لا يلوح في الأفق غير سحاب شبه أبيض, تخالطه ملاءات دخان يتحلل إلى التلاشي, أراه يتمايل بين تلابيب صحو فصل الصيف البارد, من قال هذا العام زين فهو كاذب, لا يمكن أن يكون إلا كسابقه أو لاحقه, دار لقمان ما زالت على حالها, بل أسوأ, البشائر المهلة على هوادج النخاسين زائفة, ها هي النيران تقترب ملتهبة في جذور القصب الأخضر, لا يبدو خلفها ما يدل على فاعل بعينه, خيالات متكومة حواشيها بين أحمر وأصفر, النيران تقترب أكثر, تتشكل من ألسنتها فقاعات دخان, ومدت يدها تبسط كفيها, تكاد تلامس بهما صورة متدلية من السقف, - ترى ما لا نرى , - لذلك يسمونها زرقاء اليمامة ؟ - كيف لها أن تخترق حجبا دامسة في هذه الغرفة الضيقة ؟ رفعت صوتها قليلا, دون أن ترفع وجهها للسماء كما ألفنا أن نرى في جلسات العرافات الشعبية, كأني بها تسمع همسنا, - وأرى أبعد , هناك خلف السحاب كثافة آدمية, تبحث عن موقع قدم للإنزال على حافة النهر, لا أستطيع القول إنها عجمية أو عربية أو أمازيغية, لكنني أستطيع القول إنها بين مذكر ومؤنث, أو بين مذكر مؤنث ومؤنث مذكر, ها هي تتسلل من بين عمق أشعة الشمس الصيفية الباهتة, من أية جهة ترى خيوط الشمس؟ وتملكتني حيرة من أمر هذه المرأة, تتحدث عن تفاصيل صورة لها ألف ملمح في الذاكرة, وتمنيتُ لو كنت أسجل ما تصفه هذه العرافة الجميلة, ثم أطرقتْ رأسها كعلم منكس بعد هزيمة, نمتْ إلى أذني تنهيدة حرى, لم أشأ أن أتأمل تصعيدها وتسفيلها, حذر الإمساك بي في حالة تلبس, صدرها ما يزال يهتز, أثارني شبه استواء مقدمة صدرها الملفوف تحت ثوب أزرق, أين نهداها؟ كان رفيقي مشدوها يسبح في متاهة الانتظار, لم يحرك حتى رأسه للإيحاء بجواب ما, دون أن أقصد, وقعت عيني على جنبات استدارتين, بحجم تفاحتين لم تشبعا ماء في موسم جفاف قائظ, - عرافة في سنها , ظاهرة غير مألوفة , يحيط بالمقلة شبه الرمادية, بياض يظلل بؤبؤاً يميل إلى خضرة فاتحة, أسفل هلالين لم يعبث بهما طلي أو نتف كما تفعل جل النساء, آخر ما يمكن أن يتصوره الرائي لمحجريها, أن تكون الفتاة عمياء, لم أجرؤ على الاستمرار في التحقق من محيط ناظريها, نغزته من الخلف, احتكت سبابتي بالثوب فأحدثت ما يشبه الصفير, أحاول أن أوجه رؤيته إلى هيئتها, لعله مثلي تثيره فتنتها بالروح والجسد, هل نسي ما جئنا لأجله؟ تبا لخالته, كيف أفلحت في إقناعه باللجوء إلى هذا المكان الغريب؟ أوقرت في وعيه, أن الشوافة وحدها تعرف سارق الخاتم من البيت, وتبا لي قبلها وقبله, أسير خلفه منقادا كمحكوم بالإعدام, أحمل رجلي بيدي إلى جانبه من غير أدنى استفهام, نسيت أنني جئت في الأصل, لأسخر منه ومن هذه الترهات السخيفة, لم أسأله إن كان يعتقد في رؤية العرافات, كنت موقنا أننا بصدد لعبة, لم أعلق على اختيار خالته, وافقته على الاصطحاب حين أظهر استخفافه بخالته: لو كان الخوخ يداوي كان يداوي راسه سايرته قبل أن يكمل حكاية خالته والخاتم الذي سرق من البيت: يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر, أرى امرأة فارعة , تسبقها بطن بنصف دائرة, لعلها حبلى في شهرها السابع, - مَن في العائلة حبلى في شهرها السابع؟ - خالتي والسباعي قد يعيش وقد يموت, مع أمه أو بدونها - من سارق الخاتم ؟ كتمت رغبة عارمة في الابتسام أو الضحك, مهندس الإعلاميات يسأل العرافة عن سارق الخاتم من البيت, تتمدد خيوط دخان البخور فتكسو وجهها, عيوننا أصبحت أكثر انفتاحا, تماما كما يقع لنا عند ولوج قاعة السينما, تكون الظلمة مطبقة, ثم تبدأ الرؤية في الانجلاء شيئا فشيئا, التقت نظراتنا, تكشفت الخيالات عن امرأة في عز الورد, بينما لم نكن أمامها أكثر من صوت يتحرك في الغرفة, لا أرى غير مدى لامتداد السواد تتخلله خيوط ضوء بعيدة, وفتحت ذراعيها, كنسر يتأهب للانطلاق, تراخى الكمان إلى الإبطين, فبدت بشرة خالطتها صفرة القناديل المعلقة في زوايا قريبة من السقف, كانت تلمع منعكسة على الأساور السميكة, من ذهب حر خالص أو من نحاس مذهب حرامي؟ بسطت كفيها للسماء المحاصرة بالجدار, لم تكن بأصابعها خواتم كعادة النساء, صفقت ثلاث مرات, وتحركت نحو القيام بقامتها المقدودة. - أرى ما لا ترون, وترون ما لا أرى, - ها الفلسفة بدأت. لا شك أنها سمعت مقالتي, كلمتي كانت مهموسة, خلف كتف صاحبي المسروق خاتمه من البيت, ألحت خالته بعد تجييش أمثلة كثيرة بحمولات من الخيال الشعبي, كلها تؤكد على صدقية الرؤية عند العرافة العمياء, ستحدد مكان وجود الخاتم بدقة, لم يبلغ قدرتها في التحديد غير بني إسرائيل, في تحديد مواقع رؤوس الفتنة في تونس وفلسطين والعراق ولبنان, - خالتك غاوية سياسة, لو صدقت رؤيتها, لن نحتاج إلى طائرات أواكس, تستطلع ما يعده الشمال للجنوب في الكرة الأرضية. - لا تسخر . خذ حذرك من العاقبة, كيف أخاف؟ حتى إسرائيل التي ظلت تدعي قدرتها على معرفة الجنب الذي ينام عليه الشيخ في لبنان, انكشف عنها الغطاء, وصارت أضحوكة التاريخ المعاصر, شعرت بما يشبه رعشة باردة تسري في أوصالي, حين رفعت كفيها تبسطهما من جديد, وعيناي على أنوثتها الملونة بالرغبة في جسدها قبل روحها, انتظرت أن ترفع الجلسة, وتعود الفتاة إلى الواقع, كما يحدث في المسلسلات العربية, طال انتظاري, قبل أن تُضاء زوايا الغرفة بالكهرباء هذه المرة, جلستْ, الآن, سأتأمل التفاصيل, فجأة, أظلمت الغرفة, كأن التيار انقطع, والقناديل التي كانت مضيئة, انطفأت ذبالاتها كأنما صب عليها الماء, صوت تضخم مبحوحاً في الفضاء الأسود, لم يمهلني برهة تفكير في الحال. - الخاتم عاد إليك, هو في الطريق لا ينتظر غير إشارة منك, هل تقبل الرهان؟ لم أحاول الفهم ما دمت غير معني بالسؤال, توجهت إلي ثانية وثالثة, - الخاتم كالحق, يمكن أن يسرق من صاحبه, لكنه حتما يعود إليه, نكست بصري المشدود إلى الصوت, هزني الحديث عن الحق, تذكرت قولة الحق الذي يؤخذ ولا يعطى, وتذكرت الحق الذي في أفواه البنادق, أنستني الجنية ملاحة بشرتها, صغر استدارة نهديها, خضرة باردة كانت إلى حين تفيض من عينيها, - الخاتم عاد إليك , فهل تقبل الرهان ؟ - من سرقه ؟ - ولماذا لا تقول إنكم الذين أضعتموه ؟ - من السارق ؟ هذا ما جئنا من أجله. تسرب بداخلي انزعاج من حلكة الظلام, يسأل صاحبي عن سارق خاتمه, وتكرر عليه نفس السؤال. - ستعرفه في الحال, لكنك لن تستطيع أكثر من استرداده, لن تستطيع مقاضاته, أو محاسبته, ناهيك عن متابعتك له في الدنيا قبل الآخرة, سيقر لك بأنه سرقك, وسيشهد العالم على أنه إذا أخطأ في حقك, فإنه لم يرتكب جناية, سيعترف أمام عدول السلطان, بحقك في التعويض عما سلبه من أصبعك, الخاتم عاد إليك, فهل تقبل الرهان؟ - السرقة تستوجب العقاب, وحد السارق قطع اليد, تخيلت لحظة أنني سأفحمها بما أحفظ من دروس الحدود, وتخيلت أنني أتابع حلقة من مسلسل الجلسات إياها, الهيئة بصفة الهيئة والموضوع حق أريد به باطل, الإنساف, منصة يستطيل فيها بعض ضحايا سنوات بعنوان الرصاص, الإرسال على الهواء, إخراج محكم لمسرح الكراكيز في عرس لوركا الدموي, المكروفونات وقنينات المياه المعدنية, المنظمون ينشطون الحلقة أمام جمهور واع ومسؤول, عروض, أسئلة, لا أجوبة, حين تتجه أضواء الكاميرات إلى الحضور, تُرى أجساد تتحرك للاستواء وتعديل الوضع المتعب, من سيظهر على الشاشة أكثر؟ - الخاتم عاد إليك, السارق سيعترف, فهل تقبل الرهان؟ - لا . قالها بصوت مرتفع أوقد النور في الأرجاء, - السرقة تستوجب العقاب. وهم بالقيام, تصورت أن تتدخل الفتاة العرافة, تبعته في القيام, مد يده إلى حجرها ليضع ما لا يمكن أن يكون إلا نقودا, لم تتحرك, نطق كلمة شكر وتوديع رقيقتين, وأشار علي بالانسحاب, - ماذا ستقول لخالتك ؟ - رفضت المساومة, لا أريد مقايضة الخاتم بالصمت على السارق, - والعرافة ؟ - ليست عرافة, إنها منهم. تلقفنا الدرب بارد الهواء, بالكاد نعاند وضوح الرؤية: - ستقول عنك خالتك بأنك آخر الحمير, أو آخر ........