في مقال لنا بعنوان "مأساة الإيغور تجسيد لضعف و "غثائية " الأمة الإسلامية" أشرت الى مخاوف الصين في تعاطيها مع الأقليات المسلمة، و مما ورد في المقال أن الصين حالة فريدة، و من الصعب استيعاب هذا البلد المتنوع و المعقد و المركب حضاريا و ثقافيا و سياسيا، فكل شيء في الصين يطبع بالخصائص الصينية، و موقفنا الرافض للأساليب الديكتاتورية و الإجراءات القمعية والعنيفة المقيدة للحريات الفردية والجماعية، بغض النظر عن النوع أو الدين أو العرق، لا يلغي فرادة التجربة النهضوية الصينية، ولا يمنع الدارس و الباحث عن نهضة "عربية" بملامح "إسلامية"، الاقتباس من تجربة الصين "فالحكمة ضالة المؤمن"، فلاشك أن التجربة التي استطاعت أن تنقل الشعب الصيني من حياة الفقر والعوز والتشرد ، إلى حياة إنسانية مفعمة بالدفء والطمأنينة والثقة بالنفس والأمل في المستقبل، تغري حقا بالإطلاع وتثير الإعجاب.. وشعوب المنطقة العربية- تحديدا- تجد في هذه التجربة أمثلة أخرى حَرِيَّة بالتأمل، وهي تبحث عن السبل التي تمكنها من التغلب على التخلف و التفكك، الذي اجتاح المنطقة منذ ولوجها دائرة عصور الانحطاط، فقد كانت الصين عند مطلع القرن العشرين عشرات الأقاليم المفككة، التي يحكمها أمراء الحرب. وبذلك، لم تصبح مطمعا لليابان فقط، لكنها كانت مشاعا تنافست عليه الدول الغربية… ومنذ أن أدركت ثورة الصين الأولى والثانية خلال مطلع القرن الماضي، أن قوتها في وحدة الصين. وأنها بمقدار ما تشد إليها هذه الوحدة تستطيع زعزعة الاستعمار واقتلاع جذوره. ونتيجة لذلك، شكلت وحدة البلاد البرنامج السياسي، الذي توحدت عنده مختلف التيارات السياسية باختلاف توجهاتها الأيديولوجية. فالتحولات التي شهدتها الصين بعد 1978، لم تكن وليدة –فحسب- لسياسة الإصلاح والانفتاح التي تم تبنيها في الدورة الثالثة الموسعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني. بل إنها نتاج لتراكم تاريخي بدأ: أولا، بإدراك الأمة الصينية لحقيقة تخلفها وتأخرها عن روح العصر. وثانيا، بالانتقال إلى تشخيص مكامن الضعف والوهن التي استوطنت جسم الأمة وجعلته ملاذا لهيمنة المحتل الأجنبي. فتم الاتفاق بين جميع الأطراف على حقيقة ضعف ووهن الأمة الصينية، لكن تم الاختلاف والتناحر حول منهجية العلاج. وعليه، فإن الدورة الزمنية لتحديث وتنمية وعصرنة الصين، بدأت بإرهاصات حركة 4 مايو غير أن وثيرة التحديث والعصرنة ظلت بطيئة إلى حدود 1978، حيث تهيئة السيكولوجية الصينية للقبول بخوض غمار التحديث. ويظل الهدف من هذا التحليل ذو النزعة التاريخية ، ليس هو التأريخ لحركة التحديث في الصين. بقدر ما هو محاولة للوقوف على إرهاصات أول حركة للتحديث شهدتها الصين بعد حرب الأفيون لعام 1840. هذه الحرب حطمت عزلة الصين وكسرت أسوارها وفتحت أبوابها قسرا، وهو مانجم عنه رد فعل تكييفي وتوفيقي، أكثر مما هو رد فعل رافض لثمار الحداثة، فحركة 4 مايو جعلت النخبة الصينية تدخل في جدل ومساومات مع الوافد الجديد " الحداثة" بصالحها وطالحها، و امتد هذا الجدل إلى مطلع 1978، حيث تشكل وعي قومي بضرورة تحديث وعصرنة الأمة. فالحقبة الممتدة من حروب الأفيون إلى مطلع 1978، يمكن اعتبارها المجال الزمني الذي كان لابد منه لتأهيل البيئة الصينية للقبول بإصلاحات 1978، وهو مايعني الاتفاق على إخراج الصين من دائرة التخلف والتهميش، وإدخالها إلى دائرة الفعل و التأثير في مسرح الأحداث الإقليمية والدولية. وهو نفس التحدي الذي طالما راود الصينيون منذ إحساسهم بالهزيمة العسكرية والثقافية التي أفرزها الاحتلال الأجنبي . و بغرض تفكيك هذه الصورة المركبة لعملية تحديث وتنمية الصين المعاصرة، سنركز على ثلاث مراحل أساسية ، و لكل مرحلة خصوصياتها و أهميتها في التأثير على عملية التنمية ، غير أن هذه المراحل باختلاف توجهاتها ونتائجها، شكلت المعول الذي هدم رموز الثقافة التقليدية، التي تؤمن بالقدرية وتميل للعزلة، والتشبث الأعمى بالتقاليد القديمة وعبادة الأجداد. وهو ما أهل الذات الصينية للقبول بتحديات التحديث والعصرنة. ف"الأصولية الصينية" دخلت مع الحداثة، في مساومات وتنازلات وصراعات، محاولة احتواءها وتدجينها من جهة، تم استعمالها وتوظيفها من جهة أخرى.. لذلك، فان الدورة الزمنية لتحديث الأمة الصينية، مرت بثلاث مراحل أساسية، و سنكتفي في هذا المقال بالمرحلة الاولى و هي مرحلة الخروج من العزلة و مقاومة الاحتلال الأجنبي، على أن نخصص مقالين منفصلين للمراحل اللاحقة.. فالشعب الصيني ظل إلى وقت قريب متمسكا بسيكولوجية الحياة الصينية، المهتمة بالانسجام والاستقرار والهدوء ومقاومة التغيير بالفطرة. وفي بيئة كهذه يصبح الخوف من الإصلاح والتغيير هو المسيطر، بجانب الحنين إلى الأصول والرغبة في العودة إلى المجد التليد، فكان لابد في ظروف سيكولوجية كهذه، أن يتم رسم حدود فاصلة بين الصين والعالم الخارجي. فعاشت الصين في عزلة تامة عن المحيط الخارجي، بعدما زرع الأباطرة حب العزلة بداخل نفوس الصينيون، و يحكى انه في منتصف القرن 19 سئل عالم صيني هل يعتقد أن طلب العلم يتحقق بالهجرة إلى خارج الصين ، فكان جوابه أن من كان على علم بالدراسات الصينية القديمة ليس به حاجة إلى مزيد من العلم. فأثناء حرب الأفيون الأولى (1840-1842)، والفترة التاريخية اللاحقة، اقتحم الإمبرياليون بوابة الصين القديمة، بالمدافع وهزوا بعنف التركيب النفسي للصينيين المستند على الثقافة التقليدية، وتسببوا لهم في جرح عميق لكرامة الأمة والثقة بالذات وبالثقافة الصينية التقليدية، إذ فقد الصينيون لأول مرة من تاريخهم التوازن النفسي والاجتماعي. وفي الوقت الذي اتجه فيه الصينيون إلى البحث عن مخرج لإنقاذ الأمة من الهزيمة والانحدار، حاولوا بداية تحديد مواضيع النقص والخلل، تم البدء في محاسبة الذات واستنطاقها. فحروب الأفيون والهزائم المتوالية دفعت كثيرا من المفكرين الصينيين، إلى الاعتراف بأن الهزيمة ليست في المجال العسكري والسياسي بقدر ما هي "هزيمة كبرى" للثقافة الصينية التقليدية. ومنذ ذلك، الحين بدأ الاحتكاك والتعارض بين نمطين ثقافيين: الثقافة الصينية والثقافة الغربية. فعلى الرغم، من أن الصين استقبلت العديد من المبشرين بالدين المسيحي، والذين عملوا على نشر العلوم الغربية وبناء الكنائس، إلا أن هذه البعثات التبشيرية لم تستطع استقطاب إلا نخبة جد محدودة من الطبقات العليا، ولم تتمكن من إحداث أي تأثير على مستوى السواد الأعظم من الصينيين. غير أن هزيمة حرب الأفيون هزت بنية المجتمع الصيني ككل، فظهرت الثقافة الغربية للصينيين في شكل المدافع والأساطيل. فهذه الهزائم دفعت الصينيون إلى الإيمان بأنه لا مفر من الاستعانة بعلوم الغرب بهدف ولوج العصر الجديد، فعملت حركات التنوير والتحديث على تدمير النظام القديم وبعث القومية الصينية وإحياء معرفة الذات، بهدف تحقيق مواءمة، بين "الأصالة والمعاصرة" في مواجهة الصدام والتناقض مع الثقافة الغربية، والبحث عن سبل إنقاذ الأمة الصينية من الانهيار في مواجهة المحتل الأجنبي. ونتيجة لذلك، ظهرت بالتدريج أصوات داعية إلى تعلم العلوم الغربية واكتساب تقنيات "البرابرة"، من أجل الدفاع على إمبراطورية السماء، فبدأت فئات من النخبة تحاول المواءمة بين التقاليد الصينية وعلوم وتقنيات الغرب. بحيث "تتغير الوسيلة ولاتتغير الطريق، والعلم الصيني هو الجوهر، والعلم الغربي من أجل المهنة"، وهو نفس الشعار الذي تبنته حركة "ميجي" الإصلاحية في اليابان. بل إن نجاح الجيش الياباني في هزيمة الروس أثناء الحرب اليابانية – الروسية مابين 1905-1904، أثار إعجاب النخبة المثقفة في الصين وهو ماجعلها تقتنع بضرورة الاستعانة بعلوم الغرب وتقنياته. فظهرت على أرض الصين إنجازات "الثورة الصناعية" من سكك حديدية وأساطيل حربية ومصانع، كما ارتفعت الأصوات الداعية إلى إدخال إصلاحات سياسية على النظام الإمبراطوري، في بلد طالما رفع راية التفوق الثقافي الأمر الذي عبر عن انكسار سيكولوجي للذات الصينية.وقد شهدت الصين قبل مرحلة "4 مايو" سلسلة من الأحداث أهمها : أولا – حركة التغريب : ظهرت "حركة التغريب westernization movement " في أواخر أسرة تشينغ الحاكمة 1644-1911، وكانت هذه الحركة تضم الكومبرا دوريين compradors وهم عبارة عن وكلاء أو مستشارين وطنيين تستخدمهم مؤسسات أجنبية في الصين للإشراف على شؤون مستخدميها الصينيين وأيد زعماء هذه الحركة الاقتراح القابل بالترحيب بالمساعدات الأجنبية لإقامة الصناعات العسكرية الحديثة وقهر المقاومة الشعبية وحماية الإقطاع .. ثانيا- حركة الإصلاح والتجديد: ظهرت الحركة الثقافية الجديدة عام 1915 وحملت شعار العلم والديمقراطية، بعدما ارتأت أن تخلف الصين يعود إلى افتقارها للعلوم الحديثة وللديمقراطية، كما رفعت شعار الإطاحة بدار كونفوشيوس" وشن زعماء الحركة نقدا شديدا لنظام الحكومة والمؤسسات الاجتماعية، والمثل العليا للشخصية ومقاييس القيم والأعراف الاجتماعية. ودعوا إلى إصلاح النظام التعليمي وتحرير الفكر الصيني من قيود الفكر الكونفوشي ، وهو الأمر الذي مهد لقيام ثورة 1911،التي أطاحت بالنظام الإمبراطوري وأفضت إلى إعلان ميلاد جمهورية الصين يوم 10 أكتوبر 1911 بقيادة "صن يات صن" وأهم زعماءحركة الاصلاح و التجديد "تشين دوشيو" (1880-1942) و"لي داجاو" (1899-1927) و"لوشين" 1880-1936) … ثالثا- حركة 4 مايو: حركة "4 مايو" wǔ sì yùn dòng اندلعت في 4 مايو1919 ، فقد جاءت للتعبير عن حجم الصدمة التي ألمت بالأمة الصينية، فدعت هذه الحركة إلى محاسبة الذات، وإعادة النظر في المنظومة السياسية والاجتماعية والثقافية، التي تكرس التخلف وتعمق الانحطاط.فتخلف الصين وهزائمها المتوالية، ليس نتاجا لتخلف الوسائل والهيكل التنظيمي و الاجتماعي فحسب، بل هي أيضا نتاج لنقائص تعتري التكوين العميق للثقافة التقليدية. وخلال هذه المرحلة رفع مجموعة من المفكرين راية معارضة التقاليد، وشنوا هجوما على أفكار المذهب الكونفوشي الذي كان أساس الثقافة التقليدية.. إن حركة" 4 مايو" هي نقطة تحول فكري وسيكولوجي عميق مست الطبيعة الحياتية والفكرية والشخصية للأمة الصينية، فالتحديات التي ولدها القرن العشرين، غيرت بنية المجتمع الصيني، وأهلته لقبول عملية التحديث. فانهار نتيجة لذلك صرح النظام القديم، لكن النظام الجديد لم يستقر إلا بعد حرب طاحنة، من جهة ضد المحتل الأجنبي ومن جهة ثانية بين القوى السياسية الصاعدة التي تأثرت بدورها بالتباين الأيديولوجي. فكانت الغلبة للنظام الشيوعي الذي تمكن من دحر الاحتلال وتوحيد البلاد، وتغيير البنية السياسية والاجتماعية للمجتمع الصيني. كما تمكن من نقل المجتمع الصيني من حالة التفكك إلى الوحدة، ومن مجتمع المزارعين إلى مجتمع العمال، ومن الجهل إلى العلم، ومن الاقتصاد المنهار إلى الاقتصاد النامي، و هو ما سنحاول توضيحه في مقال منفصل إن شاء الله.. و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون… أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية