"في الذكرى الرابعة لتأسيس حزب الأصالة و المعاصرة" أتممت اليوم القراءة العاشرة لرواية غابرييل غارسيا ماركيز" مئة سنة من العزلة " الحائزة عى جائزة نوبل للآداب سنة 1982، والتي قرأتها لأول مرة باللغة العربية أيام الاعتقال السيئة الذكر، و منذ أن اقتنيت النسخة الاسبانية منها، و أنا أقرأها – تامة – كلما ضاق خيالي، ووهنت أفكاري، وتشابكت علي خيوط السياسة، وتقدم عنا من يريد جرنا إلى الوراء مهما اختلفت لبوسهم. ولن أفشي سرا إن قلت هنا أن هذه القراءات تريحني عميقا، وتسهل علي العودة لأطلق عنان تفكيري فيما نذرت له حياتي، ألا وهو المساهمة في بناء الوطن الذي يستحقه المغاربة ويتسع لهم جميعا. يتمحور مركز مواضيع الرواية المتعددة والمتشعبة حول فكرة الانعزال والاغتراب بشقيها المادي والروحي، فالانعزال والاغتراب هما المحرّك الأساسي لأحداثها وأشخاصها. فبلدة "ماكوندو" الوهمية - وهي رمز لكل البقاع والمؤسسات المهمشة أوالتي اختارت التهميش، ليس في أميركا اللاتينية فحسب، بل في العالم بأسره - عرفت تعاقب ستة أجيال لأسرة "بوينديا" في دوامة من العزلة والأنانية، وهي عائلة مكونة من أفراد منفصلين عن بعضهم البعض ولو كانوا يقطنون المنزل الواحد، بما يجعل من حياة هذه الأسرة شبيهة بحياة أسرتنا الحزبية. ويجعلني لا أجد فرقا من حيث الأنانية و العزلة و التسابق نحو المجهول بينهما، و الأدهى أن أسرتنا الحزبية أضافت إلى الأنانية و الهرولة و العزلة عن واقعها - رغم عدد الأصوات الخادعة التي يمكن أن يحصل عليها هذا الطرف أو ذاك و يؤهلها للتسيير حتي- خوفا و توجسا من كل جديد، عكس الأفراد الأوائل لأسرة *بويندييا* الذين كانوا يتفاعلون إيجابيا مع كل ما كان يأتي به الغجر الأغراب إلى بلدتهم. وهو ما جعلني أعيد السؤال الكبير الذي يختزل في حدود ما أزمة الأحزاب السياسية المغربية، وهو: لماذا يكره السياسيون المغاربة - أسرة "بويندييا" التجديد في السياسة؟ و لماذا يخاف الساسة المغاربة من الأفكار السياسية الجديدة؟ لماذا يخاف هؤلاء من نخب مغرب الهامش؟ ولماذا يهرولون وراء نصاعة بعض الأسماء العائلية والأحزاب التقليدية التي لا يمكن أن تساعد المغرب على الانخراط في عالم اليوم القائم على الوضوح الشديد في النهج السياسي والاختيارات الاقتصادية ؟ و تتوالى أحداث الرواية ومعها تتعمق مظاهر العزلة والإنسلاب لدى أشخاصها من خلال جملة من المغامرات الاستكشافية والحربية وسلسلة من الممارسات الغريبة، بحثاً عن معنى حقيقي للحياة، وللممارسة السياسية و العلاقات الاجتماعية، وبخاصة البحث عن الحب الحقيقي، لكن دون جدوى. اللهمّ في المرة الوحيدة التي نشأت علاقة تخللها قليل من الحب والسعادة، بين "أوريليانو" و"بترا كوتس"، وهذه العلاقة كادت أن تتكرر في نهاية الرواية بين "أوريليانو بابيلونيا" و"أمارانتا أورسولا" اللذان قررا إنجاب طفل كان يأمل والده بأن يعيد عبره إحياء مجد الأسرة التي شارفت على الإنقراض. إلا أن العاقبة كانت وخيمة، حيث توفيت "أمارانتا" مباشرة بعد وضع طفل له ذيل خنزير، كثمرة لعلاقة جنسية "غير اجتماعية" بين والديه، حيث تبين أن الأم لم تكن سوى عمة الأب. ومع هذا الطفل الذي أكله النمل، لم يكتب البقاء لجيل سابع في أسرة "بوينديا". لكن ظهور هذا الحب ولو مع نهايته المأساوية، كأنما يبشر بظاهرة ايجابية ربما قصد الكاتب من خلالها الإيحاء بأن الحبّ الحقيقي يرمز إلى القيم الاشتراكية كبديل لعالم العزلة والأوهام والهواجس العصبية التي ترمز إليها حياة وقيم أسرة "بوينديا" التقليدية البالية. ألم يكن غابرييل غارسيا ماركيز عندما كتب هذه الرواية سنة 1967 يكتب تاريخنا السياسي و ينبهنا إلى مآسينا المستقبلية؟ ألم يكن يساعدنا على رسم الآفاق المستقبلية؟ من الطفل الذي أكله النمل منا ؟ ما أثارني في الرواية أن أفراد أسرة بويندييا كانت تعرف أنها غير مسلحة بالأحلام و أن كل زادها كان مجموعة من الأوهام ، ورغم ذلك ظلت فريسة أوهامها، وبقيت هذه الأوهام ترسم لها خارطة الطريق الى الهاوية. و على نفس النهج لا تريد النخب الحزبية المغربية التقليدية ، بجميع تلاوينها، أن تفهم أن الفكرة السياسية حلم، وليست خدعة ، وأن المؤسسة الحزبية هي أداة لتحقيقه، وأن بقاء أو ذهاب هذه المؤسسة الحزبية أو تلك ليس رغبة أو تمني، وأن الأمر مرتبط بالحاجة المجتمعية لذلك. الأمر الذي يدفعني لطرح السؤال الآتي، هل في الأمر علاقة بالخوف من تجدد النخب السياسية؟ أم أنهم لا يريدون فهم ذلك اليوم فقط من أجل حرمان فاعلي الأصالة و المعاصرة من إعادة الدعوة إلى أن صلاح البشرية وإقرار العدالة الاجتماعية يكمن في تبني النهج الاجتماعي الديمقراطي والاعتماد على المبادئ الآتية : الكرامة : لتمكين كل فرد أو جماعة من التعبير الحر عن الذات و الأفكار و الرغبات، والمساهمة بشكل إيجابي في خلق الثروة واقتراح صيغ توزيعها؛ الحرية : لتمكين كل فرد أو جماعة من تحقيق المشروع الشخصي أو الجماعي في الحياة، والمساهمة تضامنيا في انجاز المشاريع المشتركة والارتقاء بالمسؤوليات والالتزامات نحو المجتمع. المساواة : لتمكين كل فرد أو جماعة من التعبير عن القدرات والكفاءات، وجعل المجتمع برمته يستفيد من هذه القدرات والكفاءات بشكل متساو ؛ التضامن : لتمكين الفرد أو الجماعة من كل الضرورات الأساسية، خاصة في مجال الصحة والتعلم والشغل، وتحويل الفعل التضامني إلى وقود للتنمية الدائمة. لماذا ؟؟؟؟ لم يكن لي شرف الانتماء إلى حزب الأصالة و المعاصرة إبان التأسيس، فلعل حسابات التاكتيك و الإستراتيجية، التي لم نتقن تعلمها في مدارسنا السياسية السابقة، حرمتني من هذا الشرف وشرف مرافقة رفاق أعزاء بنيت معهم أكثر من مشروع ناجح بامتياز. لكنني انتميت إليه عندما ركب الكل على أمواج ما يعرف بالربيع العربي، وبدؤوا ينادون بضرورة إبادة واجتثاث هذا الحلم - المشروع السياسي. و كنت قد فرغت من القراءة التاسعة "لمئة سنة من العزلة "، آنذاك اقتنعت أن في الفكرة – أي المشروع السياسي، شيء - كما قال الشاعر – يستحق الانتباه، و يستحق الاحتضان. و أن الاستئصاليين القدامى - الجدد، الجيل السادس من أبناء أسرة *بوينديا*، أحسوا بتزعزع شرعيتهم السياسية واقتراب النمل الذي أكل الطفل في مئة سن من العزلة من شرعياتهم الموهومة. فلا أحد يشك من السياسيين النزهاء ومن الباحثين الأذكياء أن الأحزاب السياسية المغربية التقليدية أحزاب تتشبث ب "الشرعيات" أكثر من تشبثها بالإيديولوجية / منهجية العمل المستمدة من ترتيب الأولويات، لأن طبيعة مكوناتها و طريقة تفكيرها و عملها جعلتها تتواطؤ لتوزيع شرعيات الوجود والاستمرارية والمنافسة، وتسجيلها باسمها كما تسجل الإبداعات و أسماء الشركات، بين "الشرعية الوطنية" و"الشرعية الديمقراطية" و"الشرعية الشعبية" و"الشرعية الدينية "والشرعية الإيديولوجية"، وعملها المشترك على محاربة أي مجموعة سياسية لا ترضى لنفسها الوقوف في طابور الانتظار للانتفاع الممكن من ريع إحدى هذه الشرعيات الوهمية. أنا متيقن اليوم أن حزب الأصالة و المعاصرة - بالرغم من أخطاء البداية، التي يمكن أن تتسع لأكثر من مقال افتتاحي لجريدة ما، أو حتي لخطاب زعيم من زعماء أسرة بوينديا، الدينيين منهم أو "العلمانيين"، ولد من رحم حاجة المجال السياسي إلى نبذ الانتفاع الريعي من هذه الشرعيات وإلى مراجعة الوظيفة التركيبية الحزبية القائمة، ومن الحاجة أيضا لإعادة جسور الثقة والشراكة السياسية بينه وبين المواطن المغربي، وتحفيزه على المشاركة بفعالية أقوى في الشأن السياسي. و أن الذين ركبوا سفينة الأصالة و المعاصرة إبان التأسيس، و ظلوا بها – عكس من عبر عن انتهازية نكراء بمغادرة الحزب وهو تحت قصف أسرة بوينديا، أو الذين ركبوها – و بشجاعة نادرة – أيام أن كان أفراد هؤلاء يريدون قتل الفكرة- المشروع ، كلهم أحسوا قبل هذا الركوب أنهم عاشوا مئة سنة من العزلة مغربيا، بما تعنيه من إقصاء منهجي من لعب أي دور حقيقي في الفضاءات الحزبية كما يلعبونه اليوم. وكما سيستمرون بكل تأكيد في لعبه غدا. والأدهى أن هؤلاء لم يكونوا يوما من كسالى القوم أو من متقاعدي السياسة، بل كانوا ممن عملوا من أجل أن "يحفر" المغرب مجراه الديمقراطي الطبيعي، سواء عبر مشاركتهم في معالجة قضايا حقوق الإنسان والحريات، أو المساهمة في إعلاء ثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية، أو تحرير المشهد السمعي البصري، أو إقرار مدونة الأسرة، أو رد الاعتبار للغة والثقافة الأمازيغية، أو اقتراح مشروع الحكم الذاتي في الصحراء، أو قضايا الهجرة والمهاجرين، أو قضايا التنمية البشرية،وممن عملوا لتحقيق مجتمع أفضل على جميع المستويات على قاعدة الشفافية والعدالة الاجتماعية والتضامن و الحرية والمساواة. يكفينا فخرا نحن أبناء القرى المهمشة و أبناء العائلات التي لا تحمل أسماء لامعة، أننا في يوم ما قررنا أن نعيش مئة سنة من الفعل والعمل على درب دمقرطة الدولة، دمقرطة المجتمع، و البداية قطرة، والمنتهى وطن يجب أن يتسع للجميع. ومن لم يفهم الرسالة فالنمل آت . عضو المجاس الوطني لحزب الاصالة و المعاصرة