“التاريخ يكتبُه المنتصرون” ، هكذا علمونا و نحن صغار. و قبل ذلك أخبرونا أننا “انتصرنا” على المستعمِر…لكن يبدو أننا نسينا كتابة هذا التاريخ… وعليه فلا غرْوَ أن نرى الباحثين يُوَلّونَ وِجهتهم قِبَل أعداء الأمس، و يتيَمَّمون مكتباتهم و أرشيفاتهم، علّهم يُشبعون سَغابهم المعرفي حُيال تاريخ وطنهم.يخفِّف من غلْواء هذا الواقع مبادرات مشكورة للترجمة كما نبتهج ونحن نقرأ لأسماء مغربية أثْرت المكتبات الفرنسية و الإسبانية. امتعاض إذن و بريق من الأمل… ذلكم كان شعوري وأنا منهمك في البحث عن امتدادات الحرب الأهلية الإسبانية في شمال المغرب. والحال أن كثير من الكتابات ركزت على تحركات الانقلابيين في منطقة الحماية الإسبانية و على دوْر المُجنَّدين المغاربة في الحرب الأهلية الإسبانية، في حين تنذر المراجع التي تتناوَل مناوشات الجمهوريين ومحاولتهم الإلتفاف على الإنقلابيين أو منْ سُمّوا يومها بالوطنيين. بالنسبة للفئة الأولى، فيمكن الرجوع لكتاب الدكتورة ماريا روسا دي مادارياغا”مغاربة في خدمة فرانكو”(2006)، ترجمتْه للعربية الدكتورة كنزة الغالي. أما بالنسبة للفئة الثانية، فثمّة مساهمة قيمة للدكتور مراد زروق تبلْورت في كتابه ” كليمنتيسيرديرا. مترجم ودبلوماسي وجاسوس في خدمة الجمهورية” ( بالإسبانية2017). شاع أن ساعة صفر الإنقلاب العسكري ضد حكومة الجمهورية الإسبانية الثانية، كان يوم 18يوليو 1936 على الساعة الثانية بعد الظهر في مدينة إشبيلية. و الواقع أن قبل ذلك بِيوْم وبعد أن انكشف المخطط العسكري بمدينة مليلية، استبق الجيش الأحداث بسيطرتهم على كل قياداته بشمال المغرب: مليلية سبتةتطوانوالعرائش. و بذلك خضعت كل المنطقة لسلطة الإنقلابيين في أقل من 24 ساعة. بعد أن فشل الإنقلاب في يومه الأول، وصل الجنرال فرانكو لمدينة تطوان يوم 19 يوليو، ليقف بنفسه على عملية نقل الجنود المغاربة لجنوب إسبانيا. و لِتجاوز الحصار البحري الذي فرضته الجمهورية، على مضيق جبل طارق، قرر الجنرال فرانكو في اجتماع بمطار “سانية الرمل ” أن ينقل الجنود جواً إلى بلدة قريبة من مدينة إشبيلية، ليدشن بذلك أول خط جوي يربط القارتين عبر مضيق جبل طارق، حيث تمّ نقل أكثر من 13 ألف جندي، قبل أن يتم فتح مطار خريز القريب من قاديس. ويجمع المؤرخون على أهمية دور الجنود المغاربة بجانب الجنرال فرانكو خاصة في بداية الحرب، قبل أن تتدخل آلة الحرب الإيطالية والألمانية. أما عن الأسباب التي شجعت المغاربة على القتال في صف الجنرال فرانكو، فالأكيد أن العوامل الطبيعية -وخاصة جفاف 1934 و1935- كانت دافعاً مهمًّا جعل سكان الشمال ينخرطون في الجيش الإسباني. لكن ثمة سبب آخر لا يقل أهمية، فقد أفلح فرانكو في جلب تعاطف المغاربة، من خلال سياسة الجنرال خوان لويس بيغبيديرJuan Luis Beigbeder (1888-1957) الذي استغل المشاعر الدينية للمغاربة لتجنيدهم ضد “الكفر والإلحاد والشيوعية”، وإغرائهم ب”الجهاد في سبيل الله” إلى جانب فرانكو.وقد انخرط ممثلوا الحماية من المغاربة، ومعهم شيوخ الزوايا في حملات “توعية وتحسيس” واسعة لتجنيد أبناء جلدتهم، وإقناعهم بأن ذلك “جهاد إلى جانب فرانكو من أجل تطهير إسبانيا والمغرب من الكفار الذين لا رب لهم”.و مما نقل عن باشا العرائش حينها، محمد خالد الريسوني: “مسلمون وإسبان نقاتل كلنا من أجل قضية واحدة في سبيل الله … إسبانيا والمغرب متحدان كرجل واحد من أجل القتال حتى الانتصار”.و كما العادة ، سيتم استعمال الزوايا لإضفاء المزيد من المشروعية على” الحرب المقدسة” من أجل تطهير إسبانيا والمغرب من “الكفار الذين لا رب لهم”. ويبرز في هذا الباب إسم الفقيه التجكاني الذين يحكى عنه أن بعض المناطق في الريف خلت من رجالها بسبب فتاويه. سبق الإشارة إلى أن فرانكو كان قد حسم الأمر في شمال المغرب بسرعة و بسهولة. حيث تذكر بعد المصادر أن الجيش لم يُضطر لإطلاق أكثر من ثلاترصاصات ، لكن ذلك لا يعني أن الجمهوريين لم يعد لهم أي وجود في المنطقة. فمدينة طنجة حافظت على طابعها الدولي و القنصلية الإسبانية هناك ظلت تابعة لحكومة الجمهورية.و من هناك كانت تُدار مخططات لضرب خَلْفِية الإنقلابيين وعرقلة إرسال المُجَنَّدين المغاربة لجنوب إسبانيا. يكشف الدكتور مراد زروق في كتابه " ClementeCerdeiraFernández" كيف أسندت مهمة التشويش على جيش فرانكو إلى أحد الإسبان الذين تربَّوا في مدينة طنجة، حيث كان أبوه يشتغل بالقنصلية الإسبانية هناك. كان كليمنتيسرديرافرنانديز،أو كما يسمي نفسه "عبد الرحمن سرديرا الأندلسي" ،قد دخل عالم الدبلوماسية من باب الترجمة ، ثم ترقى إلى أن صار سكرتيرا القنصلية العامة بطنجة، كان يعرف جيداً المنطقة ورجالها وثقافتها وعاداتها. جمع بين المدرسة الغربية والمْسيد قبل أن ينتقل للقرويين، لدراسة الفقه، حيث التقى بأبناء النخبة المغربية، الذين سيمثلون فيما بعد قادة الحركة الوطنية المغربية. وحسب الوثائق فإن سرديرا تجاوز دور المترجم حتى قبل ولوجه السلك الدبلوماسي. خاصةً دوره في تنسيق المفاوضات بين إسبانيا و الشريفالريسوني بُعَيْدَ معركة أنوال و الَّتي توّجت باتفاق سري بين الطرفين(25-9-1922). و رغم أن هذا الإتفاق سيكون بداية نهاية الشريف الريسوني لم يَكن محلَّ إجماع الإسبان. كتب مانويل أزنار، جد رئيس الحكومة السابق، وأحد أبواق المتطرفين بالجيش الإسباني بتطوان، في جريدة ABC مقالاً تحت عنوان، "الإنهيار الحقيقي لمنطقة إسبانيا بالمغرب"، ينتقد فيه الإتفاق الذي وقعته بلاده مع الشريف مولاي أحمد الريسوني سنة 1922: “بورغيتي- المفوض السامي- أصبح مجرد آلة في يد الريسوني وبعض المترجمين المفضلين لدى هذا الأخير. “في إشارة لسيرديرا. بعد ذلك، وأثناء الإنقلاب ، ظل عبد الرحمن سرديرا الأندلسي وفياً للجمهورية و قد تعدّدت تحركاته على عدة جبهات. ففي طنجة نجده يشرف على انطلاق السفن الحربية لمحاصرة الإنقلابيين، ومنع نقل المغاربة عبر البحر. مما جعل فرانكو يحتج لدى سلطات طنجة الدولية لعدم احترام حياد المدينة في النازعات الدولية أو التي تمس منطقتي الحماية، حسب الاتفاقية الدولية المنظمة للمدينة، رغم أن الشرطة الإسبانية المكلفة بأمن المدينة، كانت تنفذ قرارات المندوبية السامية بتطوان وتهدد موظفي الجمهورية الإسبانية. و في منطقة الحماية الفرنسية ،ومن أجل ضرب الجيش الإنقلابي من الخلف، نجد سرديرا يحاول، سنة 1936، صنع زعامة محلِّية على غِرار شخصية الشريف مولاي أحمد الريسوني وذلك باستعمال الشريف الدرقاوي بقبيلة بني زروال القريبة من حدود منطقة الحماية الإسبانية،. إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل. نشير هنا أن علاقة سرديرا بالشريف الريسوني ،كانت سبباً في عداء كلّ من قادة الجيش الإسباني (الإنقلابيين) و الفرنسيين، الذين اعتبروه شخصاً غير مرغوب فيه. كان سرديرا يعرف أن مشاكل إسبانيا بالمغرب، دائماً تأتي من الجبل، وبعد انضمام الحركة الوطنية “التطوانية” للإنقلابيين، لم يعد يعول عليها لتقويض مشروع فرانكو، حيث بدأ بإثارة هذهالمناطق بالإعتماد على شيوخ وقادة القبائل، وبفعل الرقابة المشددة للجيش على حدود طنجة الدولية وعلى التحركات بين القبائل، تم إفشال مخطط سرديرا، إذ تم القبض على هذه الشبكة التي ضمت قادة من جبالة وغمارة والريف، وتم اعتقال كل أفرادها وإعدام الريفيين المنتمين لها. وبسبب التهديدات التي كان يواجهها الجمهوريين وخاصة موظفي القنصلية العامة بطنجة، لجأ سرديرا للمنطقة الفرنسية فكان يتنقل بين الرباط وفاس والدار البيضاء. و موازاة مع محاولته استمالة أعضاء الحركة الوطنية، كان يعمل على إشعال الثورة في القبائل الريفية والجبلية، و تجلّت خطورة هذه المحاولات في اتصاله بكل من محمد أزرقان ومهربي السلاح قاسم الدكالي وإلياس المنبهي. بالإضافة للمراقبة المشددة المضروبة عليه من طرف الجيش الإسباني، لم تكن فرنسا تجهل ما تحركات سرديرا منذ أن كان طالباً بالقرويين أو ب Institut des HautesEtudesMarocaines بالرباط، وكمفاوض مع الشريف الريسوني عدوها اللذود. إلا أنها لم تكن لتسمح بتسليح أزرقان للإطاحة بالإنقلاب العسكري، فالأمر لم يعد مسألة حرب إسبانية. وهي مازالت تتذكر ما قاله أزرقان للجنرال سيمون في المفاوضات بين فرنسا و اللجنة الريفية سنة 1926، حين وضع شروط مستفزة رفضتها اللجنة الريفية بقيادة أزرقان، فما كان من هذا الجنرال إلا أن هدد بالعودة للحرب، فأجابه أزرقان، ب: “إذا ظهرت الحرب في الأفق ، فسنستقبلها بكل فرح وسرور.” مهمة سردير في المغرب انتهت بشكل غريب، حيث ثم و في خطوة غير مفهومة، نقل سردير إلى بريطانيا ،و لعلّ أبلغ تعليق على هاته الواقعة هو ما كتبه المؤرخ الإسباني، Angel Viñas المتخصص في الحرب الأهلية والنظام الفرنكاوي: قرار وزارة خارجية الجمهورية الإسبانية بتعيين سرديراقنصلاً بليفربول يشبه إلقاء جوهرة للخنازير. في إشارة لكفاءة الرجل ومعرفته الدقيقة بالشؤون المغربية. تجدر الإشارة إلى أن ولاء عبد الرحمان الأندلسي للحكومة ” الشرعية” كان له أثر ليس فقط على شخصه بل على كل أفراد أسرته فزوجته وأبنائه كانوا محتجزين بمدينة سبتة، كما تم حجز جميع ممتلكاته. ولم تنفع شفاعة أصدقائه الذين التحقوا بالنظام الجديد، لإخراج عائلته من مدينة سبتة، فأوامر فرانكو بعدم مساعدته كانت صارمة. في الأخير لا يفوتنا تسجيل البراغماتية المفرطة التي تبنَّتها الحركة الوطنية الشمالية بتأييدها لانقلاب فرانكو و تشجيعها لتجنيد المغاربة لمساندته ، و هو موقف تناقض و استنكار محمد الخامس للزج بالمغاربة في حرب لا تعنيهم. مرّة أخرى ننوه بالإضافات التي جاء بها الدكتور مراد زروق سواء في كتابه حول شخصية كليمنتيسرديرا، أو في أطروحته بجامعة مدريد “المترجمين الإسبان بالمغرب من 1859 إلى 1939” حيث ألقى الكثير من الضوء على فترة مهمة من تاريخ شمال المغرب، مرحلة عرفت صراعاً بين الدول الغربية لاحتلال المغرب منذ حرب تطوان ومعاهدة ودراس، إلى نهاية الحرب الأهلية الإسبانية.