استأثرت زيارة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولند للمغرب باهتمام العديد من المحللين من حقول علمية معرفية مختلقة سياسة، واقتصاد، وإعلام... واختلفت تفسيراتهم وقراءتهم للحدث تبعا لتخصصاتهم وزوايا نظرهم فتراوحت -هذه القراءات- بين من يرى بأنها جاءت في ظرف قياسي لتصحيح مسار العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ومن ربطها بطبيعة فرنسا الرأسمالية التي تعاني من تبعات الأزمة الاقتصادية مما دفعها للجوء لأوطانها الثانية كمتنفس جديد على اعتبار حاجة الرأسمال الدائمة إلى الخارج لاستغلاله ورأسملته بذريعة الاستثمار المشترك، ثم من ربط هذه الزيارة بسياقات التحولات الهيكلية العميقة لبعض الدول خاصة في شمال إفريقيا على خلفية هبوب رياح الربيع وعصفها ببعض الانظمة العربية وقس على ذلك من المستجدات والقضايا التي فرضت ملحاحيتها على طاولة المحادثات في هذه الزيارة من قبيل أزمة مالي وقضية الصحراء والأزمة السورية... غير أن كل هذه التأويلات والاجتهادات تبقى ناقصة - في وجهة نظرنا – دون تبني رؤية المؤرخ ،على اعتبار أن هذا الاخير مؤهل أكثر من غيره لتسليط الضوء على مثل هكذا احداث وإيفاءها بالدراسة. والقول بهذا لا يعني إصدار حكم قيمة يقضي بافتقاد خلاصات هذه المقاربات لمعايير الصواب والصحة إلا أن ما يشوبها من نقص يجعل منها مجرد فرضيات تنتظر إثبات صحتها عبر مقاربة ميكروتاريخية شاملة،ذلك أن ملامسة حدث راهن كهذا -من زاوية تاريخية- وما يطرحه من إشكالات يفرض من التركيز أمرين أول مرتبط بنموذج كرنولوجي، للبحث عن طبيعة الارتباط بين البلدين وجذوره التاريخية كبعد عمودي يتقاطع مع ثان أفقي تجسده المستجدات الحالية من إفرزات الربيع العربي وما رافقها وانعكاساتها على العالم المتوسطي تحديدا،بالشكل الذي يسمح بالوقوف عند مكامن الثبات والتحول في السياسات الخارجية لبلدان الخريطة المتوسطية حيث فرنسا والمغرب موطنتان. هذه التحاليل تبقى ناقصة لعدم أخدها بعين الاعتبار معطيات هامة عن مؤطرات علاقتنا بفرنسا،هذه الاخيرة التي جاءتنا بالحداثة والتي قالت بحمايتنا فاستعمرتنا ونهبت خيراتنا وفرنسا التي اقنعتنا بخياراتها الديموقراطية، فرنسا الضامن الأساسي لتواجد المغرب في اجندة وحسابات الاتحاد الاوربي . في خطاب فرنسوا هولند أمام البرلمان المغربي أشار إلى نقط عدة في عمق التاريخ المشترك بين البلدين عندما تحدث عن الحماية وليوطي وعلاقة فرنسا بمحمد بن يوسف لذلك فخطابه ليس وفقط إعادة صياغة العلاقة أو تجديدها بقدر ما هو تأكيد على توجهات دولة فرنسا وأولوياتها في الضفة المتوسطية. ولأنه أثار هذه الحقبة رأينا بضرورة إعطاء تصور عام عن أبرز المحطات التي بلورت المغرب التابع ومعرفة أشياء عنها وعن الجذور التاريخية للعلاقة بين المغرب وفرنسا، ولا نحتاج إلى الخوض في أحداث الفترة الممتدة بين 1912 و1956 أي مند توقيع معاهدة فاس حتى سنة الحصول على الاستقلال بعد إفلاس الحماية التي مورست على المغرب لمدة 44 سنة، إن بسبب تضافر عوامل داخلية من مقاومة وحركة وطنية في شقيها السياسي والعسكري،أو خارجية خاصة التناقضات التي ميزت الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية أو تلك المرتبطة بالنسق البنيوي لمؤسسة الحماية ونهجه . وفي ذات السياق أثار مفهوم الاستقلال جدلا لأنه جاء بعد سلسلة من التراكمات على شاكلة اتفاقات كمحادثات إكس ليبان،التي نتج عنها بيان سمي بتصريح لاسيل سان كلود المشترك في نونبر 1955 والذي جمع بين سلطان مراكش محمد بن يوسف والسيد انطوان بينيه وزير الشؤون الخارجية الفرنسية في قصر سيل سان كلود ،غير أن ما يهم هو مضان التصريح التي يمكن تحديدها في ثلاث مستويات أساسية بدءا بموافقة السلطان على المبادئ العامة للسياسة الفرنسية وتكليف مجلس العرش الذي تأسس في 17 اكتوبر 1955 بتدبير شؤون المملكة، ومرورا بتأكيد السلطان لرغبته في تشكيل حكومة تمثل مختلف اطياف الرأي العام لتسهر على مهمة التسيير والتفاوض معا وتكلف بتقديم اصلاحات قانونية بما يجعل المغرب مؤهلا ليكون دولة مستقلة ترتبط بفرنسا بروابط دائمة ومحددة ومقبولة بحرية، وانتهاء بموافقة سلطان مراكش والسيد بينيه على ضرورة سعي فرنسا والمغرب إلى بناء مستقبلها وبدون تدخل لأي طرف ثالث في هذه ألمعادلة والالتزام بعدم المس بالسيادة، وضمان حقوق المواطنين والانضباط تجاه الالتزامات الممنوحة للدول الاجنبية وفق الاتفاقيات المبرمة. وبقراءة وفهم عميق للتصريح يمكن أن نتبين أبعاده إذ تبدى لنا بمثابة مؤطر قبلي للعلاقات المغربية الفرنسية ما بعد الاستقلال كما يتضح جليا من الألفاظ التي يعج بها، بما يضمن لفرنسا استمرارها في الاستفادة من المغرب في إطار العلاقة الجدلية بين المركز والمحيط أو ما عبر عنه بالاستقلال المترابط أو المشروط، وهذا ما نستشفه من عبارتي تحقيق المغرب مركزه كدولة مستقلة مرتبطة مع فرنسا بروابط دائمة ، ثم أن على فرنسا والمغرب بناء مستقبلها بدون تدخل اي فريق اخر كما أشير إليه في التصريح. هذه الاتفاق لم يكن وفقط إطارا موجه ومتحكم في ميكنزمات العلاقات الفرنسية المغربية في المرحلة الانتقالية بقدر ما رسم في الافق معالم هذه العلاقات وإطارها المرجعي في مرحلة ما بعد الاستقلال إذ سرعان ما جاءت اتفاقية 20 مايو أو ما سمي باتفاقية التمثيل الدبلوماسي الفرنسي المغربي كأول اتفاقية بين البلدين بعد الاستقلال وهي مرتبطة في سياقها بما توصل إليه الطرفين في اتفاقية 2 مارس سنة 1956، وتتألف هذه الاتفاقية من إحدى عشر فصلا مضمنة بتعهدات والتزامات كل دولة اتجاه الأخرى من أجل خدمة المصالح المشتركة وتقوية العلاقات الخارجية. ولا نرى مانع في تشريح موادها حتى يتسنى استيعاب التباساتها المفاهيمية وحمولتها الدبلوماسية ففي ما أكدت في مادتها الاولى على حرص الطرفان على مبدأ التشاور أو الاستشارة فيما يتعلق بالمسائل المشتركة والمتعلقة بمصالحهما،ذهبت في الثانية إلى التركيز على هذا التشاور والاستشارة كأساس لبلورة ردود أفعال قوية عن أي تهديد يمس المصالح ألمشتركة أما بندها الثالث فركز على دورية اللقاءات بين وزيري خارجية الدولتين، بينما جاء الرابع ليقر بضرورة مراعاة كلا الطرفين قبل تبني أي سياسة من حيث مدى مطابقتها لمصالح إحداهما . وشددت هذه الاتفاقية في بنديها الخامس والسادس على مكانة الحقوق المعترف بها للأخر بما لا يترك مجالا لتوقيع اتفاقية دولية ما من شأنها أن تبطل مفعولها ،وكذا القول بغياب أي امكانية لتأويل أي من فصول الاتفاق المبرم فيما يخص تماشيه من عدمه مع الشرعة الدولية "هيئة الاممالمتحدة" أو مع الاتفاقيات والمعاهدات الجاري بها العمل بين الطرفين. أما ما تبقى من فصولها فنص على أن ما لم يحل من خلافات بالطرق الدبلوماسية فيما بينهما سيكون مآلها محكمة العدل الدولية في لاهاي لتبث فيها، وإذا كانت قد تمت الموافقة على عضوية المغرب في منظمة الاممالمتحدة في ثامن بنودها فإن ما تلاه يكشف عن نية فرنسا في سد ثغرات الدبلوماسية المغربية في الخارج خاصة في الاماكن التي لا يقرر المغرب إرسال بعثات سياسية إليها وذلك بإيعاز وتوجيه من الحكومة المغربية. واستمرار لسلسلة البنود هذه جاء ما قبل الأخير بقالب يحتوي الألقاب الدبلوماسية التي ينبغي تبنيها والتي انحصرت في سفير فوق العادة ومندوب فرنسا الخاص إلى المغرب و العكس صحيح في حين تلزم الاتفاقية المغرب بالانضباط اتجاه الالتزامات الناشئة عن الاتفاقيات الدولية والتي وقعتها فرنسا بالنيابة عنه في أخر بنودها . وعموما نلمس كيف أن هذه الاتفاقية بدأت بالتأكيد والاتفاق على ما يخص الطرفين بشكل يخدم الصالح العام المشترك قبل أن تتطور الأمور كنتيجة - حسب تقديرنا - لخوف فرنسا من أن يضع المغرب المستقل في أجندته تأسيس روابط مع دول أخرى فجاءت فصول الاتفاقية الوسطى بلغة مخالفة تبدو أكثر حزما وتشديدا على الالتزام بما يراعي ما اتفقا عليه وقد يكون ذلك دون اعتبار المتغيرات الدولية. ويبدوا وكأن فرنسا بحثت عن ما يضمن رسم السياسة المغربية المراد اتباعها فيما بعد نحو ما يحافظ على مصالحها وحاولت أن تحصن هذه المكاسب النظرية خوفا من ضروب تأويل قد تضعها في موقف حرج مع الهيئات الدولية كالأمم ألمتحدة بل هذا الخوف من تمرد مغربي -إن صح القول- دفعها إلى تحديد وجهة المحكمة الدولية لحل أي نزاع محتمل له علاقة ببنود هذه المعاهدة وهذا ما يمكن تفسيره بادراك فرنسا الجيد لمجيء يوما يعي فيه الطرف المغربي مدى خطورة هذا الاتفاق ووقعه السلبي وبالتالي محاولته التنصل منه بأي شكل من الاشكال. وما سار على اتفاقية مايو وما سبقها يسري على اتفاقية التعاون الاداري والتقني بين باريس والرباط في 1957 وغيرها من الاتفاقيات الاخرى في الثقافي كما في الاجتماعي و الاقتصادي ودائما فيما يخدم مصالح فرنسا.حتى أن الحسن الثاني الذي خلف والده في مارس 1961 أظهر رغبته في تدشين عهد جديد للعلاقات الفرنسية المغربية بعدما أبدى نية في استمرار أواصر التقارب مع فرنسا وترجمها في تمسكه بمقررات الاتفاقيات رغم التباين التي عرفه بعض من هذه الاتفاقات بين خطي النظرية والممارسة انسجاما مع نوع من التوتر والفتور بسبب بعض المشاكل الخلافية التي كانت مرآة تعكس طبيعة ومناخ هذه العلاقات،من قبيل استمرار وجود الاستخبارات الفرنسية فوق التراب المغربي بعد الاستقلال ومشكل الحدود مع الجارتين الجزائر وموريتانيا ... ونورد هذه العجالة من المعطيات لأن الحديث عن العلاقة بين المغرب وفرنسا اليوم إذا لم يتم تناولها في بعدها التاريخي العميق سواء في الفترة الحديثة أو المعاصرة فعلى الأقل لا يمكن أو يستحيل تجاهل مرحلة السنوات الأولى لما بعد الاستقلال-المترابط - وما طبعها من تطورات وما عرفته من فراغ استغلته الدبلوماسية الفرنسية وملأته بفرض قيود و ضوابط تضمن صيرورة تبعية المغرب لها، ذلك أن إجراء القطيعة في دراسة فصول الفترة الراهنة من شأنه أن يغيب الموضوعية ويعطي نتائج عكسية في التحليل كما في التأويل والتفسير. وإلى حدود التذكير بهذه المعطيات كإسهام في كشف جزء من المسكوت عنه في تاريخ العلاقة بين البلدين على اعتبار أن فهم الحاضر لن يتأتى إلا باستحضار الماضي بغية استشرف أفضل للمستقبل،فيمكن الاستشفاف بأن الزيارة تنهل في عمق التاريخ بشكل كبير باتجاه تكريس التبعية والاطمئنان على صورة فرنسا لذا الحلفاء الاستراتيجيين ودرجات ُتأثرها بالمتغيرات الراهنة كأسمى أهداف -الزيارة -على مستوى الرمزي. وعموما فإذا لم يكن كل ما أتينا على ذكره مقنعا في إثارة زوبعة قلق ذهنية حول الخلفيات الحقيقية لزيارة الرئيس الفرنسي للمغرب فإنه يعضد شرعية التساؤل حول مدى صلاحية هذه الاتفاقيات وهل لا زالت سارية المفعول وما جدوى ودوافع استمرار الانضباط لها - في الوقت الراهن- بالنسبة لنسق الدولة وحجم تأثيرها على السياسة الخارجية والدبلوماسية للمغرب...؟ لذلك فقبل أن يدلي كل ذي تخصص بدلوه في تحليل وتفسير كل ما يرتبط بالمغرب في علاقاته بالأخر الاوربي عليه أن يعتمد طريقة فلاش باك من أجل استنطاق موضوعي للحدث من جهة وتحصين التاريخ بكل حقبه من الافتراء من جهة أخرى.