بسبب قلة وندرة ما كتب حول الفقيه سيدي عبد الهادي العسري الشهير بالهادي العسري : فيما يتعلق بترجمته وأخباره وآثاره، فإن للروايات الشفوية دورا كبيرا في تقديم لمحة موجزة ومفيدة عن الرجل، واستثمار كل الجزئيات المتعلقة به، لوضع تعريف يقدم الضروري من معالم ترجمته، ويجلي أهم سمات شخصيته، ومساره العلمي ومسيرته. هو الشيخ العلامة، الورع التقي، مؤقت المسجد الأعظم بالعرائش، الحاج الشريف، سيدي عبد الهادي بن سيدي عبد السلام (1401/1981) بن الحاج سيدي محمد بن عباد العسري. والجد الأكبر لأولاد العسري هو الولي الصالح سيدي علال بن أحمد الملقب بالعسري، قال الفقيه الأشيب سيدي محمد العياشي العسري الحسني (ت 10 جمادى الثانية عام 1361، الموافق ل 25 يونيو سنة 1942 ) بتطوان:" نسبهم ثابت صحيح بحجج شرعية ودلائل قطعية وظهائر ملوكية قديمة وحديثة والتي بأيديهم "، (تقييد خاص بخط سيدي الهادي العسري). وبعد أن أسهب سيدي عبد الهادي في سرد جملة من أخبار الجد الأكبر، ذكر أن ذريته استوطنت منطقة الهبط، وتوزعت بين القصر الكبيروالعرائش وقبيلة آل سريف وغيرها من المواطن، وأسسوا بالعرائش الزاوية العسرية الكائنة بدرب الرمي (الرماة) غرب المسجد الأعظم بالمدينة القديمة، التي يحمل أحد دروبها اسم در ب العسارة. ولد سيدي عبد الهادي في فاتح شهر أكتوبر عام 1924، بقبيلة آل سريف، قيادة تطفت، مدشر أمجادي (مكادي). أكمل حفظ القرآن على والده سيدي عبد السلام، وسنه لا يتجاوز عشر سنين، ثم جلس لطلب العلم والفقه على شيوخ قبيلته، وبعدها سافر إلى القرويين بفاس للتتلمذ لشيوخها الأجلاء. توفي رحمه الله تعالى بطنجة متم شهر أكتوبر عام 1997، عن ثلاث وسبعين سنة وشهر، ونقل جثمانه الطاهر إلى مدينة العرائش، وشيعته جماهير غفيرة من أهل العرائشوالقصر الكبير والنواحي من معارفه وعموم الناس إلى مثواه الأخير بمقبرة سيدي علال بن أحمد العسري بالعرائش. وقد رثاه محبوه في جريدة " العلم "، عدد 17048 بتاريخ 25/12/1997، وكذا بجريدة " العرائش " عدد 13 بتاريخ 20/12/1997، وعدد 14 بتاريخ 20/01/1998. كما أقيم حفل ديني بالزاوية الصديقية بالعرائش أحيتها جمعية الكواكب بمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج ألقيت فيها كلمات تأبين في حقه. عرف الفقيه علاوة على تمكنه من المعارف الشرعية من فقه وتفسير ولغة وغيرها، وزيادة على تصديه للفتوى والوعظ بأمرين كان فيهما قدوة ومثالا يحتذى به: الأمر هو شغفه الكبير بفنون ثلاثة: كتابة المصحف، والاشتغال بالتوقيت، والعناية بالأنساب. والأمر الآخر هو انخراطه في العمل المؤسساتي من خلال ترأسه لفرع " رابطة علماء المغرب " بالعرائش لسنوات عدة وإلى يوم وفاته، وعضويته للمجلس العلمي الإقليمي لتطوان، واستعداده للتعاون على البر والتقوى والعمل الصالح مع كل من يطرق بابه لأجل ذلك. وهكذا فقد حبب إليه نسخ المصحف، وكان ماهرا في ذلك، وقد أسعفه خطه الجميل على أن يزين رفوف مساجد وزوايا مدينة العرائش وخزانات بعض الخواص من معارفه وعائلته بمصاحف من خطه، وقد أخبرني بعض من عرفه عن قرب أن حيزا كبيرا من وقته وغالب عمره قد قضاه في العناية بالقرآن الكريم من خلال نسخ المصحف وكتابته، توجه ذلك بكتابة مصحف من اثني عشر جزءا تسهيلا لتلاوة " السلكة " جماعة، وأخبرني ولده السيد عبد الباقي أن والده أهدى مصحفا بخط يده إلى مكتبة مكةالمكرمة، إن نسخ المصحف سنة ولع بها الأخيار في المنطقة، وعادة سار عليها أهل القرآن هناك، واعتبروها من الصدقة الجارية التي لا تخفى أهميتها خاصة في وقت عزت فيه الكتابة والطباعة. كما كان للفقيه رحمه الله اهتمام متميز بعلم الفلك وفن التوقيت، واشتهر بإحاطته بمسائلهما ودقته في ذلك، فكان حجة الناس ومرجعهم الذين يصدرون عنه، وموئل المهتمين، ولهذا فقد تعددت زيارات الفقيه المؤقت العرائشي من مكناس له في بيته قصد الاستفادة منه في علم التوقيت والفلك، وقد شاركه هذا الاهتمام صهره الفقيه السيد احميميد جلول النقاشي، من فقهاء تطوان، ومما يذكر له في هذا المجال صنعه للمزولة ساعة شمسية (المسجد الأعظم بالعرائش، الزاوية المصباحية بالقصر الكبير...). وكان مع ذلك نسابة، ضابطا لأنساب الأعلام والقبائل، وقد اهتم كثيرا ببيتين شريفين: هما البيت العلوي، والبيت العلمي، ولعل فيما خلفه من تقييدات تدل على ذلك، ومنها مما وقفت عليه: الشجرة التي وضعها للبيت العلوي الشريف على شكل بديع ومفيد، وله تقييد خاص به، يوجد عند أولاده. تقييد حول ذرية الولي الصالح المولى عبد السلام بن مشيش عبر الصحراء المغربية. تقييد يخص الشعبة العسرية، صدره بما كتبه سيدي محمد العياشي العسري الحسني. العرض الذي قدمه حول المولى إدريس الأكبر وذريته بالمجلس العلمي المحلي بتطوان يوم 12/03/1987، كل هذا يدل على مدى اهتمامه بهذا المجال. ولعل مما يجب أن يذكر له اعتصامه بالكتابة وحرصه على تقييد الفوائد، يدل على ذلك إضافة إلى ما يحكى عنه، أحوال بعض الأوراق التي كان يدون عليها كل ما كان يسمع، واغتنامه للفرص التي أتيحت له من خلال مخالطة أهل العلم ومصاحبتهم ومرافقتهم، فعلى سبيل المثال، ففي جلسة ود على هامش إحدى لقاءات رابطة العلماء بمدينة مكناس مع الشيخ ماء العينين لاراباس رئيس المجلس العلمي بالعيون خط ما سمعه منه عن الشرفاء العروسيين بالصحراء المغربية. كما اشتغل بالتدريس ب" المسجد الأعظم "، ومارس الوعظ سنوات طويلة بمسجد " الأنوار "، وعمل أستاذا ب" المعهد الأصيل " بالعرائش، فانتفع به خلق كثير، وتخرج على يده أعداد كبيرة من الطلبة الذين شغلوا مناصب مهمة. وكان مما سنه مع ثلة من أقرانه من علماء العرائشوتطوان خاصة تلكم الزيارة السنوية التي كانوا يقومون بها لضريح المولى إدريس الأكبر، وكان يرأس وفد مدينة العرائش. لم يعرف عنه انتسابه إلى طريقة صوفية معينة، مع حبه الشديد للسماع، وانجذابه إلى حلقات الذكر، وكثرة الحديث عن المشرب الشاذلي، وشدة الإعجاب بشخصية الولي الصالح سيدي عبد السلام بن مشيش. وكان من ديدنه أيضا المواظبة على زيارة العلماء من شيوخه وأقرانه للمذاكرة في العلم، فعرف في مرحلة شبابه برحلاته العديدة لمدن وقرى المغرب، باحثا عن العلماء، وقاصدا للزوايا في شتى ربوع المغرب، من شماله إلى جنوبه، وفي جباله وصحرائه، بل دفعه حبه للسفر بقصد المذاكرة في العلم ولقاء العلماء إلى اقتناء سيارة " فورد " في أوائل الستينيات من القرن الماضي، كما زار الجزائر وجبل طارق ومناطق أخرى خارج المغرب. وبالعرائش كان دائم الاتصال بجملة من الفقهاء والأساتذة من أقرانه، أذكر منهم الفقيه عبد الملك بن الفقيه مدير المعهد الديني بالعرائش، والفقيه المرابط الأستاذ بالمعهد الأصيل، والفقيه ألوات السوماتي الفقيه والعدل والأستاذ بالمعهد الأصيل، والفقيه مزوار، والأستاذ المختار الخمال، والأستاذ عبد السلام العروسي، والأستاذ محمد الحراق، والأستاذ مبارك العريبي، وكذا الفقيه عبد السلام السوماتي، والأستاذ الأمين الروسي الحسني، وغيرهم. وفي أخريات حياته، وبعد عقد الثمانينيات من القرن الماضي كان يزور العلماء على سبيل التبرك وطلب الدعاء الصالح منهم. لقد كان رحمه الله من منارات العلم وأئمة الهدى، واعظا متبصرا، ومرشدا مربيا، إذا نطق صعد مرقى المجد صعودا (جريدة العرائش ؟؟)، عرف بأخلاقه السامية، وصفاته الحميدة، وكرم الضيافة، وكان الناس يستبشرون برؤيته، ويسعدون بطلعته، ويأنسون ببساطته، وسماحة ملامحه، كان مثالا للعالم الرباني الذي قضى حياته في تلقين العلم، وخدمة المصحف، وتعليم الطلبة، ووعظ العوام، غير متهاون في ذلك، ولا منشغل عنه بأمر من أمور الدنيا، ورعا ذاكرا، رحمه الله رحمة واسعة. هذه نبذة مختصرة عن الشيخ سيدي الهادي العسري. السياق العام لجهوده في مجال التأريخ للحركة العلمية بالمنطقة : أما فيما يتعلق بعنايته برجالات المنطقة وآثارهم، فيمكن تصنيفه ضمن الجهود الكثيرة التي بذلت ولا زالت تبذل من أجل التأريخ للمنطقة تأريخا علميا يعنى بجمع أسماء الرجال من العلماء والأولياء والوجهاء، ورصد إنتاجاتهم المتعددة عبر الأزمنة والأمكنة. وكذا جرد الأسر والعائلات وضبط تحركاتها وتنقلاتها داخل المنطقة وخارجا وبيان آثار رجالاتها، وما يستتبع كل ذلك أحيانا من الإشارات التاريخية والمعطيات الاجتماعية والتنبيهات المختلفة المتعددة. لقد أولى الفقيه للبعد التاريخي أولوية قصوى، وخاصة ما تعلق منه بأعلام منطقة الهبط، و تتبع حركة وتنقلات الشرفاء بالمغرب وأماكن تواجدهم، والترجمة لأعلامهم، وغير ذلك. وهكذا، فقد شكل هذا المنحى جانبا مهما من جواب اهتماماته العلمية، التي تفسر غيرته على بلده، واحتفاءه بتراث أبناء منطقته، وحرصه على حرمة العلم وأهله، كما تفسر اعتزازه بنسبه الشريف. وإذا كانت المحاولات التي رامت التأريخ للمنطقة كثيرة جدا، (تنوعت بين التأريخ العام، والتأريخ الاجتماعي، والتأريخ العلمي، وغيرها، وكلها عمدت إلى تجميع المعلومات التاريخية والمعطيات العلمية والمؤشرات الاجتماعية من بطون الكتب والوثائق، ومن أفواه الرجال، وتصنيفها ودراستها وتحليلها). فإن الملاحظ أن التوجه الذي سار عليه في ذلك قد سبقه إليه كثيرون قبله، ولحقه في حذو حذوه آخرون بعده، إذ أن المسار الذي اختاره، والمنهج الذي ارتضاه في التأريخ يشبه إلى حد كبير بعض المساهمات أذكر من أهمها وأشهرها مما يرتبط بأعلام المنطقة: "طبقات الكتانيين طريقة " للشيخ محمد الباقر الكتاني، ذكر فيه جملة من أهالي القصر الكبير الكتانيين طريقة ومحبة، والكتاب مخطوط في ثمان مجلدات، ومعه أنه تعرض لآفة الحرق إلا أن الصفحات التي خصها لمريدي الطريقة الكتانية من القصر الكبير وأصيلة ودكالة والصويرة وبعض المدن المغربية الأخرى قد سلمت، ولعل فيما ذكره الأستاذ الأمين الروسي الحسني من رسائل بعث بها أعلام من الأسرة الكتانية إلى سيدي الحاج المفضل الروسي ما يفيد في تتبع انتشار الطريقة الكتانية بالقصر الكبير خاصة (لمحات تاريخية من الذاكرة الجماعية:63). صنيع الأستاذ عبد السلام القيسي في كتابه (مدينة القصر الكبير: تاريخ ومجتمع ووثائق: 23) وحديثه عن أعلام المدينة وعائلاتها ومساجدها وزواياها وكتاتيبها وغير ذلك. نظم في أولياء القصر الكبير لشاعر مجهول، وكذا القصيدة التي تنسب للسيد عبد القادر الطود في أولياء وصالحي مدينة القصر الكبير. ما عرف من أمر بعض الأعلام القصريين وولعهم بتوثيق وفيات علماء وأعيان المدينة، أذكر منهم الشيخ سيدي أحمد السوسي رحمه الله، والأستاذ الباحث محمد أخريف حفظه الله، فقد ذكر الأستاذ محمد العربي العسري نقلا عن الأستاذ عبد السلام القيسي أن بحوزة هذا الأخير تراجم لبعض رجالات القصر الكبير من علماء ومتصوفة وغيرهم، كتبها الأستاذ السوسي ومكنه منها لكل غاية مفيدة (أقلام وأعلام: 26، وانظر حديثه عن الحركة العلمية بالقصر الكبير وكيف استأنفت سيرها بعد ركود أربعة قرون، مجلة الجذوة، العدد المزدوج 1و2، ص: 7، والعدد 3، ص: 21). في حين يذكر للأستاذ محمد أخريف أنه قدم تراجم لأكثر من مائة ونيف من أولياء القصر الكبير؟؟؟؟ وليس من شك في أن من شأن هذه الجهود وغيرها أن تسعف الباحثين في إمدادهم بالمعطيات الأولية لتشييد أبحاثهم والتأريخ للحركة العلمية في المنطقة، وبالتالي المساهمة في التأريخ العام لها، باعتبار تأثير الحركة العلمية إلى جانب حركة الجهاد في تحديد المعالم والأحداث التاريخية في المنطقة، فمنطقة الهبط رائدة في مجال حركة العلم والعلماء، والتربية والسلوك، وفي مجال التصدي للحملات الصليبية البغيضة ومقاومة الاستعمار، ولهذا كانت محط عناية الدوائر الاستخبراتية الفرنسية، التي لفتت الانتباه إلى معالم المجتمع الهبطي من خلال كتابات الفرنسيين بعدما تركز اهتمامهم على المنطقة طوال القرن التاسع عشر استعدادا لبسط النفوذ الاستعماري عليها (معلمة المغرب ؟؟)، وذلك بفضل جهود ميشو بيلير الذي قضى عشر سنوات بالقصر الكبير منقبا عن الذخائر، وراصدا للظواهر في الحواضر والمداشر، حتى لقبه أهل القصر الكبير بالحاج عبد السلام بيلير، وغدت كتاباته و كتابات فريقه عن المنطقة مراجع شاملة لا يستغني عنها كل من يهتم بالتأريخ للمغرب (دعوة الحق، السنة 15، العدد 2، ص: 138) عموما ويعنى برصد تجليات الحركة العلمية سواء تعلق الأمر بالأعلام أو المعالم، في المدن والقرى، والقبائل والطوائف على حد سواء... وفي العصر الحديث توالت الاهتمامات بالمنطقة، وتعددت المحاولات التي تروم التأريخ للحركة العلمية من خلال التعريف بالعلماء (يجب في هذا المقام التنويه بالجهد الذي بذله الأستاذ محمد العربي العسري للتعريف بثلة طيبة من مثقفي المدينة من خلال " أقلام وأعلام من القصر الكبير في العصر الحديث " ) ، وساعد على ذلك تواتر المعلومات وتوارثها، وإمكانية تجميع المعطيات التاريخية والتطورات المجتمعية بفعل طبيعة التجمعات البشرية المحدودة نسبيا من حيث العدد والمكان والزمان والآثار. في هذه الأجواء يجب أن ننظر إلى صنيع سيدي عبد الهادي العسري من خلال ما كتبه حول الأعلام والمعالم الدينية بالقصر الكبير، والعرائش، وبني جرفط، وقبيلة آل سريف. * جزء من مداخلة الاستاذ نور الدين لحلو في ندوة علمية حول " الحركة العلمية بمنطقة الهبط " ، أقامها المجلس العلمي بالعرائش برحاب الكلية المتعددة التخصصات بالعرائش .