جريدة القدس العربي إن الناظر في كتاب الباحث المغربي الدكتور مصطفى الغرافي: "البلاغة والإيديولوجيا؛ دراسة في أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة"، يدرك أنَّ الإشكالَ المعرفي الذي ستسير تحت ضوته وفي طريقه عملية البحث والتنقيب إشكالٌ فكريٌّ ولغويٌّوليسَ إشكالا أدبيا، وسبب ذلك، أن محمولات القول الأولية لدينا عن مفهوم "البلاغة" ومفهوم "الإيديولوجيا" –وهما مكونا العنوان الأصلي للكتاب – تخصان التعريف "المدرسي"، أي الوجه الثاني لمحمول القول، أيَّ قولٍ كان، فصيحا أو غير فصيح، متداولا، ومتخيلا أو غير متخيل، وهو غالبا تعريفُ صانعي الخطب ومُدرسِي الأدب،أي مدرسي البلاغة، ومن ثمة، فالبلاغة لدينا ليست سوى "فنِ القولِ"وتنميقه وتجويده للتظاهر والتفاخر والسفسطة، الذي وَرِثَ "الصراع"، صراع الأقوياء في اليونان القديمة، موطن ومسقط رأس البلاغة، فبسقوط الطغاة، انتهى صراع الأقوياء (la chute des tyrans)، لكن ظهر بعدها مباشرة صِرَاعٌ آخرُتزامن وصعودَ نجمِ الديمقراطية، وهو: "فن القول" أو "فن الكلام"، فمن حق كل مواطن يوناني حر التعبير عن رأيه بحرية دون خوف من الطغاة والعقاب أمام الملأ، وهكذا، توجه التعريف المدرسي للبلاغة من التركيز على الكلام (القول والخطاب) إلى التركيز على حامل الكلام، ومنتجهِ، أي المتكلم والخطيب، أو ما تم الاصطلاح عليه بِ "صانعي الخطب"، وهو تعبير يقدم الوعي على الفطرة والسليقة، فالصناعة (الصَّنْعَةُ) والتجويد يأتيان بعد الفطرة والسليقة التي تنتج كلاما خاما، معناه ومقصده بيِّنٌ، ومتلقيه لا يبذل مجهودا لإدراكه وفهمه. إذن، فالبلاغة في عرف المعلِّمينَ، وفي التعريف المدرسي، لا تنتج فنا، سواء أكان فنا أدبيا أو فنا في مقارعة الأفكار وحد حلبات الجدال، إنه مجرد أداة للتعبير، والبلاغة وسيلة من وسائل التعبير كغيرها من الوسائل، إلى أن ظهر السفسطائيون الذين تسلموا مشعل البلاغة من صناع الخطب في المدارس إلى دهاقنة المحاكم، أي بعد أن ازدهرت البلاغة مع الجمهورية في روما (Rome)، فقد انهارت تماما مع عودة الإمبراطورية، التوسعية الجشعة، التي كان قادتها وتجارها كما هم تجارب الحروب في كل الأزمنة وكل الأمكنة، في حاجة إلى من يدبج الخُطبَ ويُحَسِّنُ القول ويزيف المعنى ويعدده، وإلى من يزين القبيح ويقبح الجميل ويشينه، أي أن انهيار جدار (حصن) الجمهورية التي ضمنت الحرية وحمت المواطن من الخوف والعقاب، أتاح المجال لتلمعَ شمسُ القهر والإذلال والاستعباد، والبلاغة كما اللغة والفكر سيخضعون مرة أخرى لمنطق القوة وصراع الأهواء ونزوات الطغاة، وتحولَ البليغ والخطيب من رجل حَسَنٍ يُحْسِنُ القول و(فن الكلام)، "un homme de bien qui sait parler"، إلى "موظفٍ"، كما نعت ميرلوبونتي (Merleau-Ponty) الفلاسفة بعد أفلاطون، أي بعد سقوط الجمهورية، وفي ظل الإمبراطورية، وصراع المصالح، وتغير موازين القوى (فقد نجا أرسطو من العقاب مصادقة)، هنا بالذات، يمكن الحديث عن الفكرة الأساس في كتاب الدكتور مصطفى الغرافي؛ "إسقاط الغرض العقدي الديني على الغرض الأدبي الجمالي"، أي تحكم الفكر والعقيدة الدينية أو السياسية أو الحزبية… في إنتاج "الخطاب/ Discours" وتدبيج "الكلام/ Parole" وتحسين وبناء "النص/ Texte"، وكلها مفاهيم تلتقي في بؤرة واحدة، وتأخذ معنى واحدا، فبعد نشوء المجتمع الإسلاميِّ وانتهاء عصر الخلفاء الراشدين: (السلف الصالح)، ظهرت ملامح جديدة لمجتمع إسلامي جديد، وقد تطلب الانتقال من نظام "خلافة الشورى" إلى "خلافة الوراثة" أي نظام "الدولة"، ظهور "الصراع" مجددا، في العالم الإسلامي، كما كانت الحال عليه في اليونان القديمة، قبل وبعد "الجمهورية" وفكرة "الديمقراطية"، بدأ الصراع حول الخلافة واحتد مع العباسيين، وتعدد الفرق الكلامية، لم يعد كلام العرب، واحدا وموحدا، في تفسير وشرح وتأويل المعنى، وتَحَوَّلَ المعنى الحرفي (الشرح المعجمي) إلى عائق أمام الوصول إلى المعنى الظاهر من القول (Speech)/ الخطابِ (Discours)/ النص (Text)(التفسير)، الذي أصبح بدوره عائقا أمام معنى المعنى الخفي والباطن من القول/ الخطاب/ النص (التأويل)، لذلك وجب التنبيه إلى هذه الفروق التي تبدو في كثير من الدراسات مترادفات لمعنى واحد، خاصة معنى "التأويل/ L'interprétation" الذي التبس مع سياقه في الدراسات الغربية الفكرية أو النفسية ك"تأويل الأحلام؛ س. فرويد"، إذن، فقد لجأت الفرق الكلامية إلى الشرح الحرفي لظاهر القول (النص) في الآيات الكريمة دون الحاجة إلى استعمال العقل، لأن استعمال العقل يدعو إلى احتمال الشك، والنص المنقول صحيح لفظا ومعنى، أي لا احتمال فيه للظن، وإلا "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمَسِحِ من أعلاه"، وهذا مذهب أهل السنة، وبالتالي مذهب ومعتقد ابن قتيبة، وهو ما يأخذه على الجاحظ ومن ثمة باقي أتباع مذهب المعتزلة الذين لا يقبلون بكثير من "مسلمات السنة/ أهل النقل" إلا بعد عرض ظاهر القول–الذي يخالف البرهان- على العقل لسبر باطنه، وفي ذلك يقول ابن رشد معرفا التأويل:" ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازة – من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز – من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عُدِّدت في تعريف أصناف الكلام المجازي."، وقد شجعهم على ذلك الطريق المسدود الذي وصل إليه سابقوهم من المشتغلين على العهدين القديم والجديد، كما بين ذلك الدكتور محمد مفتاح في قوله:" لعل بداية التأويل الأساسية المسجلة في الوثائق المتداولة بين الناس ما يجده الباحث لدى مؤولي العهدين. فقد عثروا على أمثال رأى بعضهم قبولها على ظاهرها، واقترح آخرون إعمال التأويل فيها لأن معناها الظاهري عبثي يتناقض مع أصول المعتقدات أو مع ظواهر الطبيعة. وبناء على هذا الخلاف فقد رصدت المؤلفات المهتمة بتاريخ التأويل واتجاهاته ثلاثة تيارات أساسية. هناك الاتجاه الحرفي الذي يمكن أن يتخذ نموذجا له (Mopsueste). فقد ناهض أوهام المدرسة التأويلية وتعلق بالمعنى الحرفي.وقد أدى به صنيعه هذا إلى الوقوع في تناقضات مع آيات أخرى، ولذلك وقعت مهاجمته بعد موته واتهم بالابتداع…" (ص:90). وهناك الاتجاه التوفيقي وتأويل التمثيل. وكان من اللازم اللازب وقوع الصراع بين مذهب أهل السنة الذين يمثلهم، كما ورد في كتاب "البلاغة والإيديولوجيا"، ابن قتيبة، ويمكن اعتبار طريقته في القراءة والشرح والتفسير والتأويل "حرفية" بحسب قول د. محمد مفتاحالسابق، أما المعتزلة وهم أيضا "أصحاب العدل والتوحيد" كما كانوا يلقبون أنفسهم، "اما العدل فمن قولهم بحرية الإنسان توثيقا لعدالة الحساب، وأما التوحيد فمن تعطيل الصفات لإثبات انفراد الذات الإلهية بالأزلية." (ص:10)، في منطقة "التأويل"، والتأويل كما ورد في القرآن الكريم، وكما تحدثت عنه في "المتخيل المختلف"، محددٌ بالنَّصِّ وموقوفٌ على الله عز وجل، بدليل الآية "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله" (7. آل عمران). وهو ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، أصحاب النقل. فالشرح مرتبط بالمعجم اللغوي والتفسير مرتبط بالتركيب والمعاني القريبة من أفهام الناس بحسب عصورهم وتجاربهم ومستويات الوعي لديهم، أما التأويل فيتعلق بالمعنى الباطن، المعنى الذي لا يدركه الناس العاديون، وبعض الأنبياء والرسل، كما في حادثة موسى والخضر، التي تؤكد على أن الإنسان لا يمكنه أن يفهم الحوادث التي لم يعلمها من قبل، ولا يستطيع عليها صبرا. والحق أن المقابل بين ابن قتيبة إمام أهل السنة والجاحظ إمام المعتزلة، من أجمل وأعمق ما في كتاب "البلاغة والإيديولوجيا؛ دراسة في أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة"، وهي مقابلة تبرز بجلاء معنى البلاغة في علاقتها بالإيديولوجيا كمصطلح جديد، على العربية، وأيضا إنتاج أنواع الخطاب، وأنواع النصوص وعلاقتها بمقاصد المُنْتِجِ (الكاتب الموضوعي والخطيب). فمسألة النقل والعقل، تمثل طرفي الوجود، الوجود بمعنى اللغة، لأن اللغة هي المظهر الأصل للإيديولوجيا، إيديولوجية الفرد وإيديولوجية المجتمع، "فالكلمة – يقول ميخائيل باختين- هي الظاهرة الإيديولوجية الأمثل." (ص؛ 23)، كما سنحدده أيضا، في قول الكاتب الدكتور مصطفى الغرافي تعليقا على قول الجاحظ أو اختياره وأتباعه مذهب الشك المتمثل بلاغيا في "الإقناع" عبر تبرير الشيء وضده، وهو بذلك، كمن يعود بالبلاغة إلى ميدانها الأصل في اليونان القديمة، أي ميدان المحاكمة، والخطيب المفوه البليغ من كان قادرا على الدفاع عن موقفه ورأيه في حال الصواب والخطأ، وفي حال الحق والباطل، وفي حال الحقيقة والزَّيْفِ، كما يؤكد العتَّابيَّ، وهو متكلم معتزلي، في تعريفه للبلاغة والخطيب البليغ:" كلُّ مَنْ أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حُبسةٍ، ولا استعانة فهو بليغٌ، فإن أردت اللسان الذي يروق الألسنة ويفوق كل خطيب فإظهار ما غمض من الحق، وتصوير الباطل في صورة الحق." (ص؛ 12). *مصطفى الغرافي، البلاغة والإيديولوجيا- دراسة في انواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة، كنوز المعرفة، الأردن، ط1- 2015