفتيش أو التأطير التربوي والمصاحبة". موارد بشرية بحاجة إلى تأهيل أما المحور الثاني، فيتصل بالموارد البشرية، التي تشكل العمود الفقري للمنظومة التربوية. وهو ما يتطلب بحسب بن شريج، "تأهيلها يمثل المدخل الأساس لتحقيق الخطوة الأولى في طريق إنجاح أي مشروع كيفما كان، عبر ترسيخ مسألة حب المهنة أو ما يسمى "الرضى الوظيفي" فالمطلوب اليوم من الوزير توفير الجو المناسب لتحقيق مردودية جيدة، سواء على مستوى توفير وسائل وأدوات العمل أو على مستوى التحفيزات المادية والمعنوية". وسار الخبير التربوي في تصريحه لموقع "لكم" للتأكيد على أنه إن "كان تنزيل مشروع معين على عاتق المنفذين الصغار ونقصد هنا ما دون المركز، أي الأكاديميات والمديريات الإقليمية وباقي مكونات المؤسسات التعليمية، فالاهتمام بتحقيق الأهداف الاستراتيجيّة الكبرى للمنظومة يقع على عاتق المسؤولين المركزيين، الذين يجب أن تتوفر فيهم كفايات التخطيط بأنواعه، والتمكن من وضع السيناريوهات الممكنة لتنزيل المشروع". لا مقاربة بيداغوجية واضحة وبخصوص المناهج والبرامج، فدعا الخبير التربوي بن شريج ل"القطع مع الفوضى التي تعرفها المناهج، والبرامج والكتاب المدرسي الذي أصبح يغير كل سنة بما هو أسوأ من السنة السابقة، والاختباء خلف ما يسمى التنقيح، فالأمر يقتضي اختيار لجان قارة وفق كفايات خاصة تسهر على تجديد المناهج والبرامج وفتح الباب أمام شركات النشر والمؤلفين للعمل وفق دفتر تحملات واضح ومصادق عليه من طرف اللجان المختصة، واختيار لجان المصادقة على الكتب المدرسية تكون محايدة وغير مشاركة في التأليف". ونبه بن شريج إلى أن "الكتب المدرسية التي تروج لملايين الدراهم تعد ويصادق عليها بطرق ملتوية دون ضوابط ودون دفتر تحملات متكامل، وتكليف بعض المشاركين في التأليف أعضاء في لجان المصادقة على الكتب المدرسية"، وفق تعبيره. وشبه الخبير التربوي بايشى ما يحصل في المناهج والبرامج بالمدرسة المغربية بأنه "وضع العربة أمام الحصان، فأنهت الوزارة بزعمها مثلا برامج الابتدائي قبل تشكيل اللجنة الدائمة للبرامج والمناهج التي لم يصدر النص المنظم لها إلا مؤخرا. وما شاب العملية من تسرع لإدراج مواضيع إرضاء لأطراف معينة ( الثقافة اليهودية والتطبيع بدعوى التسامح. وسوء التقدير في تناول مواضيع معينة كزواج القاصرات… )"ز وخلص الخبير التربوي بايشى إلى أن "نتيجة ذلك وضع المجتمع على صفيح ساخن دون مبرر، وفقدان الثقة في المدرسة، في غياب مقاربة بيداغوجية واضحة المعالم منذ التخلي عن مشروع بيداغوجيا الإدماج لسنوات". تصفية جهاز التفتيش وتأسف بن شريج لما أسماه "تصفية جهاز التفتيش من قبل وزارة التربية الوطنية، والذي تشهد به الوثائق الرسمية والأحداث التاريخية. ففي سنة 1996 تم إغلاق مركز تكوين مفتشي التعليم من طرف الوزير رشيد بلمختار، ولم يفتح إلا سنة 2009، وجاءت المغادرة الطوعية لتقلص من عدد المفتشين بالمغرب، حيث انتقل معدل التأطير من 45 أستاذا(ة) لكل مفتش، إلى 100 سنة 2006، لينتقل سنة 2009 إلى 200 أستاذ(ة) تقريبا، وتحويل مهمة التأطير والمراقبة التربوية إلى المهام التدبيرية العادية، تحت تصرف النواب الإقليميين، وتقاعد المفتش العام عبد الإله مصدق في سنة 2006 بدأت بوادر السطو على المفتشية العامة وتقزيم دورها ضدا على مرسوم مهام المفتش". وتواصل نهج "التفتيت، كما أسماه بن شريج، عبر " إرضاء بعض الخواطر، حيث تم تقسيم المفتشية العامة إلى قسمين، المفتشية العامة للشؤون التربوية والمفتشية العامة للشؤون الإدارية، واستمرت المقاومة إلى شهر يناير 2012، حين غادر عبد الإله مصدق الوزارة بصفة نهائية، لتتمكن فئة التدبير من السيطرة على فئة التفتيش، وبتقلد المرحوم محمد الوفا وزارة التربية الوطنية، تم إفراغ المصالح المركزية نهائيا من فئة التفتيش، وبهذا الخلل في المهام تشتغل الوزارة اليوم". مفارقات وتقارير تفضح المستور وأوضح عبد الحميد عمور، وهو باحث تربوي، على أن "المدخل الأساس الذي ينبغي أن يؤسس عليه الوزير الجديد بنموسى تدبيره الناجع لشؤون القطاع البناء من الداخل، وإعادة النظر في هيكلة الوزارة ومسؤولين شاخوا في القطاع. وتأسف الباحث من المفارقة بين المديرات المركزية ونظيرتها في هيكلة الأكاديميات الجهوية والعمالات والأقاليم، فالهيكلة مركزيا وجهويا في واد، وفي واقع تدبير المديريات شيء آخر. وهذا من عمق أعطاب القطاع. ودعا عمور "لأن يباشر الوزير الجديد بنموسى عمله بإعادة بناء الداخل وتقويته، وكل فئة عليها أن تقوم بواجبها، لأنه الأساس. فكيف يعقل أن من تجاوزا سن التقاعد ما يزالون يسيرون الأكاديميات والمديريات المركزية إثر التمديد لهم بدعم من الوزير السابق سعيد أمزازي". ومن بين هؤلاء الجيدة لبيك (مفتشة في التخطيط التربوي) مديرة أكاديمية الداخلة وادي الدهب، ومبارك الحنصالي (أستاذ) مدير أكاديمية العيون الساقية الحمراء، ومحمد جاي المنصوري (مفتش في الفيزياء) مدير أكاديمية سوس ماسة، ومعهم على المستوى المركزي محمد ساسي مدير المركز الوطني للتقويم والامتحانات. فهل صار القطاع عاقرا من الكفاءات التي توارت وانكمشت، بل منها من غادر نحو قطاعات أخرى أو انزوى في مكاتب بسبب غياب الثقة، يشرح عبد الحميد عمور. ومن المفارقات أن كل من تجاوزا سن التقاعد (المعاش) تعيش الأكاديميات التي يسيرون ويستفيدون من تعويضات سمينة (700 درهم في اليوم الواحد تنقل داخل المغرب و2000 درهم تنقل كل يوم خارج المغرب) ورواتب تتجاوز راتب البرلماني مع السكن الوظيفي وسيارة المصلحة وغيرها من الامتيازات، من دون أن يكون لذلك أثر على المردودية الداخلية للمنظومة التربوية، حيث كانت نتائج الباكلوريا لسنتين متتاليتين في الرتبة 10 من أصل 12 أكاديمية بالنسبة لسوس ماسة، والرتبة 12 بالنسبة لأكاديمية العيون، في غياب المساءلة والمحاسبة التي صارت شعار وكفى، يعلق عمور في حسرة وتعسر. في مقابل ذلك، مفارقات مماثلة تتمثل في شغور منصب مدير الشؤون العامة والميزانية والممتلكات لحوالي ثلاث سنوات، وهي عصب قطاع التربية الوطنية، حيث ما يزال يدبر بتكليف رغم استصدار قرار التباري بشأنه من دون أن تظهر نتيجة المنصب، أو إعادة التباري بشأنه من جديد منذ مغادرة مديره السابق يونس بنعكي وتعيينه كاتبا عاما للمجلس الاقتصادي والاجتماعي. وينضاف إلى ذلك، الطريقة التي عين به محظوظون ومقربون وحبيون في مناصب المسؤولية، إن على مستوى الأقسام والمصالح في مستوياتهم الإقليمية والجهوية والمركزية، فكانت النتيجة تردي التدبير المرفقي وتراجعه إلى مستويات غير مسبوقة، إذ عجزت عدد من الأكاديميات ومديريات عن مجاراة إيقاع مشاريع القانون الاطار 51.17 ولم تستطع التدبير بالمشروع، فصار التخطيط للمشاريع وبرمجتها وموزنتها يتم فرادى لا عبر فرق عمل المشاريع". وما زكى هذا المعطى الحارق، تقرير المفتشية العامة للشؤون التربوية الأخير المرتبط بثمانية مشاريع من أصل 18 الذي عرى كل شعارات الإصلاح وتنزيله، حيث لم يقو "الإصلاح" على الدخول إلى الفصل الدراسي وتحقيق أثره، بل كان يروج له على الفايسبوك وفي فيديوهات وملصقات، وبخلفيات الاستمرارية البيداغوجية في قضية التعليم عن بعد التي عرتها دراسة مماثلة أنجزها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بتعاون مع اليونيسيف نشرت منذ أيام. وهو وضع تربوي ملتبس بلا رؤية حدا بالمفتش العام للشؤون التربوية خالد فارس لمغادرة القطاع، بعدما أغضب تقريره "شيوخ منظومة التربية الوطنية" لأنهم غير راضين على نشر غسيلهم، وفق تعبير من تحدثوا من الداخل لموقع "لكم". تنظيف البيت الداخلي والمحاسبة وأشار بن شريج إلى أن "المسؤولين المركزيين بوزارة التربية الوطنية لم تعد لهم القدرة على العطاء، وحتى إن راود البعض غير هذا فعليهم استحضار على من تقع مسؤولية فشل كل المشاريع التي وضعت منذ أكثر من 15 سنة، ولا ننسى الجانب النفسي في العملية، فتغيير القيادة المركزية أصبح من الأولويات التي قد تبعث الأمل في انطلاقة جديدة. ويسير ما خلص إليه عمور بما سار إليه إبراهيم المعداري (وهو خبير في تدبير شؤون التربية والتكوين) بالقول: إن مشاريع الإصلاحات تنوعت خلال العشر السنوات السابقة، بينما نفس الوجوه هي التي ما تزال على رأس الوزارة مديرياتها والأكاديميات، بل منهم من تجاوز سن المعاش بسنوات وما زال يسير جهويا ومركزيا. فيكف يمكن أن ينجح الإصلاح ونقنع الفاعل الداخلي بنجاعته؟. ونبه المعداري إلى أن أول عمل ينبغي أن يباشره بنموسى هو تنظيف البيت الداخلي، بل تطهيره من "شيوخ" المنظومة التربوية الذين لا يقنعون حتى أنفسهم بجدوائية الإصلاح، فما بالك أن يقعوا الفاعلين، خاصة وأن مؤشراتهم المتدنية ظاهرة للعيان، وسط صمت مطبق من قبل الجميع، يتهافتون في كل مرة وراء التمديد في مناصبهم بوساطات حزبية، ويواصلون الإخفاقات تلو الأخرى بلا محاسبة ولا مساءلة. وشدد المتحدث على أن "ربط المسؤولية بالمحاسبة" مغيب في قطاع التربية والتكوين، فلا رئيس المصلحة ولا رئيس القسم جهويا وإقليميا ومركزيا يحاسب، خلافا لما هو منصوص عليه في مرسوم 11 نونبر 2011، حيث يخضع رؤساء الأقسام والمصالح لتقويم سنوي لأدائهم. وقس على ذلك المديرون الاقليميون ومديرو الأكاديميات والمديرون المركزيون. فما هو النموذج الذي سنقدمه للفاعلين داخل المنظومة وخارجها؟ وكيف سنعيد الثقة بمن لا يحاسب؟ وحتى ميثاق المسؤولية الذي وقع يخرق ولا من ينبه ويحاسب وينال الجزاء؟". وما ينطبق على هؤلاء ينطبق على مسؤولين في الإدارة المركزية.