في كل سنة، تثار أواخر رمضان مسألة إخراج زكاة الفطر، هل نخرجها نقدا، اعتبارا للمصلحة ؟ أم نخرجها عينا تمسكا بظاهر النص ؟ وهذا النقاش قديم في الساحة، وآني، ومستقبلي، ولن يتوقف. منذ الصغر، كنت أشمئز من ظاهرة غريبة، وهي أنه بعد رؤية هلال شوال، يتجول الفقراء والمساكين في الأزقة طوال الليل، ابتداء من وقت العشاء إلى ما بعد صلاة العيد، الليل كله، هناك من يأتي إلى الحي ويطالب بحقه في الفطرة بأعلى صوته، وهناك من يقرع الأبواب بشدة في أي وقت من الليل شاء، دون توقير ولا احترام، ومنهم من يصطحب أبناءه أو أصدقاءه، لجمع القمح أو الدقيق، فيضطرون إلى حمل أكياس متعددة، كيس خاص بالدقيق فورس، وآخر للدقيق العادي، وآخر لدقيق القمح، وآخر لحبوب القمح الصلب، وآخر لحبوب القمح الطري. ولما يخرج المزكي صدقته أو جزءا منها، لأنه يحاول أن يعطيها لأكثر من واحد، يسأله الآخذ أو الآخذة عن نوع المتصدق به، فيفتح له الكيس المناسب له. وبعد صلاة العيد، يتوجه هؤلاء الآخذون إلى رحبة الزرع، فيبيعون لأصحابها ما تحصل لديهم من الحبوب بأنواعها، فيتعرضون إلى إهانات متعددة، يتعرضون إلى الابتزاز، ويضطرون إلى البيع بأبخس الأثمان. وهذه مناظر لها نصيب من التخلف من جهة، ولها جانب من الإهانة لذلك الآخذ ومن معه من جهة ثانية. ومن السذاجة أن نوافق على منظر كاريكاتوري، وهو أن المتصدق يذهب إلى السوق لشراء الحبوب يوم 28 رمضان ب 4 دراهم مثلا، ويعطيها يوم 29 رمضان للفقير، ويذهب إلى الفقير في اليوم الموالي إلى نفس السوق، بل إلى نفس البائع، ليبيعها له بدرهمين. هذا واقع، وليس خيالا مفترى، ولم يفرضه علينا إلا التمسك الظاهري بالنصوص، بل إننا قرأنا من يتعامل مع القضية بمنطق ظاهر الظاهرية. وبالمقابل، كنت أرى جماعة من الناس، يحرصون على إخراج زكاة فطرهم نقدا، فيذهب بنفسه أو يرسل رسولا إلى فقير في بيته، من الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، ويعطيه نصيبا مقدرا، دون أن يتعرض لمهانة التجول طوال الليل، ودون أن يتكلف عناء حمل الأثقال، ودون أن يتحمل الذهاب إلى رحبة الزرع. وهذه طريقة أرقى وأنقى. بالنسبة للمتمسكين بالطريقة الأولى، أي الطريقة الكاريكاتورية المهينة، فإنهم يستندون إلى أقوال علمائية، نحترم أصحابها ونجلهم، وناقش آراءهم. أولا : يستندون إلى النص، والنص فيه "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من كذا أو كذا"، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتعامل مع أعيان الزكاة بأسلوب الحصر، ولو كانت السيولة النقدية في عهده لقال قولا مغايرا. ثانيا : قد يقول قائل بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركز على المطعومات، وهذا صحيح، ولكن الدرهم والريال والدولار من المطعومات أيضا، وهي مما يؤكل بنص الشرع، ودليه قوله تعالى : "لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"، فإذن الأموال تؤكل، وليس القمح والشعير وحدهما مما يؤكل. وإذا تعاملنا بمنطق ظاهر الظاهرية، فإننا نقول بأن القرآن يحرم أكل الزرع والشعير ووو بالباطل، ولا يحرم أخذ السيارة أو الدار بالباطل، لأنها ليس مما يؤكل. ونظير ذلك قوله تعالى : "لعن الله آكل الربا ومؤكله"، فإن الربا بالنقود جائز حلال، لأن النقود لا تؤكل، وهكذا لو استمر المرء بمنطق ظاهر الظاهرية، لأفسد الفقه ولأفسد الدين. ثالثا : يكرر البعض أقوال متقدمي الفقهاء وكأنها نصوص مقدسة، فيقولون : قال ابن رشد الجد، وقال ابن القاسم، وقال أحمد، وظاهر قول الإمام مالك ….. يا ناس، نحن نقدر هؤلاء وغيرهم، والفقه اجتهاد البشر، يجمع بين النص ومتغيرات الواقع، ولو كان الإمام مالك في عصرنا لكان قولكم له حظ من الصواب وليس صوابا محضا، أما أن تستوردوا من القرون الخوالي أقوالا، وتمنحوها قدسية، وتعطوها صفة الدوام والخلود، فهذا لعمري من الإفساد في الدين، لأنه تشويه له، وتقزيم له. إن المنصوص في الحديث من تمر وأقط وشعير ووو، يجمع بينهم أنه مال، وبالتالي، فإن زكاة الفطر تخرج بالمال، وبما أن النقد مال، فإنه يجوز إخراج زكاة الفطر به اعتمادا على النص. وليس اعتمادا على قول مالك أو ابن رشد أو اللخمي، رحم الله الجميع. رابعا : يندرج في النقاش عادة، وكل سنة، إخواننا السلفيون المغاربة، فيتضامنوا مع متعصبي المالكية في هذه الجزئية، ويجلبوا أقوال العتبية، ومعها أقوال العثيمين وابن باز والألباني وغيرهم من المراجع السلفية. ويكررونها بطريقة تصيب بالغثيان. وإليكم أحدها. يوردون قول الألباني نصا مكتوبا، أو بوستات مصورة، ومما قاله الألباني : "حينما يأتي إنسان ويقول : لا، نخرج القيمة، هذا أفضل للفقير، هذا يخطئ مرتين، المرة الأولى : أنه خالف النص والقضية تعبدية، هذا أقل ما يقال. لكن الناحية الثانية خطيرة جدا، لأنها تعني أن الشارع الحكيم ألا وهو رب العالمين، حينما أوحى إلى نبيه الكريم أن يفرض على الأمة إطعام صاع من هذه الأطعمة، مش داري ولا عارف مصلحة الفقراء والمساكين كما عرف هؤلاء الذين يزعمون بأنه إخراج القيمة أفضل … فانحراف بعض الناس عن تطبيق النص البديل الذي هو النقد، هذا اتهام للشارع، بأنه لم يحسن التشريع، لأن تشريعهم أفضل وأنفع للفقير، هذا لو قصده، كفر به، لكنهم لا يقصدون هذا الشيء، لكنهم يتكلمون بكلام هو عين الخطأ، إذن لا يجوز إلا إخراج ما نص عليه الشارع الحكيم، وهو طعام على كل حال" هذا كلام السيد محمد ناصر الدين الألباني، ولنا عليه تعليقات : أ – تضمن نصه كلاما لا يليق في حق الله تعالى، وكان حريا به أن ينضبط للقواعد العقدية المؤطرة للكلام مع الذات الإلهية، فقوله عن الله تعالى : "مش داري ولا عارف مصلحة الفقراء" كلام لا يليق من حيث الأدب أولا، ومن حيث العقيدة ثانيا، لأن الله تعالى لا يوصف بالمعرفة، فلا نقول : إن الله عارف، أو عرف الله كذا، وهذه عبارات صدرت عن الزمخشري، فليم عليها، ونقول بدلها : الله عالم أو عليم، أو علم الله كذا، لأن الصفات لا تثبت إلا بنص، ولا وجود لنص صحيح يثبت صفة المعرفة لله تعالى، أضف إلى ذلك، أن المعرفة هي العلم المسبوق بجهل، لهذا لا يجوز أن يوصف بها رب العزة جل وعلا، وهذه مسألة حققها المحققون، مثل العلامة الإسنوي، فلتراجع في مظانها. والألباني مخطئ في هذه الفتوى خطأ عقديا. ب- تعامل الألباني مع مخالفيه بنوع من الإرهاب الفكري، حيث واجههم بلازم قولهم ليسكتهم، وهذا ليس من الفقه في شيء، فقال لإسكاتهم إنكم تقولون إن الله مش عارف ولا داري، وأن معرفتكم بالمصلحة أسمى من معرفة الله تعالى، وأن الشارع لم يحسن التشريع، وإنكم تتهمون الشارع، إلى غير ذلك من كلامه الذي يدل على قلة فقهه رحمه الله، والذي يعلمه الألباني قبل غيره، أن لازم القول ليس قولا، فلماذا خالف هذه القاعدة التي يتقنها، واستخرج هذا اللازم سيفا مصلتا على رقاب القائلين بإخراج القيمة، لا أرى له وجها إلا كونه إرهابا فكريا، ومحاولة إسكات المخالف بالضربة القاضية. ج – وصف الألباني مخالفيه أنهم يقولون كلاما هو عين الخطأ، وهذا منه عين الخطأ، لأن في الفقه، لا يوصف القول بأنه عين الخطأ، إلا إذا خالف نصا ظاهرا واضحا جليا، يعبر عنه بأنه قطعي الدلالة، ونصنا نحن ليس قطعي الدلالة، بدليل أن الأحناف عن بكرة أبيهم، إضافة إلى جماعة من التابعين منهم عمر بن عبد العزيز، إضافة إلى علماء آخرين من شتى المذاهب، قالوا بخلاف قول الألباني ومن معه، فلو كان النص قطعيا لما وقع هذا الاختلاف. فأين عين الخطأ يا شيخ ؟ خامسا : أورد بعض الكتبة وبعض المتفيقهين في مواقع التواصل الاجتماعي عبارات غريبة ومستغربة، أتعرض لبعضها : أ – إخرج العين وحي، وإخراج النقد رأي، والوحي أولى من الرأي. وهذا من الهراء الفقهي، لأن القول بحصر الأعيان، رأي فقهي، والقول بقياس غيرها عليها رأي فقهي، فكلا القولين رأي فقهي مؤسَّس على الوحي، وليس أحدهما وحيا كما يدعي من يرهب المخالف بمثل هذه الأقوال. ب – قال بعضهم : من أخرجها من غالب قوت البلد كانت صدقة صحيحة، وأجزأته، ومن أخرجها نقدا تردد حاله بين القبول والرد. وهذا كلام يدل على ضعف صاحبه أيضا، لأن جميع أعمال الناس تتردد بين القبول والرد، ولو وقعت صحيحة، لذا ميز العلماء بين شروط الصحة وشروط القبول، فلو أخرج الإنسان زكاة الفطر شعيرا، فإنها تتردد بين القبول والرد أيضا، ومن العلماء من استثنوا عبادة واحدة، وقالوا بقبولها مطلقا، وهي الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وردّ عليهم العلامة الصوفي المالكي سيدي أحمد بن مبارك السجلماسي في كتاب لطيف "تحرير مسألة القبول" فليراجع، وفيه من الأدلة والقواعد ما يشفي ويكفي. أما الجزم بتردد صدقة الفطر نقدا بين القبول والرد فلا يفيد شيئا، لأنها حينذاك مثلها إخراجها تمرا وشعيرا، كلاهما متردد بين القبول والرد. ج – قال الظاهري : "ماذا يخسر هذا المقاصدي إذا أخرج زكاة الفطر من غالب قوت البلد ثم أتبعها صدقة مالية تطوعية قربة إلى الله إذا رأى أن هذا الفقير في حاجة ماسة إلى النقود… وهذه هي المقاصد حقا" نعم، هذه هي المقاصد حقا، لو كانت صدقة الفطر مفروضة على الغني فقط، أما أنها مفروضة على الفقير أيضا، فإنه من الإجحاف أن يطالبه الظاهري بإخراج زكاته عينا، وإخراج صدقة نقدا. د – كتب أحدهم : إخراج صدقة الفطر نقدا مبني على المقاصد، و"المقاصد والمصالح والمفاسد طواغيت العصر". قلت : هنا جف القلم، وانتهى التعليق، وأُعدم الفقه. هذه بعض الملاحظات حول النقاش الدائر والذي سيدور لاحقا في كل عام. وخلاصته : من أخرج زكاة فطره عينا، فعمله صحيح، ونرجو له القبول، رغم ما يليه من عنت وحرج ومشقة للفقير الآخذ. ومن أخرج زكاة فطره نقدا، فعمله صحيح، ونرجو له القبول، وهو أوفق وأرفق بالفقير، والأول أعمل النصَّ وأغفل المقاصد، والثاني أعمل النص وأعمل المقاصد، والجمع بينهما أولى من إلغاء أحدهما. ولا يقبل في هذا المجال إرهاب المخالف ومحاولة فرض الرأي الواحد، فالفقه في أغلبه مبني على الظنون لا القطع. وفق الله الجميع، وتقبل الله من الجميع.