كيف نفهم ما جرى في تونس على مدى الأيام الماضية من حملة انتخابات رئاسية شارك فيها 26 مرشحا من مختلف العائلات السياسية ومن خارجها ؟.. وكيف نفسر اتجاهات تصويت الناخبين وما اسفرت عنه من تقدم استاذ القانون الدستوري المستقل القادم من خارج “السستام” ( النظام/ المنظومة ) قيس سعيد و رجل الأعمال المحبوس على ذمة تحقيقات تبييض الأموال والتهرب الضريبي نبيل القروي للجولة الثانية الحاسمة ؟..وماهي فرص كليهما في الوصول الى قصر الرئاسة بقرطاج ؟ .. و ماهي احتمالات تأثير المنافسة الرئاسية على الانتخابات التشريعية 6أكتوبر المقبل ، والتي تعد الأهم بمقتضى دستور يناير 2019 الذي يعطي البرلمان ثقلا أكبر ؟. هذه الأسئلة نسعي للإجابة عليها بنقاط محددة في محاولة لفهم حصاد وآفاق الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية بتونس 2019.وهي انتخابات يمكن وصفها بأنها جرت هادئة وانتهت بنتائج صاخبة مثيرة للجدل . أولا .. عن الانتخابات وحملة الرئاسية : 1 مجرد اجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في دورتها وتوقيتها يعد في حد ذاته مكسبا لتجربة الانتقال الى الديمقراطية بتونس . و طالما شهد العام الماضي جهود قوى ومن داخل نظام الحكم ذاته للتأجيل. وسواء أكان هذا بمبررات الحاجة الى تعديل النظام السياسي الدستوري أو النظام الانتخابي، أو بدوافع غير معلنة تتمثل اساسا في استشعار قوى حزبية بعد نتائج الانتخابات البلدية مايو 2018 بعدم جاهزيتها لتوقيت انتهاء ولاية رئيس الدولة والبرلمان بعد خمس سنوات من انتخابات خريف 2014 (التشريعية أكتوبر والرئاسية نوفمبر / ديسمبر). صحيح ان حدثا طارئا هو وفاة الرئيس الباجي قايد السبسي في 26 يونيو الماضي تسبب في تقديم طفيف لموعد الانتخابات الرئاسية و أن تسبق جولتها الأولى التشريعية . لكن هاهي تونس تتمكن من اجراء الانتخابات العامة في الموعد بعد فترات من القيل والقال واشاعة الغموض غير المريح الذي كان من شأنه ان يفتح الباب أمام تأويلات عن تعثر، بل واخفاق الديمقراطية التونسية الناشئة . 2 جرت منافسات الحملة الانتخابية بصفة عامة في مناخ من الحريات وبهدوء. ومر يوم الاقتراع نفسه بسلام وبدون احداث عنف أو ارتباك من الهيئة العليا المستقلة للانتخابات . وكل هذا اضافة جديدة لمصداقية العمليات الانتخابية بعد الثورة و الهيئة المنظمة لها والمشرفة عليها،ناهيك عن ترسيخ دور مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني في مرافقة كافة مراحل الانتخابات العامة وملاحظتها ومراقبتها. تعدد المرشحين
3 لكن ثمة ملاحظات تفصيلية سلبية على هامش الصورة العامة منها ما يتعلق بالاتهامات المتبادلة حول استغلال مرشحين من داخل الحكومة امكانات الدولة و تجاوز سقف الانفاق المحدد وانتهاك الحدود القانونية والقواعد المهنية في استخدام واداء وسائل الإعلام .وفي مقدمة كل هذا معضلة خوض رجل الأعمال القروي صاحب قناة نسمةوالجمعية الخيرية “خليل تونس ” والحزب الوليد ” قلب تونس ” الانتخابات وحملتها وهو حبيس احتياطيا في اتهامات الفساد التي تقدمت بها واحدة من ابرز منظمات المجتمع المدني ” أنا يقظ” . فمن جانب ظل الرجل واذرعته الإعلامية والخيرية والسياسية ينتهك القوانين وابجديات الديمقراطية والممارسة السياسية غير الفاسدة لثلاث سنوات كاملة دون أن تتعرض له سلطات الدولة. وفقط عندما ترشح للرئاسة وفي منافسة رئيس الحكومة يوسف الشاهد تحركت السلطة القضائية لتمنع مرشحا من خوض حملته بنفسه.ولكن وسط جدول حول هل هناك توظيف سياسي سلطوي أم لا ؟ . 4 من حيث المضمون عرفت الحملة الانتخابية طرحا للعديد من القضايا والموضوعات،وبعضها على قدر من الحساسية كتأميم الثروات البترولية والمعدنية ومراجعة العلاقة والاتفاقات مع فرنسا قوة الإحتلال سابقا .كما شهدت أيضاوعلى نحو أبرز جدلا حول صلاحيات الرئيس بين مرشحين يلتزمون بحدودها في الدستور ( الأمن القومي والسياسة الخارجية والمبادرات التشريعية ) وبين من يتجاوزها ويجورعلى سلطات رئيس الحكومة والبرلمان . ولاشك أن جانبا من ” الشعبوية ” التي وصف بها عدد من المرشحين ينطبق على حملات دعائية وخطاب انتخابي يبيع أوهام سهولة تعديل رئيس الدولة للدستور أو تدخله الواسع في الشئون الاقتصادية وغيرها من اختصاصات الحكومة والبرلمان . وكل هذا مضبوط ومحكوم في الدستور وفي واقع الممارسة للسلطات والسياسة وبإرادات خارج قصر الرئاسةبقرطاج ،ومنها ما يتعلق باغلبية ثلثي اعضاء البرلمان وباستفتاء الشعب ..وغيرها من اعتبارات دستورية وضرورات واقع سياسييصعب تجاوزها في الأجل المنظور. ولعل أخطر ما يتعلق بالترويج لصلاحيات أوسع لرئيس الدولة الى سقف “الخيال ” أن جانبا منها جاء باستدعاء السلطات المتوحشة للرئيس كما كان عليه الحال قبل الثورة وبمداعبة قطاعات من الناخبين يختلط لديها غياب الثقافة الدستورية والسياسية وتمثل القيم الديمقراطية الحداثية بالحنين الى هذا “الرئيس القادر المقتدر”مطلق السلطات جراء وطأة الاخفاق في تحقيق أهداف الثورة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي . 5 ومن حيث الشكل ،عرفت الحملة الانتخابية تطورا لافتا على صعيد الإعلام . فمن جانب جرى تنظيم مناظرة تلفزيونية جماعية بين المرشحين على ثلاث جولات،وذلك في سابقة أولى للمرة الأولى بتاريخ انتخابات الرئاسة التونسية وربما في العالم العربي بأسره . وحظيت هذه المناظرات التي نظمها التلفزيون العمومي وفق معايير شاركت في وضعها هيئة الانتخابات والهيئة المستقلة المكلفة بوسائل الإعلام السمعية والبصرية ( الهايكا ) بمتابعات مليونية لافته من جمهور المشاهدين وبثتها العديد من القنوات الخاصة. ومن جانب آخر ، أبرزت حملات المرشحين اعتمادا متزايدا وغير مسبوق على الإعلام غير التقليدي كصفحات التواصل الاجتماعي وتويتر وبشكل يفوق الإعلام التقليدي .وهذا ناهيك عن ابتداع اساليب عديدة من الاتصال المباشر .ويعد هذا الاعتماد على العالمين الافتراضي و العيني المباشر من بين أسباب صعود المرشح المستقل قيس سعيد،و الذي يقول مراقبون انه لم ينفق كثيرا على حملته .وعلى هذا النحو ، تقدم الخبرة التونسية اليوم امكانية لاحداث التوازن وإلى حد ما بين من يملك الأموال والإمكانات المادية ومن لايملك إلاالقليل منها. 6 بدا التنافس بين مرشحين ينتمون للعائلة أو التيار السياسي الواحد أكثر شراسة بين ممثلي هذه العائلة أو تلك . وكنا في مقال سابق قبل انطلاق الحملة الانتخابية للجولة الأولى قد اشرنا الى ما تنطوي عليه الظاهرة من ارباك للناخبين وخصم من رصيد هذه العائلات وبخاصة مايسمى ب”الدستورية الوسطية الحداثية” و الإسلامية و اليسارية. وعلى ضوء ماجرى في الحملة الانتخابية يمكننا أن نلاحظ مثلا ان التطاحن بين اثنين من مرشحي العائلة الدستورية الوسطية ذاتها بل ومن أعضاء حكومة واحدة ( عبد الكريم الزبيدي وزير الدفاع ويوسف الشاهد رئيس الحكومة ) كان أشد وأعنفمقارنة بين أي منهما وبين مرشح النهضة الإسلامي عبد الفتاح مورو. وهكذا حتى على مستوى مرشحين إثنين من نفس العائلة اليسارية كحمة الهمامي ومنجي الرحوي،وبعدما كانا قبل أسابيع كليهما تحت مظلة ” الجبهة الشعبية “. تونسيون يقبلون على الإقتراع
ثانيا .. عن اتجاهات التصويت: 7 صوت في هذه الجولة من الانتخابات نحو 3,5 مليون ناخب بنسبة حوالي 49 في المائة.وعلى هذا النحوثمة انخفاض عن الجولة الأولى لرئاسية 2014 ب 15,5 نقطة حين بلغت 65,5 في المائة من اجمالي الناخبين المسجلين . و نظرا لأن اعداد المسجلين ارتفع من 5,3 مليون إلى 7,07 مليون ناخب ولأن من اقترعوا هذه المرة يزيد عمن اقترعوا عام 2014 بنحو 200 ألفا فقط ، فإن مفارقة الانخفاض اللافت في نسبة المقترعين الى اعداد المسجلين تمثل لغزا يحتاج الى دراسة للإجابة على السؤال : لماذا زاد عدد من سجلوا انفسهم بمايفوق المليون والنصف ولم تحدث زيادة في اعداد المقترعين سوى بهذا الرقم الهزيل ؟. وبالطبع فإن هذا السلوك الملغز في المشاركة يحتاج الى بحوث تفصيلية معمقة ربما تفسر العديد من سمات اتجاهات التصويت في هذه الانتخابات وما بعدها . 8 يلفت النظر و بالتقدير كون أن انتخابات رئاسة تجرى في العالم العربي ويخوضها رئيس حكومة ووزير دفاع وقائم بأعمال رئيس البرلمان ولا يتمكن أحدهم لا من الحسم. بل وحتى من الصعود الى المرحلة الثانية الحاسمة . وفي هذه النتائج ما يعزز الثقة في هذه الانتخابات و في الهيئة المنظمة لها . 9 في الجولة الأولى من رئاسية 2014 حصد من صعدا الى الدور الثاني الحاسم ( الباجي قايد السبسي والمنصف المرزوقي ) مجتمعين نحو2,38 مليون صوت حصتها مجتعين تمثلنحو 73 في المائة من الاصوات الصحيحة التي حصل عليها كافة المرشحين السبعة والعشرين حينها. واليوم يتقلص ما حصل عليه المرشحان الصاعدان الى جولة الحسم مجتمعين كي يصبح 33 في المائة من الأصوات الصحيحة لستة وعشرين مرشحا.وهي مستحقة عن نحو 1,4 مليون صوت فقط ( سعيد 18,6 في المائة عن 620 ألفا و القروي 15,6 في المائة عن 525 ألفا).وبالطبع فان الأمر يعكس تشتتا أكبر في اتجاهات التصويت . وإذا اخذنا في الاعتبار أن هناك اثنين من المرشحين على مقربة في المرتبة الثالثة والرابعة حصدا 12,9 في المائة ( مرشح النهضة عبد الفتاح مورو ) و 10,7 في المائة ( الزبيدي المستقل المدعوم من حزب نداء تونس ) لخرجنا باستخلاص مفاده أن الاستقطاب الذي كان قائما خريف 2014 بين إسلاميي النهضة وحداثيي النداء قد اختفى او زال الى حد كبير مع انتخابات اليوم . لكنه سيفسح الطريق أمام استقطاب آخر محتمل يلوح في الأفق،وكما سيرد لاحقا. 10 واصلت الأحزاب الكبرى التي تشكل منها بالأصل برلمان 2014 المزيد من نزيف الأصوات والحصص بين الناخبين . فالمرشح المستقل المدعوم من حزب نداء تونس ( الزبيدي) قد حصد نحو 361 ألف صوت من بينها أصوات بالقطع من خارج مؤيدي هذا الحزب .وهذا بينماحصلالحزب في الانتخابات البلدية العام الماضي 376 ألف صوت .وهو هبوط درامي إذا قورن بما حصده السبسي مرشح الحزب في الجولة الأولى من رئاسية 2014 نحو 1,28 مليون صوت بنسبة 33,4 في المائة من الأصوات الصحيحة ،ثم ما حصده في الجولة الثانية من هذه الانتخابات 1,73 مليون صوت .وكذا ما حصل عليه “نداء تونس ” في تشريعية 2014 حين حلأولا وحصد نحو 1,275 مليون صوت بنسبة 35,6 في المائة . وينطبق الأمر بصورة أوضح وأفدح على حزب حركة النهضة . فالحزب الذي خاض الانتخابات الرئاسية هذه المرة وفي سابقة أولى كان قد حصد في بلديات 2018 ما يقدر بنحو 516 ألف صوت تمثل 28,6 في المائة من الأصوات الصحيحة . وكان هذا بدوره انخفاضا كبيرا ومستمرا من انتخابات المجلس التأسيسي أكتوبر 2011 حين حل أولا بنحو 1,4 مليون صوت تمثل حوالي 40 في المائة من الاصوات الصحيحة ثم 947 ألف صوت في الانتخابات التشريعية أكتوبر 2014 بنسبة نحو 26,4 في المائة حيث حل ثانيا بعد النداء . 11 ينطبق انحسار ما يسمي بالخزان الانتخابي للأحزاب الكبرى أعمدة النظام البرلماني أيضا على المعارضة اليسارية . فمجموع ما حصده مرشحا “الجبهة الشعبية” التي تمزقت قبل الانتخابات الرئاسية بأسابيع معدودة لا يتجاوز 1,5 في المائة ،وذلك بعدما حصد منجي الرحوي نحو 27 ألف صوت فقط تمثل 0,8 في المائة من الأصوات الصحيحة فيما حصد منافسه حمة الهمامي بدوره 23,2 ألف صوت و 0,7 في المائة بمجموع نحو 50 ألف صوت فيما كان الهمامي نفسه كمرشح وحيد للجبهة قد حل ثالثا في الانتخابات الرئاسية السابقة 2014 وحقق نسبة 7,5 في المائة من الأصوات الصحيحة مستحقة عن 225 ألف صوت . والاستثناء المحدود من هذه الاتجاه يتجسد في حزبي “التيار الديمقراطي” لمحمد عبو حيث حصد زعيمه في انتخابات الرئاسة 122,28 ألف صوتا بنسبة 3,6 في المائة . وهي حصة في اتجاه الزيادة مقارنة بما حصده الحزب في انتخابات التأسيسي 2011 حين حصد 66,3 ألف صوت بنسبة 1,28 في المائة ثم 75 ألفا في بلديات 2018. وإذا كان التيار الديمقراطي وعبو يحسبان على المعارضة من منطلق الإخلاص لثورة 14 يناير، فإن الاستثناء الأبرز الآخر في انتخابات رئاسة 2019 يأتي من صفوف أعداء الثورة وما يسمي ب”اليمين الشعبوي” ممثلا في عبير موسى رئيسة الحزب “الدستوري الحر” . فقد حصدت بدورها نحو 135ألف صوت وبنسبة 4 في المائة وحلت في المرتبة التاسعة بين المتنافسين .وهذا بينما كان حزبها قد خاض أول انتخابات له على بلديات 2018وبدون أي تمثيل في برلمان 2014 وحصد 25 ألف صوت ونسبة 1,38 في المائة من الأصوات الصحيحة فقط . 12 في انتخابات رئاسة 2014 راج مصطلح ” التصويت المفيد” لدفع حظوط كل من قطبي المنافسة السبسي والمرزوقي حينها . ويبدو ان ” التصويت العقابي ” للساخطين على قيادات الأحزاب والحكم والمعارضة كان له نصيب الى جانب تشتيت اتجاهات التصويت نسبيا عما كان في دفع حظوظ قيس سعيد ونبيل القروي. وثمة هنا سخط متراكم على السياسات والأوضاع الاقتصادية.وأيضا السياسية، بما في ذلك “التوافق ” بين الحزبين الكبيرين في برلمان 2014 ” النهضة”و “نداء تونس” والانشقاقات المتتالية عن الأخير وبخاصة الكبرى من ” حركة مشروع تونس “2016 لمحسن مرزوق و “تحيا تونس ” 2019 ليوسف الشاهد”. وقيس سعيد المرشح المستقل القادم من خارج النظام / المنظومة هو رجل لم ينخرط من قبل في الحياة الحزبية وحتى السياسية . وهو كما التقيته من قبل ناقد لما يعتبره غدرا بالثورة وبمسارها.وكذا هو ناقد لميراث “الدولة الوطنية” منذ بورقيبة ناهيك عن بن على ، كما عنده تصور لاعادة بناء الدولة من المحليات والأطراف الى المركز . وبالمقابل يصعب ان يوصف منافسه في الجولة الثانية رجل الأعمال نبيل القروي بالمستقل أو الخارج عن المنظومة / النظام . فالرجل حصل على ترخيص نادر من بن على لاطلاق قناته الفضائية ” نسمة”،وهو ما لايمكن إلا أن يتمتع به رجال رأسمالية المحاسيب الأقربون. و كان من بين مؤسسي حزب “نداء تونس” وظل من المقربين لمؤسس الحزب ورئيس الدولة السبسي . وربما أضاف حبسه عشية انطلاق حملة انتخابات الرئاسة 2019 إلى رصيد التعاطف الذي حصده على مدى ثلاث سنوات من خلال قناته الفضائية وتسويقها لنشاط جمعيته الخيرية ( خليل تونس )، واظهار عطفها بدورها على الفقراء والمهمشين . وربما منحه الحبس والحرمان من مباشرة حملته الرئاسية بنفسه صورة مستحدثة عن “رجل بات مضطهدا من دوائر الحكم “، وبالتحديد من منافسه رئيس الحكومة الطموح الشاهد . لكن ما حصده القروي من شعبية وأصواتيأتي جراء ما هو أبعد من أزمته هذه . ولا أدل على ذلك من استطلاعات الرأي المنشورة منذ مطلع العام والذي ظلت تمنحه مرتبه متقدمة . بل وفي الأغلب المرتبة الأولى بين المتنافسين المحتملين لرئاسة 2019 . وثمة نقاش بين المثقفين التونسيين حول اختلاف جمهور مؤيدي قيس سعيد و نبيل القروي . فالتصور الأغلب على جمهور الأول كونهم من الشباب المتعلم والمثقف المحبط من البطالة والحياة الحزبية بعد الثورة، فيما يتغلب على تصور مؤيدي القروي أنهم من المهمشين الأقل تعليما ضحايا استمرار غيابالعدالة الاجتماعية بعد الثورة، وأيضا ضحايا التسويق والاتجار في المشهدية التلفزيونية لأيادي ” العاطف النبيل القروي “على الفقراء والمهمشين المنسيين من الدولة . وإلى جانب هذا هناك أيضا نقاش حول امتداد الظاهرة “الشعبوية” وتجاوز المؤسسة الحزبية واضمحلالها من الديمقراطيات العريقة الراسخة في العالم الى الديمقراطيات الناشئة، كما تونس . واللافت أن شخص القروي وأداته الإعلامية ( قناة نسمة) بلاشك أكبر وأهم من حزبه الوليد ” قلب تونس “. لكن يصعب ان ينطبق عليه القولبأنه رجل جاء من خارج المنظومة / النظام . أما سعيد فإن القول بأنه ظاهرة ” شعبوية ” بدوره محل نظر وجدل، وإن جاء يقينا من خارج المنظومة / النظام وبلا حزب . بل وفي خطابه يبرز كمعادي للأحزاب . تونسي يدلي بصوته
ثالثا .. من الأوفر فرصا في الجولة الثانية: 13 يبدو أن قيس سعيد الأوفر حظا للفوز بمنصب الرئيس مع الجولة الثانية الحاسمة . ولا يتعلق الأمر بأحكام اخلاقية تضع أستاذ قانون معروف عنه الاستقامة في مواجهة متهم بالفساد ويوصف على نطاق واسع بين الساسة ب ” المافيوزي” . و هنا حسابات وإن كانت ليست بالسهلة تماما تتعلق بمن سيصطف من المرشحين الخارجين من السباق و مؤيديهم ور اء أي من المرشحين الإثنين؟ . فمن صوتوا للنهضة الأرجح ان يمنح معظمهم تأييدهم لسعيد وبخاصة أنه يجهر بآراء محافظة في قضايا اجتماعية كالمساواة في الميراث وعقوبة الإعدام وغيرها . وهذا على العكس من آرائه الراديكالية التقدمية في السياسية وبشأن نظام الحكم . وهي آراء يبدو العديد منها بعيد المنال في ظل الدستور الحالي وموازين القوى السياسية على الأرض . اللهم إلا اذا نجح في هامش يتعلق بتعزيز قوة وصلاحيات المجالس المحلية المنتخبة 2014 واشاعة الشفافية ومكافحة الفساد . وعلاوة على جمهور ومؤيدي ” النهضة” هناك خمسة مرشحين على الأقل لهم اوزانهم أعلنوا تأييدهم لأستاذ القانون وإلى حينه، وهم : القومي العروبي الصافي سعيد ( حصد 7,1 في المائة من اصوات الجولة الأولى الصحيحة) و لطفي المرايحي ( 6'6 في المائة ) وسيف ا لدين مخلوف (4'4 في المائة ) ومحمد عبو (3,6 في المائة ) والمرزوقي ( 3 في المائة ) ،وبإجمالي نحو ربع الأصوات الصحيحة مستحقة عن ما مجموعه 857 ألف صوت. وإذا اضيف لذلك أصوات مورو ( 434,5 ألف صوت ) لأصبحنا أمام فرصة للاقتناص من بين نحو 1,3 مليون ناخب محتمل يشكلون 37 في المائة ممن منحوا اصواتهم الصحيحة لمرشحي الجولة الأولى . وعلى الجانب الآخر، فإن المرجح ان تعمل الماكينة الانتخابية لحزب التجمع الدستوري المنحل زمن بن على لحساب القروي.وهذا بعدما تفرقت طاقتها في الجولة الأولى بينالزبيدي (10,7 في المائة من الأصوات الصحيحة) و الشاهد (7,4 في المائة ) وعبير موسى ( 4 في المائة) ورئيس الحكومة الأسبق مهدي جمعة 1,8( في المائة)، وباجمالي نحو 23 في المائةمستحقة عن نحو 806 ألف صوت . مع الحذر في الحساب هنا لأن هناك شكوكا في أن يمنح معظم من صوتواللشاهد تأييدهم لغريمه وخصمه القروي.كما أن جانبا من مؤيدي الزبيدي من المرجح أن يبطلوا أصواتهم في الجولة الثانية أو يقاطعوا . وفي كل الأحوال فإن هكذاحسابات ليست بالسهلة، وإن مالت الكفة الى جانب قيس سعيد . 14 وإلى جانب ما سبق، هناك سياق آخر يتعلق بمدى قدرة مرشحي الجولة الثانية الحاسمة على اجتذاب ناخبين لم يصوتوا في الجولة الأولى. وهنا فإن الذهاب إلى احلال الاستقطاب المتوارى بين الحداثي والإسلامي باستقطاب مناصري الثورة مقابل مؤيدي ماقبل الثورة و المنظومة المستمرة غير المقنعة والمنتجة بعدها ( بادخال قيادة النهضة إلى منظومة ماقبل 14 يناير 2011 )من شأنه أن يأتي بناخبين لم يكونوا حاضرين في الصناديق بالجولة الأولى . وهنا حسابات أكثر تعقيدا وأقل وضوحا . رابعا .. التشريعية في الأفق وتساؤلاتها : 15 تفيد قراءة استطلاعات الرأي السابقة على جولة الرئاسية 15 سبتمبر الجاري ونتائج الانتخابات البلدية 2018 و أيضا مجريات الحياة الحزبية والسياسية بتونس بأن البرلمان المقبل لن يتسع إلا لحزب أو حزبين كبيرين وربما ثالث لا يتجاوز حظ أي منها على الأرجح 20 في المائة من المقاعد، وبعدما كان برلمان 2014 قد بدأ بكتلتين كبيرتين (86 نائبا للنداء و 69 نائبا للنهضة وبمجموع 155 من 217 نائبا بنسبة 71 في المائة).وباسثناء هذا ستكون هناك مساحة أكبر للمستقلين غير المنتمين للأحزاب ( بنهاية دورة برلمان 2014 لم يتجاوز عدد غير المنتمين لكتل حزبية34 من اجمالي 217 نائبا وبنسبة 20 في المائة، علما بأن الكتلة النيابية تتطلب 10 اعضاء على الأقل ). والأخطر هو تلك الفسيفساء من الكتل البرلمانية الحزبية المتوقعه مع البرلمان الجديد.و المرجح أن تتجاوز بكثير ما كان عليه الحال مع نهاية الدورة البرلمانية الحالية ( ست كتل ) . وهواحتمال ترجحه نتائج الانتخابات البلدية السابقة قبل أقل من عام ونصف . جانب من الحملة الانتخابية قبل الدور الأول من الانتخابات الرئاسية
16 تفيد مؤشرات عدة بأن النهضة مرشحه لأن تكون الحزب الأول في البرلمان الجديد. وهذا لأنها تظل الحزب الأكثر تماسكا وتنظيما ومؤسسية وتطورا وجماهيرية بعد الثورة على الرغم مما افقدته المشاركة في الحكم والنزول من سماء الأيديولوجية ومظلومية الاضطهاد في عهد الاستبداد إلى أرض الممارسة السياسية والمسئولية عن احوال المواطنين من ناخبين .ورجحان أن تكون النهضة الحزب الأول في البرلمان القادم يتأسس على نتائج البلديات و ما حصده مرشحها مورو في جولة الرئاسة الأولى قبل أيام،وإن ستفقد بدورها مابين 20 و25 مقعدا وستتقلص كتلتها إلى ما دون الخمسة و الأربعين مقعدا . وإلى جانب النهضة تبرز فرص ثلاثة أحزاب هي : “تحيا تونس” للشاهد و”قلب تونس” للقروي.. وأخيرا “نداء تونس” القابلة لمزيد من الانقسام والتشرذم على ضوء الصراعات بين حافظ نجل قائد السبسي والذي بات أكثر ضعفا بعد رحيل والده وبين خصوم جدد من داخل ما تبقي من الحزب . وبين الفسيفساء من الأرجح أن تتقدم نسبيا أحزاب “الدستوري الحر” لعبير موسى و”التيار الديمقراطي” لمحمد عبو و “حركة الشعب” القومية الناصرية الداعمة للصحفي الصافي سعيد فقيس سعيد . 17 نتائج ومؤشرات الجولة الرئاسية الأولى ترجح بدورها التوقعات السابقة .وهذا من حيث تشتت أصوات الناخبين بصفة عامة وتضاؤل أوزان الكتل الكبرى من الناخبين مقارنة برئاسية 2014 .ناهيك عن الاستمرار في ارتفاع حظوظ القائمات المستقلة على غرار نتائج البلديات. ويعزز صعود قيس سعيد المرشح المستقل للمرتبة الأولى في سباق 26 مرشحا على نحو خاص و بدوره هذه الحظوظ . 18 إذا قدر لسعيد الفوز بالجولة الثانية والدخول الى قصر قرطاج فمن المتصور أن يكون رئيسا أضعف عما بدا عليه سلفه ” السبسي ” من قوة ونفوذ على النظام السياسي وعلى الحكومة وتشكيلها وبخاصة خلال السنوات الأربع الأولى لولايته وقبل ان يدب الخلاف بينه وبين الشاهد . فقيس سعيد المستقل لن يحظي على الأرجح بدعم مماثل في البرلمان أو بمساندة حزب قوي أو مجموعة أحزاب وازنة . لكن ومن جانب آخر فإنه سيكون أمام برلمان بدوره أكثر ضعفا . 19 هكذا برلمان عرضه للحل إذا ما اخفق الحزب المكلف بالحكومة في تشكيلها و حصولها على ثقة أغلبية البرلمان خلال الآجال الدستورية ( نحو أربعة أشهر بعد الانتخابات). 20 وبالقطع فإن الاخفاق في التوصل الي صيغة جديدة مبتكرة من ” التوافق” بين مكونات برلمان يتسم بالفسيفسائية ورئيس جمهورية من الأرجح أن يكون مستقلا أو يأتي من حزب وليد ك “قلب تونس “ناهيك عما يثيره وضعه أمام القانون من تعقيدات يرشح تونس لحالة من عدم الاستقرار.وهي حالة لن تسمح بانجازات سريعة تعالج معاناة المواطنين الاقتصادية والاجتماعية وقد نفد صبرها. لكن وحدها الديمقراطية والمزيد من ترسيخ الحريات والحقوق والآليات ونمو المجتمع المدني يفتح طاقة أمل وسط الضباب . فالتغيير وانتقال الى دولة الحداثة والقانون والحريات والحقوق والديمقراطية في بيئة عربية غير مواتيه منكوبة بطول الاستبداد والتخلف لا يجرى أبدا في حجرة عمليات معقمة تخلو من الميكروبات والفيروسات والانتكاسات . لكن الأهم هو الاستمرار والمثابرة على الطريق الصعب . * كارم يحيى صحفي مصري متابع عن قرب للواقع التونسي، سبق له أن اشتغل مراسلا لجريدة “الأهرام” المصرية من تونس لعدة سنوات، وصدرت له عدة كتب عن تونس ما بعد الثورة.