منتصف شهر غشت الجاري تكون قد مرت أربع سنوات ونصف من الاعتقال التعسفي على إحدى وعشرين فردا من معتقلي ملف "بليرج"، والذي عرف لدى البعض بالملف الذي ضم المعتقلين"السياسيين الستة". إن مسار هذا الملف يعتبر بحق تراجيديا حقوقية ، قضائية و سياسية. لست هنا لأعيد على القارئ السياق السياسي الذي جاء فيه الإعلان عن هذه القضية و الأجندة التي جاءت لخدمتها ، وجعلت منها قسرا وتعسفا قضية من قضايا الإرهاب ، اللهم إرهاب الرأي العام الوطني وتوعده إذا ما شكك في الرواية الرسمية . (1) ولا حاجة أيضا للتذكير بجميع الخروقات القانونية التي شابت القضية من أولها إلى آخرها ، بدءا بالخروقات المسطرية (اختطاف، تزوير ، ...) ومرورا بالخروقات الجوهرية (انعدام الأدلة وانعدام حالة التلبس ، والشهادة السلبية للشهود ، ...) وانتهاءا بالخروقات الشكلية (اللخبطة في التعليل ...) ، وإنما أبتغي الإشارة إلى بعض الأمور التي جعلت ممن تبقى من المعتقلين على ذمة هذا الملف منسيين في زمن العدالة ، ومحاولا التساؤل عن مصير مظلوميتنا كمعتقلين سياسيين في زمن الربيع الديمقراطي ودستور رئاسة الحكومة . بعد صدور الحكم الإستئنافي في 26 يوليوز 2010 ، واستعمال منطق التمييز السياسوي في خفض العقوبة بالنسبة "لسياسيين الستة" –والذين بقي منهم خمسة آنذاك- وتثبيت الأحكام القاسية على باقي المعتقلين ، بعد ذالك أصبح واضحا بما لا يدعو مجالا للشك في أن الأحكام القضائية التي صدرت في هذه القضية هي أحكام سياسية ، تخضع لمنطق الترضية وتستجيب للضغوطات، والتي للأسف كانت منصبة من أجل فئة دون أخرى في تمييز صارخ وظالم في ملف واحد . من المسؤول عن هذا المآل ؟ يجيب الأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان بأن " هيئة الدفاع والجمعيات الحقوقية والإعلام ، دفعت بهذا الاتجاه " اتجاه التمييز في هذا الملف بين معتقلين يرتبطون مع هذه الهيئات بعلاقات سابقة ، ومعتقلين آخرين لا بواكي لهم ولم يقدر لهم أن تكون لهم علاقات معرفة سابقة مع بعض شخوص هذه الهيئات ، فكان التمييز على أساس المعرفة المسبقة و الشخصية وعلى حساب المظلومية ، وكأننا أمام محسوبية حقوقية مبتدعة دفع ثمنها باقي المعتقلين غاليا وأصبح الظلم معها مزدوجا و مرا أكثر. ورغم ذلك تشبتنا بالأمل يقينا في براءتنا ، في 03 مارس 2011 أعلن الملك محمد السادس في تجاوب سريع مع مطالب الشباب المغربي، عن تأسيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان و الارتقاء به إلى مؤسسة دستورية ومستقلة ، ووضع على رأسه شخصيتين حقوقيتين مشهود لهما ، فتزايد الأمل في وضع حد لمعاناتنا ومعاناة أسرنا ، خاصة و أن السيد الأمين العام ما فتئ يطلق بشاراته المشهورة : "أعدكم بانفراج سياسي كبيير وتوالت بعد ذلك البشارات ، فجاء الخطاب الملكي ل 09 مارس واعدا بالإصلاحات فاستبشر المغاربة خيرا جماهيرا ونخبا حقوقية وسياسية ، وتوقع الجميع الإفراج عن المعتقلين السياسيين وكل من اعتقل على خلفية قضايا سياسية ، فجاء عفو 14أبريل 2011 ناقصا حيث كرس التمييز في قضيتنا حيث استفاد "القادة السياسيون" و حرم باقي المعتقلين على ذمة نفس الملف ، وكأن التاريخ يعيد نفسه ويعيد خيبة الأمل نفسها التي واكبت الوعد الذي تعهد به وزير العدل السابق المرحوم الطيب الناصري بإعادة الملف إلى السكة الصحيحة في المرحلة الإستئنافية فكانت النتيجة –الخيبة- ذلك التمييز الصارخ في أحكام 26 يوليوز 2010التي أشرت إليها سابقا . بعد ذلك العفو تجرعنا المرارة مضاعفة نحن و أهلونا وكل المتضامنين معنا من هيئات المجتمع المدني و المنظمات الحقوقية حيث بقينا خلف القضبان ضدا على المنطق السليم في مفارقة غريبة عبر عنها أحد المناضلين الحقوقيين و أحد المحامين الذين ترافعوا في هذا الملف(2) بأن الدولة أخرجت الجنرالات من السجن و أبقت على الكابورالات . ورغم ذلك لم نفقد الأمل يقينا في برائتنا، كان الأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان يجيب عن أجوبة المستغربين بأن "الموت هي التي تأتي دفعة واحدة " فتجدد الأمل لدينا وتجدد معه الانتظار ، وفعلا فإن الموت بعد ذلك جاءت دفعة واحدة ، فعقب أحداث سجن سلا والتي لم نشارك فيها بشهادة الجميع بما في ذلك إدارة السجن ونائب وكيل العام للملك بملحقة محكمة الاستئناف في تقريره عن الأحداث. ورغم ذلك شملنا " الموت" نحن أيضا وتم ترحيلنا إلى سجن تولال 2 بمكناس ووضعنا في الكاشو خمسون يوما في ظروف قاسية عقابا لنا على"لا شيء " ، وقضينا في ذلك السجن الشاهد على الردة الحقوقية التي عرفتها البلاد في تلك الفترة أكثر من سنة في شبه عزلة عن العالم الخارجي ، لم يكسرها إلا حصولنا على المذياع بعد أربعة أشهر ، علمنا بواسطته أن بلدنا يعرف حراكا حقيقيا تابعناه على موجات الإذاعات بشغف كبير واهتمام بالغ ، وكم كان بودنا لو كنا خارج السجن فنساهم إلى جانب أبناء شعبنا في ذلك الانتقال . فكانت النهاية و البداية بانتخابات 25 نونبر 2011 ووصول العدالة و التنمية إلى رئاسة الحكومة .فاستبشرنا خيرا ونسينا مراراتنا السابقة ، واعتقدنا أن شمس الحرية قد آن وقت شروقها . غير أنه وإلى اليوم لم يصل ضوء هذه الشمس إلينا بعد . فهل نفقد الأمل ؟ بعد ستة أشهر من الآمال المعلقة على هذه الحكومة الجديدة ، حكومة الدستور الجديد والربيع العربي ، وكباقي أبناء هذا الشعب كان لنا آمال من جهتنا على هذه الحكومة في إحداث مصالحة مع ضحايا العهد الجديد كما كان يدعو إلى ذلك بعض وزرائها والحزب الذي يترأسها ، وتقوى أملنا بعد تسمية الأستاذ مصطفى الرميد وزيرا للعدل والحريات وهو المحامي والحقوقي الذي طالما دافع عن هذا الملف ، واعتبره ملفا سياسيا ، وكان يردد أن هذا الملف يحتاج إلى حل سياسي ، وطالب غير ما مرة بالعفو الملكي وأقر في أكثر من مناسبة بوجود مظلومين يجب إخراجهم من السجن ، وهو على علم كما هو الأمر بالنسبة لجميع الحقوقيين و القانونيين والإعلاميين أن "ملف بليرج" مختلف تماما عن ملفات مايسمى ب"السلفية الجهادية" فمعتقلوه لا يحملون أفكار جهادية ولا يؤمنون بالعنف ، بل إن الكثير منهم كانوا ينشطون في أحزاب وجمعيات قانونية ، فالذين نشؤوا في حركة الاختيار الإسلامي أكثر الناس إيمانا بالعمل السياسي المدني وأكثر رغبة في البناء الديمقراطي ، فلقد كنا ولازلنا نحلم بمغربنا آمنا مستقرا ، مغرب الإنسان والحق و القانون بعد أربع سنوات ونصف من الاعتقال و الانتظار، وبعد ستة أشهر من الآمال ، أصبح هناك من يريد خلط الأوراق من جديد ، بل أصبحنا نلمس في بعض خطابات المدافعين القدامى عن المظلومين و المتضامنين السابقين انقلابا غريبا غير مفهوم على تلك الأفكار و المبادئ و الشعارات التي رفعت طوال مدة اعتقالنا وتلعلعت قبل الانتخابات التشريعية ، وأصبحنا نسمع كلاما غريبا وغير مستصاغ وكأن الضمائر خرصت وتكلمت عوضها الكراسي لن أتكلم عن تلك التصريحات التي تدعي عدم وجود معتقلين سياسيين بالسجون المغربية ، وإن كان هذا التصريح مضحك فإنه بالنسبة لي مفهوم بالنظر إلى المنصب الذي أصبح يشغله صاحب التصريح –وزير- و إنما أتعجب من تلك الخطابات التي توحي بأننا قد نكون نحمل أفكارا جهادية أو متطرفة ، وعلينا تغييرها، و أن وزارة العدل حالت دون إدراج أسماء المحكومين على خلفية ما يسمى"قانون الإرهاب" في لائحة العفو خوفا من ارتكابهم حماقات ، وتم الخلط بين ملفنا و ملفات ما يسمى السلفية الجهادية خلطا مشبوها و ملغوما ، وعليه فإنه علينا أن نغير أفكارنا المتطرفة والجهادية والتكفيرية وسوف تتأكد الدولة من صدق هذا التغيير عبر عمل ستقوم به مستقبلا بعد الانتهاء من الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة و إصلاح القضاء ، وهكذا سيطلب منا بعد عام أو عامين من يدري ، أو بعد أن ينهي جميع المعتقلين مدة محكوميتهم بتغيير أفكار لم تكن لدينا أصلا . إنه العبث ، بل هو العجز عن مواصلة النضال من أجل مظلومين خلف القضبان كما كانوا يعدون بذلك قبلا . بعد أربع سنوات ونصف من التسويف و الطمأنة ، وستة أشهر من الانتظار ظهر لنا أننا: .. نسير بلا شراع ..بلا قلب و لا عين ولاشيئ ..ومهما سرنا يبقى في الليل فراغ لا حلم فيه ولا نوم ولا صحبة ولا شيء دواب الأرض لم تمت كلها ومع ذلك فالطريق طويل وما بقي لن يكفي لنهاية المسير أيوجد ليل بلا غد أو غد بلا ليل أتوجد قسمة بلا كيل وسفينة بلا بحر وأنا الذي ، ليس لي من غد إلا ليلة وأنا الذي لاشراع على سفينتي ولا شعلة على قامتي ولا شرر أبعد كل هذا الانتظار يأتي الليل يأتينا بلا قمر ، بلا فجر ، بلا شيء يأتينا وكله فراغ أبعد كل هذا الانتظار نسير بلا شراع وأخيرا .. إن الذي حدث في ملفنا وقضيتنا لا يخرج عن إطار الممارسة السياسية كأعقد ممارسة إنسانية لما يشوبها من محطات متعارضة و متناقضة من بدايتها إلى نهايتها . و ما يتخللها من الألغام المرتبطة بالمصلحية والذاتية و البراغماتية و الانتهازية ، هذه القيم الفاسدة تكون في الممارسة السياسية مضمرة في شعارات و خطابات نخبوية أو شعبوية أقرب إلى البطولة و الطهرانية وذلك في مجال أبعد ما يكون عن هذه القيم . ضاعت قضيتنا وسط هذا الزخم ، غير أننا كنا نعتقد بأن القانون هو الضامن لحقنا و ناصرنا، فهو وعاء الحق و العدل ، غير أن الممارسة السياسية وتراجيديا العدالة في قضيتنا أظهرت لنا أن القانون وعاء يصب فيه المتحكمون رغباتهم و تحكمهم ومصالحهم ويخضعونه للحظة السياسية و ظروف المرحلة فما علينا إلا انتظار لحظة سياسية مناسبة ليصدر القرار السياسي بإطلاق سراحنا و لو على شكل قانون يرضي الحاكمين و المتحكمين. الأحد 23 غشت 2012 16:32 --- 1.الندوة الصحفية لوزير الداخلية السابق شكيب بنموسى 2.الأستاذ عبد العزيز النويضي