في نقد مقترح وزير الخارجية المغربي عندما اندلعت ثورات الربيع العربي من تونس؛ انطلقت الحناجر العرقية مهللة بشعارات جوفاء؛ تسعى إلى إفراغ المد الثوري من شحنته الحضارية العربية الإسلامية؛ بادعاء أنها ثورات شمال إفريقيا. لكن انتقال اللهيب فيما بعد إلى اليمن و البحرين و بعدهما سوريا؛ فند هذه الادعاءات العرقية؛ و أثبت بالدليل أنها ثورات؛ تحمل هوية عربية إسلامية أصيلة؛ و هي بذلك لا تجد تفسيرها في الفايسبوك؛ بل أكثر من كل ذلك؛ هي ثمرة التطور الفكري و السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي... الذي عاشه العالم العربي بمشرقه ومغربه؛ منذ عصر النهضة و إلى حدود الآن. هكذا لم يشكل المغرب العربي في مده الثوري استثناء في علاقته بالمشرق العربي؛ بل كانت الثورة تعزف إيقاعا واحدا؛ متحدية الحدود الوهمية التي وضعها الاستعمار لتشتيت وحدة الشعوب العربية؛ التي عاشت لقرون؛ في ظل وحدة حضارية؛ كانت تتحدى دائما إكراهات الجغرافيا. و بعد نجاح ثورات الربيع العربي في اجتثاث جذور الأنظمة الديناصورية الحاكمة منذ عقود؛ ضدا على إرادة الشعوب العربية؛ انتبه كل المحللين و الدارسين؛ إلى أن الشعوب العربية؛ ما زالت تتنفس عبق الحضارة العربية الإسلامية؛ التي وحدتها لقرون؛ و ذلك رغم الاستئصال الحضاري الذي مارسه الاستعمار؛ و كرسته الأنظمة التسلطية؛ التي حملت مشروعه لعقود؛ مستكملة بذلك المشروع الاستعماري؛ الذي كان يهدف إلى تمزيق الأمة الواحدة؛ إلى دويلات/ طحالب؛ لا تمتلك جذورا حضارية؛ تمكنها من مقاومة الاستئصال الاستعماري . و قد كان واضحا منذ البداية؛ أن من يستطيع قطف ثمار الربيع العربي؛ هو من يمتلك مشروعا سياسيا؛ يكون قادرا على رد الاعتبار للمقومات الحضارية التي توحد الشعوب العربية مشرقا و مغربا. و لذلك؛ فقد كان واضحا منذ البداية؛ أن الحركات الإسلامية هي الأقرب إلى هذا الرهان؛ لأنها أقامت مشروعها السياسي؛ على أساس محاربة كل مظاهر الاستئصال الحضاري؛ التي مارسها الاستعمار و أذنابه من الأنظمة التسلطية الحاكمة. و في المقابل؛ كان التيار القومي و معه التياران اليساري و الليبرالي؛ تيارات مكشوفة أمام الرأي العام العربي مشرقا و مغربا؛ لأنها همشت في مشروعها السياسي؛ ما يؤسس للخصوصية العربية الإسلامية؛ بل و ذهب بعضها إلى محاربة هذه الخصوصية؛ بادعاء أنها سبب في التخلف الحضاري . كل من يمتلك حس التحليل الفكري و السياسي؛ و الموضوعية العلمية؛ يدرك هذه الحقائق الساطعة؛ إلا إذا أخذته نزعة ذاتية و ركب رأسه؛ زاعما أنه مركز الكون و منبع الحقائق؛ فهو بذلك سيصم أذنيه وسيغمض عينيه؛ ليترك خياله ينسج عالما من الأحلام الجميلة؛ التي ستحدث أثرها النفسي؛ و ستهز النفس هزا؛ بعد أن تشعرها بلذة نرجسية لا مثيل لها لكنها تبقى؛ في الأخير؛ أحلاما حتى و إن كانت أحلام يقظة. مقام هذا الحديث –طبعا- يرتبط بالاقتراح الأخير؛ الذي تقدم به وزير الخارجية(الإسلامي) المغربي ( سعد الدين العثماني) في اجتماع لوزراء خارجية دول المغرب العربي في الرباط؛ حينما اقترح إسقاط كلمة “العربي" من "اتحاد المغرب العربي" ليصير " الاتحاد المغاربي" ؛ معتبرا أن إسقاط العربي سيكون بمثابة رد الاعتبار للأمازيغ الذين يتواجدون بكثرة بجميع بلدان الاتحاد؛ و هذا ما اعتبر "العثماني" أنه سيُفهم بأنه إقصاء لهم. و للإشارة فقط؛ فقد قوبل هذا المقترح برفض التونسيينوالجزائريين والليبيين؛ ليتم سحبه في الأخير بعدما لم يلق إجماعا. قبل الدخول في مناقشة هذا المقترح (الغريب) لابد أولا من إبداء الملاحظات التالية: أولا؛ لا أظن أن السيد (العثماني) يمثل أحدا بمقترحه هذا؛ فالحزب الذي ينتمي إليه؛ يعتبر من المدافعين على الهوية العربية الإسلامية للمغرب؛ بل و قد وصل إلى السلطة – كغيرة من الأحزاب الإسلامية- لأن مشروعه السياسي؛ يقوم على أساس رد الاعتبار للمقومات الحضارية العربية الإسلامية للهوية المغربية. و في نفس الإطار فالسيد (العثماني) لا يمثل بمقترحه هذا؛ التوجه السياسي للدولة المغربية؛ التي أكد دستورها الأخير في تصديره على )تعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية، وتوطيد وشائج الأخوة والتضامن مع شعوبها الشقيقة)؛ كما أكد في الفصل الخامس من الباب الأول: (تظل العربية اللغة الرسمية للدولة). و بالضرورة لا يمثل السيد (العثماني) بمقترحه هذا؛ الشعب المغربي الذي يفتخر بانتمائه العربي الإسلامي؛ و يعتبر نفسه امتدادا للحضارة العربية الإسلامية في الغرب الإسلامي؛ و أخيرا؛ لا يمثل السيد (العثماني) بمقترحه هذا؛ رموز النضال الوطني الذين ناضلوا من أجل مغرب عربي موحد؛ من علال الفاسي صاحب (الحركات الاستقلالية في المغرب العربي) إلى محمد بن عبد الكريم الخطابي؛ الذي ارتبط اسمه بميثاق لجنة تحرير المغرب العربي بتاريخ 5 يناير 1948؛ و مات و دفن في قاهرة المعز؛ في عز المد القومي الناصري . ثانيا؛ ليس من حق السيد (العثماني) أن يفرض وصاية شخصية –لا يمثل فيها سوى نفسه- على الشعب العربي في المغرب العربي؛ خصوصا إذا كان الشعب الجزائري قد قدم أكثر من مليون شهيد؛ في مواجهة السياسة الاستعمارية و دفاعا على امتداده الحضاري العربي الإسلامي؛ و نفس المسار النضالي؛ خاضه الشعب الليبي تحت قيادة المجاهد (عمر المختار) حفاظا على استقلاله و هويته العربية الإسلامية؛ كما أن الشعب التونسي يعلمنا دروسا بليغة؛ في استماتته ضد المخططات الاستعمارية؛ التي مثلها (الحبيب بورقيبة) بعيد الاستقلال؛ و استمر (بن علي) في المحافظة عليها بعد ذلك؛ لكن السقوط المدوي لهذا النظام الفاشي كان إعلانا بسقوط مخططاته؛ و إعلانا لانتصار الإرادة الشعبية؛ التي قادت إلى الحكم؛ الوطنيين الذين استماتوا في الدفاع عن هوية تونس العربية الإسلامية. ثالثا؛ يجب على السيد (العثماني) أن يعرف أن مقترحه –الذي قد يكون عن حسن نية- يمثل جوهر المشروع الاستعماري في المغرب العربي؛ بحيث سعت فرنسا إلى استئصال دول المغرب العربي؛ من امتدادها الحضاري العربي الإسلامي؛ ليسهل إلحاقها بالمترو بول الاستعماري؛ و هذا ما حدث بشكل مدروس مع الجزائر؛ التي حولها المستعمر إلى إقليم تابع تحت اسم (الجزائر الفرنسية)؛ لكن الامتداد الحضاري العربي الإسلامي للشعب الجزائري حطم هذه المؤامرات؛ و نجحت المقاومة الوطنية أخيرا؛ في طرد المستعمر الغاشم و إفشال مخططاته . بعد إبداء هذه الملاحظات؛ يمكن أن نتساءل مع السيد(العثماني): إذا كان الشعب المغربي؛ الذي أوصلكم إلى السلطة و قلدكم منصب الممثل لسياسة بلده الخارجية؛ إذا كان يؤمن إيمانا راسخا بهويته العربية الإسلامية؛ و هذا ما جعله يصوت بقوة على مشروعكم السياسي؛ ألا يعتبر اقتراحكم هذا خذلانا للإرادة الشعبية التي وضعت ثقتها في مشروعكم ؟ لقد بعث الرئيس التونسي الجديد؛ السيد (منصف المرزوقي) مجموعة من الإشارات: كانت تؤكد كلها؛ رهانه الكبير على نجاح مشروع المغرب العربي؛ و هو الذي ناضل لعقود من اجل تونس عربية حرة و مستقلة في قرارها السياسي؛ فعلى من كنتم تراهنون؛ لتمرير مقترحكم الشخصي ؟ لقد بعث السيد العثماني؛ قبل تقلده لمهام وزارة الخارجية؛ الكثير من الإشارات التي تتناقض مع توجه حزبه؛ و كذلك مع التوجه الرسمي و الشعبي للمغرب؛ فيما يخص قضية الهوية المغربية؛ و ذلك ما عبر عنه بخصوص موقفه من ترسيم الأمازيغية؛ و كذلك بخصوص موقفه من مسألة الحكم الذاتي في الريف. و قد كانت جميع هذه الإشارات توحي منذ البداية؛ بان السيد (العثماني) يعبر عن موقف هو أقرب إلى الحركة العرقية الأمازيغية؛ أكثر ما يعبر عن موقف حزبه أو عن الموقف الشعبي و الرسمي للمغرب. و لذلك فإننا لا نستغرب صدور هذا الموقف من وزير الخارجية الجديد؛ إذا استحضرنا مواقفه السابقة. لكن ما يجب على السيد (العثماني) أن يلتزم به؛ في علاقة بمنصبه الجديد؛ هو منطق السياسة الخارجية المغربية؛ حيث ظل المغرب يدافع بقوة على العروبة في المحافل الأممية؛ سواء كمكون ثقافي أو كمكون لغوي. و يمكن أن نستدل بالمجهود الكبير الذي قام به الوفد المغربي من اجل ترسيم اللغة العربية في الأممالمتحدة. فقد عرض المندوب المغربي على اللجنة الخامسة للأمم المتحدة؛ النص القاضي بترسيم اللغة العربية أمميا؛ بعد المفاوضات مع الأمانة العامة للأمم المتحدة و مع الوفود، و التي استغرقت مدة غير يسبرة، و ساندته في ذلك الدول العربية، بالإضافة إلى خمس دول من أسيا، ست دول من إفريقيا، سبع دول من أمريكا اللاتينية، ومن أروبا وفدان هما يوغوسلافيا و فرنسا. و هكذا اتخذت الجمعية العامة قرارها 219 الدورة 35 و الذي تقرر فيه أن تتمتع اللغة العربية بنفس الوضع الممنوح للغات الرسمية الأخرى، و إدخالها في الهيئات الفرعية للجمعية العامة؛ في أجل لا يتعدى الأول من يناير 1982. و تمت المصادقة على المشروع بالإجماع. ( نص المحاضرة التي قدمها الدبلوماسي المغربي الأستاذ رشيد لحلو؛ نظمتها الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية – فرع الرباط – بالمركز الثقافي بأكدال مساء يوم الجمعة 10 فبراير 2012؛ تحت عنوان: اللغة العربية في أدائها الدبلوماسي) . و لذلك فإن ما ينتظره المغاربة من حزب قدم نفسه مدافعا على المقومات الحضارية للهوية المغربية؛ هو على الأقل؛ أن يستمر في نهج السياسة الخارجية لسلفه؛ إن لم يقدر على تطوير أدائه الدبلوماسي في هذا الاتجاه. إن ما يجب على السيد (العثماني) أن يعيه في مهمته الجديدة؛ هو أن يكون قادرا على التمييز بين موقفه الشخصي؛ الذي من حقه أن يقتنع به و يدافع عليه؛ و بين الموقف الحزبي و الشعبي و الرسمي المغربي؛ الذي انتخب من أجل التعبير عنه في المحافل الدولية و الإقليمية. و هذا التمييز المطلوب؛ هو ما من شأنه أن يقطع مع طابع الهواية؛ الذي يخلط بين المواقف و القناعات الشخصية؛ و بين المواقف الرسمية و الشعبية؛ و يؤسس بالمقابل لعمل دبلوماسي حرفي؛ يكون قادرا على بلورة سياسة خارجية متوازنة؛ تعبر عن الاتجاه السائد داخل المجتمع . و نحن لا نعدم في المغرب رموزا وطنية ذات أصول أمازيغية؛ استطاعت باتساع افقها الفكري؛ أن تفصل بين النزعات العرقية المنغلقة؛ و بين الانتماء إلى الهوية المغاربية بأصولها العربية الإسلامية. و هذا ما سعى المجاهد الكبير (عبد الكريم الخطابي) إلى ترسيخه من خلال بيانه حول دوافع تأسيس لجنة تحرير المغرب العربي؛ و ذلك حينما يؤكد: (إننا أسسنا لجنة مهمتها تحرير المغرب العربي المسلم من ربقة الذل و الاستعباد و من نير الاستعمار البغيض) و كذلك حينما يؤكد: (على كل فرد من أفراد شعب المغرب العربي أن يتحدوا اتحادا لا تشوبه شائبة؛ و ينبذوا نهائيا كل ما من شأنه أن يؤدي إلى أدنى خلاف أو نزاع؛ و أن يوحدوا جهودهم المادية و الأدبية؛ حتى نستطيع أن نقوم بواجب تحرير شعبنا ووطننا و إنقاذهما من وطأة الاحتلال بالقضاء على الدخيل) ( انظر: محمد عبد الكريم الخطابي - بيان حول دوافع تأسيس لجنة تحرير المغرب العربي - القاهرة 5/1/1948) . إن مشروع المغرب العربي؛ قبل أن يكون مشروعا سياسيا؛ هو في الأساس مشروع حضاري؛ يمتد لأكثر من اثني عشر قرنا؛ منذ تأسيس أول دولة مغربية مع الأدارسة؛ و منذ لحظة التأسيس هاته؛ بدأت تتشكل الهوية المغاربية في تناغم مع الامتداد الحضاري العربي الإسلامي؛ و لذلك كان المغرب واحدا؛ بأقصاه و أوسطه و أدناه؛ لأنه في الأساس تكتل حضاري يتجاوز مخططات السياسة و السياسيين؛ فهو يجمع بين الشعوب و يوحدها لقرون. و رغم توالي الموجات الاستعمارية؛ فقد استعصى تفكيكه حتى على يد دهاقنة الاستعمار الفرنسي؛ الذين نظروا إلى هذه الوحدة الحضارية؛ كحاجز أمام طموحاتهم الاستيطانية. --- كاتب و باحث أكاديمي مغربي