يبدو أن التمعن في مسار التحديث بالعالم العربي، أمرا ليس بالهين بالنسبة لكل متتبع أو محلل لواقع عملية الإصلاح بمجتمعات لازالت دينامية التنمية الاقتصادية و الاجتماعية تبعث مخرجاتها على التساؤل المقلق. فلا يمكن التطرق إلى مستقبل المجتمعات العربية دون طرح عدة إشكالات عميقة، لعل أهمها عسر الخروج من دائرة التخلف الاجتماعي الذي يختزل كل الأسباب المفسرة اليوم لسفرها عبر التاريخ بدون تذكرة سفر. فعلى مستوى وضع آليات تحليلية لفهم معيقات الإصلاح، يبدو من المفيد إعادة النظر في طبيعة الأسئلة المحيطة بهذه الإشكالية، وهنا أستحضر ملاحظة المفكر السوري هاشم صالح عندما قال بأن شكل وماهية التخلف بالعالم العربي تفترض أسئلة مثل تلك التي طرحها مجموعة من الفلاسفة الغربيين من أهمهم ديكارت في القرنين السابع والثامن عشر حول ضرورة تبني المنطق والشك بغية إخراج المجتمعات الغربية من حالتي الركود والتخلف.لأنه بالرغم من الشكل الحداثي للمجتمعات العربية ومواكبتها للمنتوجات التقنية الحديثة، وعدم تأثر بنية العقل العربي بذلك،جعل تلك المجتمعات بعيدة بمسافات طويلة عن الحداثة في غياب عدم قدرته على إنتاج منطق عقلاني للسيطرة على الواقع وامتلاكه. إن هيمنة العقل البياني على حساب العقل البرهاني، كما أكد ذلك سالفا محمد عابد الجابري، تفسر هذا التناقض القائم بين الشكل والجوهر مثلما يتأكد لنا ذلك من خلال مفارقة الحداثة بالعالم العربي. لم ينتج عن طرق استهلاك منتوجات العولمة التقنية سوى تعمق أزمة التخلف بالمجتمعات العربية، لأن طبيعة الاستعمالات الاجتماعية لهاته المنتجات تبعث على الحيرة أمام التحول الشكلي الذي عرفته تلك المجتمعات،التي استمرت في نفس الوقت تتذيل مؤشرات التنمية البشرية التي يفترض أن محورها هو بناء الإنسان، لكن واقع الحال يؤكد أنها تخدم أهدافا مناقضة لذلك، بحيث يكون همها الأساسي هو ضمان بقاء المجتمعات تحت الوصاية الأبوية للأنظمة السياسية. وهنا نشير إلى خصوصية عملية التحديث بالدول العربية مثل بعض الدول الخليجية التي لازالت محاولات تحديث مجتمعاتها تصطدم بالمنطق العشائري أو العصبي المؤسس لمشروعية غالبية الأنظمة السياسية الخليجية. هذا دون أن ننسى كذلك بأن الحديث عن مفاهيم كالتنمية و الدمقرطة، تواكبه اليوم في مجتمعات شمال إفريقيا (وهنا أخص بالذكر الحالتين المغربية و الجزائرية) نقاش عمومي يؤكد على أن ضرورة القطع مع الاستراتيجيات الريعية والممارسات السياسية التقليدية وأيضا التخلص من النخب المسؤولة سياسيا عن فشل التنمية،وهذا الواقع لن يكون تجاوزه سوى عبر الحل الديمقراطي وبناء مجتمع حداثي قائم على مبادئ العقلانية والتعددية. قد يبدو للبعض بأن هذا الطرح يحتوي نوعا من التشاؤم المفرط، المتجاهل في الآن نفسه للتحولات التي تعرفها المجتمعات العربية، لكن لا يجب أن ننسى أن هذه التحولات وبالرغم من دورها في إحداث نقلة نوعية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، تبقى عاجزة عن السماح لبنيات الدولة العربية بالتطور السلس والمحدث لقطيعة بنيوية مع كل الأشكال المؤسساتية والقواعد الإجتماعية المرتبطة بإرث ماضوي لازال يفرمل كل محاولات التحول داخل هذه الدول. وهذا ما يجعلنا نطرح إشكالية أعمق،تتمحور حول مدى قدرة التراكم الحاصل نتيجة التغييرات الإجتماعية و الإقتصادية والسياسية وكذلك الثقافية،على كسر شوكة التخلف ووضع حد للمعيقات التي ظلت تقف حجر عثرة أمام كل الجهود الساعية نحو إعادة هيكلة البناء المجتمعي. إن الخوض في هذا الأمر يعد في حد ذاته مغامرة فكرية تتطلب من صاحبها التدقيق في معنى التخلف. فهذا الأخير وكما أشارت إلى ذلك كتابات مصطفى حجازي، هو مفهوم مركب تتقاطع أبعاده لكي تؤسس لمعادلة هدر إنسانية الإنسان وتحطيم كل القدرات الفكرية والمعنوية التي تجعله قادرا على أن يكون فاعلا تاريخيا. فلا يجب أن ننسى أن أحد أهم أسباب الإزدهار الذي عرفته ولازالت تعرفه الحضارة الغربية هو تحرير عقل الإنسان من كل العوائق و الكوابح الجامحة لطاقته الإبداعية. فالمكانة الاجتماعية التي احتلتها المعرفة كانت أحد أهم العوامل المؤسسة لتقدم تلك المجتمعات. وهذا ما يقودنا بالمقابل، إلى التأكيد بأن من بين الأسباب الرئيسية لتخلف المجتمعات العربية، هو أن غالبيتها لم تنظر إلى العلم سوى أنه سفسطة ومضيعة للوقت كما أشارت إلى ذلك كتابات عبد الرحمان الكواكبي في بدايات القرن العشرين حول طبائع الإستبداد. فالبعودة إلى العصور الذهبية للفكر العربي والإسلامي وبالأخص العهد العباسي،نجد أن المعرفة والجدل العلمي الذي احتضنه بيت الحكمة آنذاك، كان سببا أساسيا في ازدهار الحضارة الإسلامية التي اغتنت بفضل إسهامات علم الترجمة و التيار الفلسفي العقلاني (المعتزلة) الذي كان يؤمن بدور العقل والتساؤل كأحد أهم الآليات الأساسية القادرة على استلهام روح المنطق في قراءة وتأويل النص الديني وذلك بغية استخلاص أهم الأسس والقواعد الدينية الكفيلة بتحقيق نهضة الأمة الإسلامية. ولكن مع تراجع التأثير الثقافي والفكري لتيار المعتزلة أمام سيطرة تيار الأشاعرة، الذي يؤمن بسمو التقليد على العقل، تبدد أمل التقدم وبدأت عجلته تدور إلى الوراء محدثة بذلك شرخا في مسار الحداثة العربية والإسلامية. ولعل هذا الأمر يشرح إلى يومنا هذا نوعية التراكمات والمعيقات التاريخية المفسرة للتخلف الاجتماعي. إذ لا يمكن فهم سيرورة تخلف المجتمعات العربية خارج إطار المسار التاريخي لتطورها. وليس من الغريب أيضا أن ترمز محنة ابن رشد إلى طبيعة المقاومة الإجتماعية التي لقيتها كل الأفكار الرامية إلى عقلنة الخطاب الديني عبر الإعتماد على مجموعة من الآليات الفلسفية و الإبستيمولوجية في تأويله واستخلاص القواعد القادرة على الدفع بعجلة التنمية الإقتصادية والسياسية بالعالم الإسلامي. حيث شكل التقليد حاجزا أمام تطور الفكر الإسلامي والعربي وفي نفس الوقت آلية مكنت الأنظمة السلطوية من محاربة جميع المفكرين الذين يحملون فكرا تنويريا مخافة إسهامهم في إحداث ثورة ثقافية تمكن المجتمع من التحرر من الخوف وتبعات الفكر الدوغمائي. فهذا الأخير كان ولازال يشكل أحد أهم مميزات الفضاء الثقافي والسياسي بالعالم العربي إذ ينتشر المنطق التكفيري الذي يغلق الأبواب أمام كل محاولة لاستخدام العقل من أجل مساءلة مجموعة من المسلمات والقيم الثقافية التي يرتكز عليها كل من التسلط الاجتماعي والسياسي في اشتغالهما. ولقد زادت عزلة المثقف وتراجع دوره الإجتماعي أيضا بسبب المضايقات التي يتعرض إليها ثم تزايد حجم الأقلام المأجورة في بروز خطاب ثقافي انهزامي يشرعن كل الممارسات السياسية والاجتماعية الرامية لإبقاء المجتمع تحت وصاية الدولة السلطانية. إذ ظلت هاته الأخيرة تعتبر نفسها عبر كل الحقب التاريخية المحتكر الشرعي للحقيقة التي سخرت مجموعة من الأقلام والفتاوى الدينية بغية فرضها كحقيقة مطلقة.موظفة التراث الإسلامي لتثبيت مجموعة من القيم السلطوية المتمركزة حول مفهوم الطاعة وحقوق الحاكم على المحكوم. إن استحضار بعض أسباب النهضة الإسلامية وكذلك معيقاتها نفسره بضرورة توضيح فكرة أساسية مفادها أن نجاح كل عملية تحديث أو إصلاح هي مرتبطة بإعادة الاعتبار لقيمة العقل الإنساني وأيضا للوظيفة الاجتماعية للمعرفة النقدية، حيث كانت ولازالت هذه الأخيرة تشكل هاجسا بالنسبة للأنظمة السلطوية العربية لأنها تخشى دائما على إستمراريتها من تطور وعي جماعي عقلاني ونقدي لكل الأشكال المؤسساتية والسياسية السالبة لإنسانية الإنسان وحرية التفكير لديه. ويمكن فهم تخلف الأنظمة التعليمية بجل الدول العربية من خلال هذا التصور الذي يربط بين جودة التعليم و إمكانية الخروج من دائرة التخلف.إذ لا يمكن بتاتا تصور أي تنمية اقتصادية أو اجتماعية بدون إصلاح تعليمي يجعل من مؤسسات هذا الأخير فضاءا للتفكير والجدل بدل التلقين والحفظ. إن العلاقة الجدلية بين التنمية الثقافية وتطور المجتمعات العربية هي أحد أهم العناصر التي يجب التركيز عليها في ملامسة إشكالية تخلف المجتمعات العربية التي لم تساهم طبيعة التراكم الحاصل فيها على جل المستويات إلا في رسم صورة ضبابية لمستقبل هذه المجتمعات وأيضا لقدرتها على فك قيود الهيمنة السلطوية والتخلف. في هذا المضمار يجب النظر إلى الأساليب التي اتبعتها الأنظمة السلطوية بالعالم العربي منذ محنة ابن رشد في كسر شوكة كل فاعل يحمل وعيا ثقافيا وإبداعيا بموجبه يحطم الطابوهات المشرعنة للاستبداد السلطاني. فهذا الأخير برز دوره التبريري للتسلط بسبب مباركة بعض رجال الدين مما أدى إلى تحول النص الديني إلى مورد إيديولوجي تتغذى منه الأنظمة المتعطشة للحكم وفق منطق إلهي. ولعلنا نفهم اليوم أكثر من أي وقت مضى لماذا اصطدمت كتابات علي عبد الرازق سنة 1925 حول أصول الحكم في الإسلام مقاومة شديدة من بعض علماء الأزهر المحافظين. يمكن القول بأن من أسباب التخلف هو الدور المحافظ الذي لعبه رجال الدين ثم الوظيفة الإجتماعية لهذا الأخير في تبرير كل الأساليب السلطوية والقمعية التي يقوم بها الحاكم تحت ذريعة الحفاظ على العقيدة ووحدة الأمة. إذ لا يمكن اليوم النظر إلى حالة الركود التي تعرفها المجتمعات العربية دون إعادة التساؤل من جديد حول دور القراءات الإيديولوجية والمحافظة للدين في عرقلة مسار تطور هذه ة المجتمعات. فالملاحظ هو أن الدور الاجتماعي والسياسي للعقيدة لازال عاجزا عن إخراج المجتمعات العربية من التخلف وذلك بسبب الاستعمال المكثف للخطاب الديني، المفروض أن يكون دافعة للتطور والتحديث، نجده بقي أسير منطق إيديولوجي أفرغه من كل حمولة عقلانية عبر توظيفه بشكل يتناقض مع دوره الأخلاقي والروحي. فمنذ أن برز الصراع في الإسلام حول السلطة أصبحت العقيدة محركا رئيسيا لكل الخلافات السياسية وخير دليل على ذلك هو الخلاف القائم إلى اليوم بين الشيعة والسنة إلى يومنا هذا. في الختام، تستدعي مقاربة إشكالية التخلف الاجتماعي عدة إشكاليات أخرى ذات طابع بنيوي مرتبطة أساسا ببنية العقل والمجتمع العربيين والتي يتطلب تفكيكها الإلمام بهذه العناصر عبر إدراجها داخل نسق تحليلي جدلي يربط ما بين الحاضر والماضي، من أجل إبراز دور الدينامية التاريخية في تشكل وعي اجتماعي قادر على بلورة حلول عملية للخروج من التخلف وتمكين الأفراد من أن يلعبوا دورا إستشرافيا في صناعة تاريخ مجتمعاتهم المسلوبة الإرادة. فحتمية التقدم الاجتماعي تفترض وجود أفراد أحرار قادرين على التخلص من كل المعيقات التي تقف حاجزا أمام تفكيرهم بطريقة حرة. لذا فإن معالجة أسباب التخلف تتطلب أكثر من أي وقت مضى، إعادة النظر في كيفية تشكل مكونات العقل العربي وأيضا إعادة النقاش من جديد حول أية مقومات وشروط قادرة على بناء مجتمعات عربية حداثية وديمقراطية. باحث في العلوم السياسية