الضمانات كمقدمة: في الاستحقاقات التي عرفها المغرب في"العهد السابق"،وابتداء من أول انتخابات لسنة 1976/1977 التي جرت بعد رفع حالة الاستثناء، التي سادت بالمغرب لسنوات-هذه الانتخابات التي أقدم عليها النظام آنذاك مكرها استجابة لضغوطات جهات خارجية،على رأسها الأبناك الدائنة،وكلنا يتذكرما تم تسريبه يومها من رفض هذه الأبناك الاستجابة لطلب تقدم المغرب- ممثلا بقمة هرم الحكم- للاقتراض منها،لكون المغرب لا يتوفر على برلمان كضمانة لهذه الديون،باعتباره "ممثلا" للشعب،مما اضطر النظام آنذاك إلى تعيين السيد كريم العمراني كرئيس للحكومة،خلفا للسيد أحمد عصمان،ليقترض بضمانته الشخصية ذاك المبلغ موضوع الاقتراض...-(شخص يضمن شعبا ووطنا..بدون تعليق). كانت الأحزاب الوطنية المتواجدة آنذاك،تشترط للمشاركة في أية انتخابات تصفية وتنقية الأجواء السياسية كشرط ضروري للدخول والمشاركة فيها،بما يقتضيه ذلك من: إطلاق سراح المعتقلين السياسيين. السماح بعودة المنفيين. توسيع هامش حرية الإعلام ................ وكانت السلطة،تحت هذا الضغط –ولو النسبي-تضطر للاستجابة. حديثنا هنا طبعا عن الأحزاب الوطنية ،أما الأحزاب المعروفة بالإدارية فلم تكن موجودة يومها،فإذا استثنينا وتجاوزنا، بطبيعة الحال، الظرف الذي اقتضى تأسيس الحركة الشعبية بزعامة كل من الدكتور عبد الكريم الخطيب والمحجوبي أحرضان، في الخمسينيات من القرن الماضي وبطلب من القصر، ضمن استراتيجية ضبط التوازنات، كرد عملي على انفراد و"تغول" حزب الاستقلال،بعد تخلصه من منافسه الطبيعي (حزب الشورى والاستقلال) على إثر المجازر والتصفيات الجسدية التي ارتكبها في حق أطره ومناضليه.وكذاتأسيس حزب (لفديك) في الستينيات بزعامة رضى كديرة وبطلب من القصر أيضا،الذي شارك في انتخابات 1962 تحت شعار"الدفاع عن المؤسسات الدستورية". فإنه لم يبدأ تفريخها(الأحزاب الإدارية) وتناسلها وطبخ ملفاتها إلا مع انتخابات 1977 مع أول حزب إداري (حزب الأحرار) بزعامة الوزير الأول السابق أحمد عصمان،هذا الحزب الذي ضم جل،إن لم نقل كل،الذين تقدموا للانتخابات كأحرار،حيث كان القانون المنظم يسمح بذلك،وبعد "تأسيس" هذا الحزب تغير المصطلح الذي يطلق على من يتقدم للانتخابات وهو غير منتم ب(المستقلين أو اللامنتمين). ولا يفوتنا التنويه أن تشكيل هذه الأحزاب الإدارية هو بدوره جاء ضمن خطة إضعاف الأحزاب الوطنية،وتمييع الحياة السياسية والمجال الحزبي معا ليتسنى للجهات المتحكمة في دواليب السلطة آنذاك التحكم فيها. لكن،وانتخابات بعد أخرى،وبالتدريج،بدأت هذه الأحزاب "الوطنية" تتخلى عن اشتراطاتها تلك،وتبدي استعدادا،غير مشروط للمشاركة في أية استحقاقات. متطلبات المرحلة بين الواقع المأزوم والأمل المنشود: إلا أنه ومع مستجد وجود الدستورالجديد،وما تلاه من تصريح العاهل المغربي الملك محمد السادس، من التأويل الإيجابي للدستور وما أعقبه من تصريحات عديد من المسؤولين من أننا طوينا صفحة الممارسات السابقة وافتتحنا صفحة جديدة،ومن ذلك ما تم التنصيص عليه دستوريا من توسيع صلاحيات "رئيس الحكومة" (حسب التسمية الجديدة)...والحديث عن نزاهة الانتخابات وشفافيتها....الخ.اتضح مع مرور الأيام أن ما نص عليه الدستور وما جاء في خطاب ملك البلاد من تأويل إيجابي للدستور في واد،وما جاء على لسان المسؤولين من تصريحات وما صدر عنهم من ممارسات ومواقف في واد آخر... السؤال المطروح هل كل هذا الكلام والتصريحات التي جاءت على لسان هؤلاء المسؤولين سواء كانوا وزراء كالسيد الناصري،وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة،أو غيرهم...كاف لإرجاع الثقة للمغاربة في هذه الانتخابات مما يدفعهم للإقبال بكثافة على صناديق الاقتراع يوم 25 نونبر الجاري،مع استحضارنا للنموذج التونسي يوم انتخاب المجلس التأسيسي وتلك الطوابير الطويلة من الأشقاء التونسيين أمام مكاتب التصويت.؟؟ المؤشرات الأولية تبين- للأسف – أننا لازلنا بعيدين كل البعد عن النموذج التونسي،ومن هذه المؤشرات على سبيل التمثيل: عدم إقبال المواطنين بكثافة على تجديد أسمائهم باللوائح الانتخابية،مما يؤكد ذلك التمديدات المتتالية في آجال ذلك التي كانت تلجأ إليها وزارة الداخلية. برودة أجواء الحملة الانتخابية،وعدم تجاوب المواطنين مع الدعايات والحملات الحزبية،رغم انقضاء أكثر من أسبوع على انطلاقتها. تخوف السلطات من عدم الإقبال يوم الاقتراع، وذلك ما يفسر كثافة الرسائل القصيرة التي يتوصل بها المواطنون عبر هواتفهم المحمولة(ولا يفوتنا بالمناسبة طرح السؤال:هل يحق قانونا للشركات الثلاث المكلفة بالاتصالات ببلادنا تسليم أرقام هواتف زبنائها لأية جهة كانت دون أمر قضائي)،كما يفسره لجوء السلطات،ولأول مرة،إلى استخدام طائرات لتوزيع إعلانات تدعو فيها المواطنين للتصويت بكثافة يوم الاقتراع. إن المغاربة ملوا الوعود والشعارات...فمنذ انطلاقة أول استحقاقات عرفها المغرب بعد الاستقلال،وهم لا يسمعون إلا كلاما معسولا ووعودا مغرية...وما دام حبل الكذب قصيركما يقال،والشعب المغربي كغيره من الشعوب الحية يمكن أن تكذب عليه مرة ومرتين....ولكن لا يمكن أن تكذب عليه دائما. إن إرجاع الثقة للمغاربة،ولو كان مجرد بصيص أمل في الانتخابات،يقتضي أن تقدم لهم إشارات عملية ملموسة،لا كلاما ووعودا،كعربون حسن نوايا على الأقل،وكمقدمة للانتخابات القادمة، ودليلا بأن هناك فعلا جدية في القطع مع أساليب الماضي،من هذه الإشارات ما كانت تشترطه الأحزاب الوطنية،أيام زمان، للمشاركة في أية انتخابات،وهي ما اصطلح عليه (تصفية الأجواء السياسية بالبلاد). من ذلك مثلا: إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وكل معتقلي الرأي: 1) معتقلي الاشتراكي الموحد بالمنطقة الشرقية وبمدينة بوعرفة تحديدا(الرفيق الصديق كبوري وباقي رفاقه المعتقلين). 2) باقي المعتقلين في ملف ما اصطلح عليه (قضية بليرج). 3) كل من تم اعتقاله من شباب حركة 20 فبراير على خلفية التظاهر السلمي والمدني. القطع مع متابعة الصحفيين بالقانون الجنائي،على خلفية الأخطاء المهنية التي يمكن وقوعهم فيها، وإطلاق سراح من اعتقل على خلفية المحاكمة بهذا القانون (الصحفي رشيد نيني نموذجا). . رفع الحظر،اللاقانوني،الذي طال ظلما حزب البديل الحضاري. إلغاء المادة 101 من مدونة الانتخابات،التي تنص على إنزال عقوبة الحبس من ستة أشهر إلى سنة حبسا نافذا وبغرامة مالية قدرها 10 آلاف درهم إلى 20 ألف درهم.بالنسبة لكل من حمل أو حاول حمل ناخب على الإمساك عن التصويت. مطالبتنا بإلغائها، أو على الأقل تعديلها،لعدة اعتبارات منها: الاعتبارالأول: أن ذلك مخالف للمتعارف عليه في أعرق الديمقراطيات،حيث تكون فترة الحملة الانتخابية حلبة للتباري بين الداعين للمشاركة وبين الداعين للمقاطعة،وتبقى صناديق الاقتراع ونسبة المشاركة هي الفيصل بين الفريقين..علما أن هناك عددا لا يستهان به من الأحزاب الوطنية والتنظيمات دعت للمقاطعة. كما أن المعارضة معارضتان:معارضة من داخل قبة البرلمان وأخرى من خارجها. فما دامت هذه المادة وأمثالها تكبل المعارضة من ممارسة حقها القانوني وهو الدعوة للمقاطعة،فمن حقها وحق مناضليها أن يتساألوا عن الآليات القانونية الأخرى التي يمكنهم بواسطتها تصريف موقفهم هذا. الاعتبار الثاني:لأنها جاءت بصيغة فضفاضة،تذكرنا بقانون(كل ما من شأنه). فلفظة(حمل) التي ورد ذكرها في المادة 101حمالة أوجه،فهي قد تعني (حمل المواطن) بالقوة والإكراه، وهذا ما يمكن أن نتفهمه بل ونرفضه مجازا على الأقل على اعتبار أن المواطنين ليسوا قطعان غنم،وقد تعني حمله بالإقناع عن طريق الحوار. أما لفظة (حاول حمل...) بوضع خطين عريضين تحت "حاول" لأنها أكثرفظفظة من سابقتها،إذ يمكن،على خلفيتها، اعتقال ومتابعة أي شخص يمارس حقه القانوني والديمقراطي في الدعاية للمقاطعة. الاعتبار الثالث:على قاعدة مفهوم المخالفة، فإن المنطق يقتضي أنه في الوقت الذي تجرم مدونة الانتخابات الدعاية المضادة، ينبغي التنصيص أيضا على إنزال عقوبة مماثلة على كل من ثبت تورطه في (حمل) المواطنين،إغراء أو إكراها،على المشاركة وعدم المقاطعة..وما يقوم به أعوان السلطة،خصوصا في البوادي والقرى،غير خاف على أحد.إذ الأصل هو الحرية كحق من حقوق الإنسان المكفول له من طرف الشرائع السماوية والمواثيق الدولية،فإذا كانت الحرية مكفولة في حرية الاعتقاد وهو أصل من الأصول،وما دونه مجرد فرع،فما ينطبق على الأصل ينطبق على الفرع من باب أولى،ولا يقول بغير ذلك إلا فاقد للعقل أومن كان به عته.. ومن تلك الفروع حرية المشاركة أو حرية المقاطعة،في الانتخابات ،إذ لا يستصاغ إكراه المواطن على أي منهما بأي شكل من أشكال الإكراه،ترغيبا كان أم إرهابا. تصدير النموذج ممكن مغربيا: أن تقوم السلطات بتقديم هذه الضمانت السالفة الذكر وغيرها قبل الانتخابات،يبقى حلما لكن قابل للتحقق،لو تم ذلك كان سيكون مفاجأة تترسخ بها فعلا الخصوصية المغربية،ونموذجا قابل للتصدير لدول الجوار ولكثير من دول محيطنا العربي والإقليمي.كما كانت تجربة (هيأة الإنصاف والمصالحة) سبقا مغربيا تم تصديره لكثير من الدول. لكن أكبر المفاجآت –السلبية- التي وقعت بالفعل هي أن تتخلى الأحزاب الوطنية،سواء كانت أحزاب الكتلة أم غيرها،سواء كانت أحزابا تصدر عن مرجعية اشتراكية أو إسلامية أو"ليبرالية"- كلهم في ذلك سواء- عن هذه الاشتراطات وتقبل توقيع شيك على بياض بالدخول والمشاركة فيها دون ذلك. فهل المطالب لم تعد هي نفس المطالب،وتمت تسوية كل الملفات العالقة؟ أم هي الأحزاب التي كانت تميز نفسها عن غيرها بأنها أحزاب وطنية وتاريخية لم تعد هي نفس الأحزاب؟ أليس بعد هذا من المجحف أن نستمر في تسمية (الأحزاب الإدارية) بهذه التسمية؟