تدين المنطقة الشمالية بالمغرب ، إلى مجموعة من الشخصيات المناضلة يحفظ التاريخ لها بعض صفحاته. وتحتاج الأجيال الحالية إلى أن تتعرف على ما أحدثه إبداع تلك الشخصيات من تغيير في الحياة الثقافية بل وفي تصورات الناس عن الحياة والمجتمع وعن قضايا التحرر والخلاص من الاستبداد، وأنا أقوم بالتعريف بهذه الشخصية ، فإنه على سبيل تذكير جيلي والأجيال المقبلة بما قام به وأمثاله من تضحيات في خدمة الوطن والفكر والعلم والدين. الغالي الطود ، شخصية طبعت تاريخ مدينة القصر الكبير، رائدا من رواد الحركة الوطنية والوحدوية في شمال المغرب ومن الرواد الأوائل الذين ساهموا بقسط وافر من البذل والعطاء ،وأنا بصدد البحث في سيرته ، وجدت كما هائلا من الشهادات والإفادات تناولت جوانب وزوايا من هذه الشخصية الوطنية الرائدة والمثالية في الوطنية والمواطنة الإيجابية. وبالمناسبة اشكر الأستاذة نسيبة الطود حفيدة مترجمنا لما قدمته لي من مادة غزيرة لإلقاء الضوء على هذه الشخصية المتفردة . المولد والنشأة * ولد بمدينة القصر الكبير بالمغرب، بتاريخ 15 دجنبر 1909، لوالده محمد المختار بن محمد الغالي بن محمد الطاهر الطود العمراني الحسني، ووالدته الزهرة بنت الهاشمي بن محمد الطاهر الطود العمراني الحسني. من أسرة عرفت بالتعاطي للعلم والمعرفة ،شكلت جزءا من النسيج الاسري القصري منذ خمسة قرون ، يقول المرحوم الهاشمي الطود في مذكراته "خيار الكفاح المسلح " صفحة 15(واذكر جيدا انه لم يكن يوجد أي فرد أمي داخل العائلة بما في ذلك النسا ء ) ابتدأ تعليمه، جريا على العادة المتبعة في أسرته، في كتاب الفقيه أحمد الريسوني ، بالقطانين ، فحفظ، القرآن،و بعض المتون كالأجرومية، وألفية ابن مالك، ولامية الأفعال في النحو والصرف. وقد عاش وهو يافع أحداث ثوره محمد بن عبد الكريم الخطابي التي ألهبت مشاعر جيله، الهجرة الأولى القرويين *التحق بجامعة القرويين درس على علماء منهم عبدالرحمن القريشي، وعبدالله الفضيلي، ومحمد بن عبدالرحمن العراقي، وأبي الشتاء الصنهاجي. إلى جانب تحصيله المعرفي تشبع بالفكر الوطني الذي كان يسري بين دهاليز هذا الجامع والكل يعرف الدور الكبير الذي قام به في محاربة المستعمر الفرنسي والوقوف في وجهه، تشبع بالافكار السلفية المتنورة ، وانضم الى مجموعة من الشباب التي كانت تنشط في خلايا سرية ،أنهى دراسته العليا بجامعة القرويين سنة 1931 العودة إلى القصر الكبير * عاد إلى القصر الكبير، حيث انخرط في سلك التدريس الديني يعلم اللغة العربية والدين الإسلامي، وفي سلك العدول بسماط عدول القصر ونواحيه. * عمل في الوقت ذاته ضمن الكتلة الوطنية، وأسس 1931 أول ناد للطلبة مع مكتبته باسم "نادي جمعية الطالب المغربية". غير أن هذا النادي لم يعمر طويلا إذ امتدت إليه يد العدوان الاستعماري فأغلقته بأمر من بيسرا، نائب الأمور الوطنية الإسباني آنذاك. * وفي سنة 1936 أسس ناديا آخر ومكتبة أخرى تحت الاسم المذكور، ظل مفتوحا حتى سنة 1947، حيث أغلق أيضا من قبل الإدارة الإسبانية بطلب ممن كانوا يزعمون الانتماء للحركة الوطنية. ،شارك مع الأستاذ عبد الخالق الطريس في تأسيس حزب الإصلاح الوطني، وتولى عضوية اللجنة التنفيذية للحزب بتطوان ورئاسة لجنته الفرعية بالقصر ونواحيه .سنة 1938 يقود مظاهرة حاشدة بمناسبة ذكرى وعد بلفور شاركت فيها شخصيات من المدينة .. ومظاهرة أخرى ضد الفرنسين لإصدارهم الظهير البربري .. لكم سعدت و الحاجة مليكة الغالي الطود أطال الله عمرها ومتعها بالصحة والعافية تخصني بشهادة تقول ( كان والدي رحمة الله عليه،غالبا ما يصطحبني إلى مدينة تطوان.كثيرا مازرت صحبته منزل زعيم حزب الإصلاح الوطني الأستاذ عبد الخالق الطريس رحمه الله ،كما زرت مقر الحزب رفقته. وفي سنة 1947 وتحديدا عند زيارة المغفور له محمد الخامس لمدينة طنجة،كان عمري آنذاك أحد عشر سنة،حفظني والدي المرحوم قصيدة من نظمه حول تحرير المرأة ومشاركتها لأخيها الرجل في كل المجالات مع الحفاظ على عفتها وكرامتها.وطلب مني إلقاءها في حضرة السلطان محمد الخامس رمز التجديد والانفتاح.،سأذكر من القصيدة ما ستسعفني به ذاكرتي وأنا اليوم في الثمانينات من عمري. تقول القصيدة: يا محمد يا تاج كل عظيم ** قد تباهت بسعيك العظماء جدد الشعب واطلب المجد **حتى لا يساويك في البهاءبهاء كن جديدا مجددا ذا مضاء **فكلام الجمود هو الهراء هذا ما سمحت لي به الذاكرة اللحظة. كما أذكر أن والدي رحمة الله عليه أصر على أن تكون أختي أم كلثوم وأنا من الأوائل الذين ارتدوا لباس الفتيان.) ( حياك الله الحاجة للامليكة الغالي الطود اسأل الله ان يشفيك ويمدك بالصحة والعافية ) كان نشاطه في الحزب يبدو جليا في صحافة الحزب وفي خطب مهرجاناته وفي تسيير شؤونه بحزم وعزم ونشاط، وفي الدفاع عن أنصاره ضد الاستعمار وأعوانه . *وتعرض للسجن مرات عديدة، كما تعرض لمصادرة أمتعته وأملاكه. * أرغم سنة 1941 على تقديم استقالته من وظيف مدير المدرسة القرآنية، أول مدرسة ابتدائية عصرية بمدينة القصر الكبير، والتي كانت تعتبر لمنطقة الشمال في ذلك التاريخ مثال المدرسة الابتدائية الناجحة من حيث التنظيم ونشاط التعليم وجني ثماره. *في سنة 1945 اختلف مع قيادة حزب الإصلاح الوطني حول الموقف من وعود الإصلاح التي قدمها المقيم العام الإسباني، ونشر مقالا نقديا حادا لقيادة الحزب في جريدة " مراكش " التي كانت تصدر بطنجة، أكد فيه على أن " الاستقلال يؤخذ ولا يعطى " الهجرة الثانية طنجة * فكان أن فصلته القيادة من الحزب، واشتد الاستعمار في محاربته وتضييق الخناق عليه، الأمر الذي اضطره للهجرة إلى طنجة. ومما زاد في حنق الاستعمار الإسباني عليه أنه كان، منذ 1945، يطالب بالاستقلال وبتوحيد شمال المغرب وجنوبه. وقد كان يرسل هذه المطالب في خطبه في المهرجانات، وفي المحاضرات، وفي المقالات في الصحافة، وكان يجري بها لسانه حتى في بحور الشعر والقوافي التي كان يخص بها الملك محمد الخامس. *لبث في طنجة سبعة أشهر، أرغمته بعدها الإدارة الدولية على الخروج منها، بعدما استصدرت قرارا بذلك من المندوب السيد الحاج محمد التازي بتاريخ 6 يونيو 1947، ومنعت عليه الخروج عن طريق البحر والجو، لتضطره للعودة ليد الإسبان. *حدد له الإسبان الإقامة الإجبارية بالعرائش تحت الرقابة المشددة، ولبث على هذه الحالة إلى أن مات المقيم " باريلا " وخلفه بالينيو، حيث تنفس الصعداء *الهجرة الثالثة المنطقة الجنوبية تمكن من السفر إلى المنطقة الجنوبية وقتئذ. *في سنة 1952، قام بزيارة ابن عمه وصهره الأستاذ إدريس الطود يإتزر، حيث كان مديرا لمعهد الفتح، وكانت فرنسا وقتئذ تؤلب بعض القيادات الأمازيغية على العرش، وكان الجلاوي والجنرال كيوم وأعوانهم يقومون بجمع العرائض، ويجتمعون برؤوس القبائل الأمازيغية لإيغار صدرهم على العرش. وقد انتهز الغالي الطود الفرصة للاتصال بتلك الرؤوس بواسطة ابن العم المذكور فأمضوا لنا عرائض أخرى مضادة لما أمضوه لكيوم والجلاوي تحت الإكراه، يعلنون فيها تبرؤهم من عرائض الجلاوي وتعلقهم الأكيد بالعرش وقد حمل إليه هذه العرائض إلى فاس السيد محمد بوزيان (الشهير بأغزاف أي طويل القامة)، حيث مكنه منها، وحملها بدوره إلى محمد الخامس منها يدا بيد. يقول المغفور له الأستاذ الغالي الطود في إحدى كتاباته عن المرحلة التالية: " (أما بعد 23 غشت سنة 1953، فلا تسل عما قمنا به من جهود لتوحيد الرأي العام بمنطقة الشمال ضد السياسة الفرنسية وضد ما أقدمت عليه من إبعاد رمز الوطن الملك الشرعي محمد الخامس نصره الله. فقد نظمنا المظاهرات، ورفعنا الاحتجاجات للمحافل الدولية والمنظمات السياسية، وحتى للبابا بواسطة فرانكو. وقمنا أيضا بإحباط المؤامرة الفرنسية التي كانت تحاولها مع إسبانيا لإقناعها بضرورة السير في ركاب سياستها، عندما علمنا بورود رسالة من الحكومة الفرنسية إلى فرانكو طالبين منه العدول عن سياسة التأييد لمحمد الخامس مقابل إرضاء فرانكو في مقابلة ذلك بالتنازل عن آلاف الكيلومترات من أرض إفريقيا السوداء يضيفها إلى مستعمرته غينيا، وأن يقوم أولا وقبل كل شيء بعزل المقيم بالينيو الذي كان يؤيد جيش التحرير الحقيقي ضد فرنسا.فقد أحبطنا هذه المؤامرة الفرنسية بما قمنا به من مظاهرات وتجمعات في القصر الكبير وسوق الثلاثاء، وما بعثناه من برقيات لسفراء الدول العربية بمدريد. وقد قام سفراء الدول العربية في مدريد بدور مشرف إزاء هده القضية، ووقفوا مع الحكومة الإسبانية موقفا حازما، مهددين بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسبانيا إن هي سارت في ركاب السياسة الفرنسية "). بعد الاستقلال *وفي شهادة سابقة لحفيدتة الأستاذة سعاد الطود( بعد استقلال المغرب الذي كان أملا غاليا لدى المغاربة بدون استثناء، غير أن البعض من الوطنيين رأوا أنفسهم أحق بحكم المغرب إلى جانب الملك، وأخص بالذكر حزب الاستقلال الذي رأى نفسه قادرا على أن يكون الحزب الوحيد المؤهل لمشاركة الملك في حكم البلد، فشن الحرب على حزب الشورى والاستقلال الذي أسسه العلامة الوطني محمد بن الحسن الوزاني، و على حزب الإصلاح الوطني الذي أسسه العلامة الوطني عبد الخالق الطريس بتطوان. فدب الصراع حول السلطة بين الإخوة الوطنيين واستمات الاستقلاليون في الدفاع عن الحزب الوحيد، بتدمير كل الكيانات السياسية المختلفة، فسجن من آل الطود من سجن، واختطف الأستاذ عبد السلام بن أحمد الطود واعدم واختطف الشيخ المريض عبد السلام بن الهاشمي الطود من بيته واختطف المرحوم الحاج إدريس الطود من مدرسته بإتزار ليسجن بدون تهمة. وبما أن كل مختلف مخالف ناله الاختطاف فالسجن أو القتل، اضطر المرحوم الغالي الطود إلى اللجوء إلى مصر، وأوصى من ينقذ ابنه من الموت أو الاختطاف، فكان أن نجا اليافع محمد علي الطود بأعجوبة و بدعم من أصدقاء والده الغالي الطود الذين يسروا له اللجوء إلى مصر بقاهرة المعز إلى جانب المرحوم والده) الهجرة الرابعة اسبانيا ومصر *أمام الأهوال التي تعرضت لها الأسرة ومحاولة اجتثاثها اضطر المرحوم النجاة بنفسه ولجا إلى اسبانيا ومن هناك كان يتابع أوضاع البلد والأسرة ويبدو أن الهجرة إلى اسبانيا سبقت هجرته إلى مصر، ففي رسائل من مالقة باسبانيا موجهة لابن عمه المرحوم الهاشمي الطود الأولى مؤرخة ب25 غشت 1956 أي بعد الاستقلال بأشهر ورد فيها (أما قضية المعتقلين فلم يظهر عليهم أي خبر ،مما يؤكد موتهم وحزب الاستقلال يحاول السيطرة على الحكم ) الرسالة الثانية مؤرخة بتاريخ 25 يناير 1957 يبدو فيها متابعته لتفاعلات الثورة الجزائرية يقول ( وان الظروف التي سافرتم فيها كانت خطيرة جدا ، والعدو يتربص بكم الدوائر كما تربص بالإخوان احمد بن بلة ورفاقه…) وفي نفس الرسالة (لقد مكر قوم فرعون بالمغرب وباستقلاله ، وأرادوا أن يقلبوا أوضاع المغرب الدينية والسياسية والاجتماعية ) الرسالة الثالثة بتاريخ 5مارس 1957 وهي رسالة مشفرة (أما الحالة في الواحة بلغت شدة لم يتصور لها مثيل ، الجوع والبطالة وعدم الأمن ، اغتيالات وانتحارات وظلم المتسلطين وخاصة في ناحية اللوز) – الواحة ربما يقصد بها البلاد عموما ، ناحية اللوز منطقة الريف – هاجر إلى مصر والتقى بالزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي وعاد إلى المغرب سنة 1960 بعد استباب الوضع وتغيير في الوضع السياسي نسبيا وتغيير موازين القوى فلسطين في قلب اهتماماته *لقد بذل المرحوم مجهودا كبيرا في الميدان الثقافي والصحفي والشعري ومن قصيدة طويلة بعثث لي بها مشكورة حفيدته الأستاذة نسيبة الطود تظهر تبني الشاعرللقضية الفلسطينية، وكان لي حظ الاطلاع على مداخلة للصديق للدكتور سعيد حجي تحت عنوان: القضية الفلسطينية والنكبة في المجتمع المغربي من خلال الأرشيفات العائلية ألقيت في المؤتمر السنوي الخامس للدراسات التاريخية المنعقد في العاصمة القطرية الدوحة، أيام 12 و13 و14 ماي 2018 نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات يقول "( إذا كانت طبيعة أغلب القضايا التي تفاعلت معها مجتمعات الحواضر الصغرى المغربية خلال الاستعمار ذات طبيعة محلية، ارتبطت بالدفاع عن الخصوصيات المحلية والمقدسات الدينية، فإن المجتمع القصري شكل أحد الاستثناءات في هذا الصدد. وتكشف الأرشيفات العائلية مدى اهتمام المجتمع القصري بالقضية الفلسطينية إبان الاحتلال الإنجليزي لفلسطين، ليس فقط على مستوى المتابعة والمواكبة، وإنما حتى على مستوى القيام بالخطوات التضامنية والمستنكرة لما كان يتعرض له الفلسطينيون. ..) وهذا نموذج من قصائد الشاعر الغالي الطود حول القضية الفلسطنية : فلسطين مني، كل مالي فدية * لتحيا وان صاحت فكلي مسامع . بلاد بها لله أول قبلة. ومولد * روح الله فيها، وجامع . ومهبط وحي للشرايع جلها *وللانبياء المكرمين مضاجع فكيف هجوعي والعرين مهدد* ومن لي أن احمي الحمى وأدافع وفي قصيدة أخرى بعنوان (صوت ينادينا ) نقتطتف منها الأبيات التالية يقول صوتٌ من القُمري الأشجى ينادينا أم رقصةٌ من لطاف الجنس تُسْلينا ما لي فُتنتُ بطيب العيش من أَم نكاد نلمسهُ غضّاً يُماشينا هام الهُيامى بحامي المُلْكِ في وطنٍ _ حنّت إليه قلوبُ الشَّعب صابينا هبَّ النسيمُ فمال الغصن من طربٍ يهفو إليك وقد عانقتَ نِسرينا وهكذا عاش المرحوم الغالي الطود الحسني ، لم يلهث وراء منصب ولا امتياز ، ما عمله وما قدمه للوطن احتسبه لله ،إلى أن لقي ربه سنة 1985 . إنها مجرد إطلالة مختصرة على ملامح من شخصية هذا الوطني الفذ، والإشارة إلى بعض المحطات من نضاله، والتذكير بومضات من إشراقات فكره السياسي والاجتماعي، رحم الله سي اغالي رحم الله رائد النهضة الوطنية بالقصر الكبير الحاج الغالي الطود الحسني