/ إلى الروح الطاهرة لعبد السلام العربوني رحمة الله عليه / كانت صلاة العصر موعد التقاء المجموعة. وفي زاوية منعزلة محاذية للمسجد شرعوا في ترتيب آخر إجراءات السفر إلى المدينة الجبلية المعلقة كنقود عنب أبيض. نحن على وشك الانطلاق، والسفر ليس بالضرورة قطعة عذاب ، لذا أسرعوا قليلا فالوجهة مغرية والزيارة ترصدها ملائكة السماء. هكذا عبر أحدهم وكأنما يطرد عنهم الملل أو ما بقي من ارتخاء ما بعد القيلولة. وأعقبه آخر يحثهم ويبين أن القرار كان جماعيا ولم يذر أي مجال للتراجع أو التباطؤ. أيها الأصدقاء الأعزاء لم يبق لنا إلا ما يكفي من الوقت ،أرجو ألا تدركنا صلاة المغرب إلا ونحن بين أحضان المدينة الجبلية ، فأنتم على موعد مع الذي ينتظركم بشغف كبير ، كل حين يهاتفني يسألني عن وقت انطلاقتكم المباركة . وبحماسة مفعمة بالدفء لا تقل عن الثاني وبنبرة صوت قوية قال أوسطهم : كأني بكم زاهدون في فضل الزيارة أو كأنما اثَاقلتم إلى الارض أكثر من اللازم . هيا اركبوا فها هي السيارة الأولى أمامكم في انتظار أن تصل الثانية. وعلى الجانب الآخر يلفت الانتباه حوار ثان يدور هادئا وجديا بين المصطفى وعبد السلام ،ظنه الأصدقاء موضوع قضية مشتركة بينهما كباقي القضايا التي لا تدع لهما مجالا للافتراق ، علاوة على الجوار الذي يجعلهما في التحام مستمر كقطعة حديد تأبي التفتيت والانشطار. تبين من بعد برهة أن مصطفى يحاول أن يقنع صديقه بمرافقة المجموعة في سفرها : لا يحلو سفر من دون عبد السلام ، ولا أحد يماثلك في إنجاز بعض المهمات الصعبة ،سنبقى مدينين لك أخي . قاطعه عبد السلام بابتسامة خاطفة وهو يتبرم من هذا الإطراء الذي دأب عليه صديقه المصطفى : ولكن أنت أعلم من غيرك بوضعي الصحي ، فألم الرأس لم يهدأ وللسفر حظ آخر من ذلك الألم …ارجوك أخي المصطفى . تمّلك مصطفى شعور هو مزيج من الحسرة على وضع صديقه ومن الفرحة في قبول مشاركة عبد السلام للأصدقاء ولذلك باغثه واضعا حدا لتبريراته : اركب معنا ! الله يشفيك ، خذ هذا الدواء فهو أنسب لحالتك ، وامضوا قدما أيها الإخوة ولا تلتفتوا لمتردد أو متباطئ . عبد السلام خجول ومطاوع ، لا يرد طلبا لأصدقائه مهما كان .استجاب للمصطفى والتمس برفق أن يكون في السيارة صحبة كل من المصطفى نفسه والشريف ، فهو يرتاح لحديثهما ويأنس بهما كثيرا. انطلق العشرة على متن سيارتين ينشدون لحن زيارة أخوية وترانيم ذكريات لا تنسى بينهم وبين صديقهم الحسن . لقد شاءت الأقدار أن يغادر مدينتهم بعد أن أمضى فيها أكثر من عقدين من الزمن يمارس رسالة تعليم الكلمات والأشياء ومدلولاتها وفن العبارة والإشارة لأبناء المدينة المنسية بين النهر والبحر. الحسن خمسيني أشقر الأصل، ابيضت لحيته وغزا الشيب كل شعر رأسه المسترسل ، تقاسيم وجهه تجمع بين الهيبة والوداعة ، وكل تفاصيله توحي بأصول أندلسية كما يدل على ذلك نسبه فهو ينحدر من مملكة قشتالة ، موطن معركة الأرك . لم يكن الاتصال الهاتفي يتوقف بين الحسن والزوار على امتداد أكثر من ساعتين وهم في الطريق إليه. فقد كان ينتظر وصولهم كما لو غابوا عنه زمنا طويلا ، خصوصا وأنه لم يكن يتوقع هذا الانتقال المفاجئ إلى مسقط رأسه ولم يكن قد استعد بعد لافتراق لا يعلم شيئا عما يخفيه قدره له : السلام عليكم ، آلوا ، أين وصلتم بالتحديد ؟ هل الطريق مكتظ ؟ حاولوا أن تبقى السيارتان متقاربتين ، لستم في عجلة من أمركم ، لا تسرعوا . رغم جدية أسئلته وحزم توجيهاته فقد كان أحيانا يواجه بأجوبة وردود لا تخلو من هزل ومعاريض لطيفة : لا تخف ، قادمون جائعون وشعارنا هل من مزيد ؟ كل التعب يهون ويتبدد في حضرة الحسن الأديب الكريم ،تهمنا رؤيتك ونشرف باستضافتك لنا أيها الشهم… وصل الوفد إلى المنزل وركنت السيارتان على ربوة عالية تطل من بعيد على سفوح من جبال الريف الأبية…توالى العناق وتعالت الصيحات والقهقهات كما لو كانوا أطفالا صغارا وجدوا ضالتهم بعد أن تحرروا من قيود درس مضن وجهيد صحبة مدرس عنيد . رحب بهم داخل بيته ، كان كل شيء في هذا البيت يرمز للفن والجمال ،فحتى التفاصيل الصغيرة تلتحم لإتمام مشاهد جمالية رتبها صاحب البيت بعناية فائقة وبذوق فني أصيل منحدر فيما يبدو من حضارة الأندلس المجيدة …كل مرة يقع بصرك على قطعة فنية أو تشكيل زخرفي يوقظ هواجس الإبداع ولو كانت ميتة فيك منذ أمد بعيد. أخي الحسن لقد أوتيت من ذوق ليوناردو دافينتشي ومهارات مايكل أنجلو، يبدو أن الرجوع إلى الأصل يذكي روح الإبداع ويفجر من جديد طاقة التخيُل قاطع الحسن صديقه أحمد بلهجة صوت مضطرب كمن يسعى أن يدفع عنه تهمة هو منها براء: بيني وبين الفن والإبداع بعد المشرقين والفن أخي أحمد كما تعلم هبة من السماء ونور يقذفه الله في قلب من يشاء …أنَى لي أن أبدع وقد أصابني الوهن وكانت ملكاتي عاقرة… ضجَ بهو المنزل بالأصوات وعجَ فلا تكاد تسمع إلا ضحكا وأصواتا تعبر عن فرحة اللقاء ، ولم تخب تلك الأصوات إلا بحضور مائدة الطعام . بعد الفراغ من مأدبة المساء خرج الجميع من جديد قبالة المنزل لمراقبة غروب شمس أحد أيام شهر ماي . كان قرص الشمس يبدو هنالك منتصبا على قمة الجبل الخلفي من سلسلة جبال الريف الراسخات تحرس كبرياء تلك القرى ويشهد على مجدها وجهادها ضد أطماع الغزاة ومكر الخونة… وفي التفاتة تلقائية من السيد نور لا تميز فيها بين جد وهزل هتف مخاطبا الحسن : إنك لذو حظ وافر السيد الحسن ،كل يوم أنت مع موعد مع غروب الشمس ، تجدد أنفاسك بغروبها ، ألم يقل الشاعر المجدد أبو تمام " اغترب تتجدد ! " قد تخلف أنت موعد شهود أفولها لكنها لا تخلف موعدا ولا تنقض عهدا كما دأب على ذلك من يمارس السياسة في بلاد التخلف والإحباط . رد عليه بابتسامة باهتة وخاطفة لم تترك أي متسع لتعقيب السيد نور أو لعفويته البريئة وصاح فيهم بما يشبه التعليمات : لقد أذن لصلاة المغرب ، هيا بنا نلتمس أنوار قناديل الصلاة ،هناك خلف آخر زقاق يقبع مسجد حينا ، فرغم ضيقه وتواضع معماره تهوي إليه بشغف أفئدة جل سكان الحي .في الصيف يكون بردا وسلاما وفي الشتاء دفئا وأنسا. عادوا إلى البيت حيث قضوا ليلة نهاية أسبوع مشهود ،فقد ملأوا المكان ضحكا وهزلا وتجاوزوا في ذلك منتصف الليل يغتمون فرصة قلَما سنحت لهم وقد لا يجود بها قابل الأيام . فقد بلغ جو البهجة مداه و انسابوا تدريجيا في موجة عارمة من الفرح قد يعجب منها الأطفال الأبرياء الغارقون في لهوهم غير الآبهين بحنق السياسيين ونرجسية الشعراء ولا نكد الأثرياء . من عمق أجواء البهجة انسل صوت أحمد هامسا بعد زفير قوي يخيل إليك أنه نسي أمرا ذا بال أو تذكر موعدا حاسما : اللهم عرفنا نعمك بدوامها …تستحقون سعادة أبدية هنالك ما وراء سجف الغيب أيها الأبرار . الحياة تومض وتخبو ، تهب وتسلب تبتسم وتضجر، ورحم الله والدتي إذ كانت تدق أجراس التنبيه في مثل هذه اللحظات وتوصينا بالاعتدال والتوسط حتى في الضحك . أخلد الجميع للنوم بعد عشاء متأخر، ومع مطلع الفجر توالت وتعالت رنات الهواتف المحمولة بشكل لم يجد أحدهم معه بدا من الاستجابة للنداء الخالد. بعد أداء الصلاة في مسجد الحي خرجوا يلتمسون نصيبا من هواء فجر مفعم بنسمات ندية تزخر بشتى أنفاس الطبيعة الزكية .جابوا أزقة كثيرة صعودا ونزولا عبر مسالك ضيقة ملتوية تغري برياضة المشي لذوي الأعمار المناسبة. الأزقة هادئة صامتة كأنما تنصت لتراتيل الذكر الحكيم ،تبعث في السائحين حب الاستطلاع والرغبة في كشف الجمال المخبوء بين أحضان هذه المساكن التي تراصت بانتظام كحبات عقد في قلادة أميرة الأندلس المفقود. كانت الجولة قد أحوجتهم لقسط من الراحة ، لذا فقد آوى كل واحد إلى مكانه يلتمس الإصغاء إلى ما تحدثه به نفسه من برامجها والحسن يرحب بهم من جديد دون أن يمل : أيها الكرام مقامكم يلزمنا ويسعدنا ،ارتاحوا قليلا ، من كان له منكم ورد فليؤد الذي عليه في انتظار إعداد وجبة الفطور، محبتي لكم خالصة وتفوق بكثير قدرتي على التعبير عنها . شكلت جلسة الإفطار فرصة لإثارة حوارات حول قضايا كثيرة من هموم الأمة …الديموقراطية والغرب وتطبيق الشريعة والمرأة والشباب والتنمية وأزمة الفكر والقيم وفلسطين والتبعية وأنظمة الحكم في البلاد العربية والانتخابات …وقد مزج الأصدقاء في معالجة المواضيع بين أساليب الجد والهزل ، يختلفون ويتوافقون ، يهمسون ويجهرون. كما كانت هذه الجلسة مناسبة لعرض حصيلة الجولة الصباحية ، والمصطفى أصغرهم عمرا قد ملأ بهو البيت قولا، يعلق ويستدرك ويذكر بنباهة تعبر عنها ملامح وجهه الضيق وبريق عينيه المشع .التفت نحو عبد السلام يستثيره ويبحث في أجوبته المقتضبة عن مؤشرات جديدة لحالته الصحية: أكيد أعجبك الأمر، ونلت نصيبك الوافر من الضحك ، إنك أنت أكثر الإخوة حاجة لمثل هذه الرحلة الميمونة . الحمد لله ، حقا جاءت على قدر معلوم وهبات الله ومنحه تلاحقنا تترى رغم تقصيرنا… المصطفى أقرب الناس إلى عبد السلام وأعرفهم به ، إقامتهما في عمارة واحد جعلتهما كذات واحدة . ولئن كان الأول موظفا في وزارة المالية والثاني مهندسا في جماعة ترابية حضرية فإن اختياراتهما وتوجهاتهما التربوية والفكرية والاجتماعية منسجمة متكاملة… كان عبد السلام موضع رعاية خاصة من لدن أصدقائه وكل منهم يعمل على شاكلته ليخفف عنه انشغاله مع نفسه وألم رأسه . هذا عبد الله يحملق بدقة مجهرية في وجه صديقه عبد السلام فتبدو له على ملامحه بقايا من أثر تعب دفين رغم حرص عبد السلام على تقاسم أصدقائه بهجة اللحظة والظهور بمظهر غير المكترث بما يحس به… يبدو أن الألم قد خفَ فأنت الآن أحسن حالا وأبهى ما تكون …الرياضيون الكبار يستميتون ولا يستكينون ، أليس كذلك السيد عبد السلام ؟ ولأن عبد السلام يغلبه الحياء وفي ذات الوقت لا يأبه بمن يثني عليه أو يحمده بما ليس فيه ، لذلك فهو يحرص أن يتخلص من الإطراء بأقل التعابير: جزاك الله خيرا سيدي عبد الله …العفو…أنتم أساتذتنا منكم نتعلم ومن محاسنكم نقتبس . إنه يوم الأحد ، نهاية أسبوع وغدا بداية آخر، وكل منهم يفكر في العودة مبكرا وأفراد أسرة التعليم منهم خاصة . فهم مع آخر منعطف من الموسم الدراسي والإعدادات جارية على قدم وساق تأمينا لحصيلة الموسم الدراسي … أحمد رجل خمسيني يحظى باحترام مقدر بين الزمرة المرافقة وهو يدرك بطء حركتهم ،استغل لحظة صمت عارضة فكسرها بصوته الخافت المجهد : من فضلكم لم يبق لنا من الوقت إلا ما يكفي للعودة ولعلكم تتوقفون في الطريق أخذا لقسط من الراحة ، فهيا ليأخذ كل منا مكانه في السيارة ولنمض قدما ولا نلتفت. انطلق الموكب يقوده السيد الحسن بسيارته البيضاء حتى وصل إلى مدخل المدينة من الجهة الجنوبية حيث كان التوقف قليلا لتوديع الحسن ، سلم وضم كل واحد منهم ودموع الفراق تجري في عينيه …كلهم يعلمون صدق عاطفة الحسن وعمق حرارتها ، كلَما ضم أحدهم سمع له صوت أزيز خافت وهو يردد : يصعب علي فراقكم ، لعلي لا أراكم لاحقا ، لا عدمتكم ، ولا مسّني وإياكم سوء أو مكروه أيها الأفاضل الأبرار…سلام انطلقت السيارتان عائدتين إلى المدينة الموعودة ، في سرعة معتدلة . عبر المسار الطرقي لم تتوقف الاتصالات الهاتفية بين من في السيارتين ،كان عبد الله قد تولى قيادة سيارته ، هو رجل من جيل ما بعيد الاستقلال ،حسن السمت بطول يميزه عن الباقي ، يرتدي الهندام العصري ويعتني به كلما كان في مهمة ذات بال وبنفس القدر يعتني بسيارته فلا يقبل أن تتسخ ولا أن تخدش . التفت إلى من معه في السيارة استجابة لنداء إدمانه على قهوة ما بعد الفطور وصاح : نحتاج لشرب القهوة ، المنبهات تنفع في السياقة ، لسنا في عجلة من أمرنا… ومن المقعد الخلفي انبرى له الشريف بلهجة تجمع بين الجد في القصد والهزل في الأسلوب : حقا سيدي عبد الله ، لا ينازعك في هذا الاقتراح إلا من سفه نفسه ، أضف إلى ذلك فإن من يملك القيادة يملك القرار…نحن من جيل سمعنا وأطعنا…ولا نكرر كلاما إلا إذا كان تصلية وتسليما على صاحب الرسالة المبعوث منقذا من الضلال وهاديا لذي العزة والجلال . فرد عليه عبد الله في رفق وأناة : هكذا عهدناك أيها الشريف ، متوثب ومبادر ، تقدم ولا تحجم ، توافق وتصادق… وأما عبد السلام الذي كان خلف السائق فقد كان يكتفي بالإصغاء موزعا نظراته بين وجوه إخوانه يتفرس ملامحهم ويزكي كلامهم بالابتسامة وحركة رأسه . هم الآن على بعد حوالي ساعة من وجهتهم المقصودة حيث طفقت أمطار خيفة تداعب الزجاجة الأمامية للسيارة والسائق يطردها في رفق بماسح الزجاج الأمامي …وفي لحظة غمرها صمت مفاجئ انحرفت السيارة ذات اليمين في منحدر جارف …ساد ذعر وتعالت صيحات : يا إلهي ما الذي حصل ؟ انتظروا خيرا إن شاء الله ، سأحوِل السيارة في الاتجاه المقابل . يبدو أن التحكم في قيادة السيارة لم يعد ممكنا حيث انحرفت مندفعة بقوة في الاتجاه الذي ارتضاه سائقها وارتطمت على أخدود حافة الطريق كما لو سقطت من مرتفع محدثة دويا قد يصمُّ الأذن . تدحرجت السيارة في دوران سريع حول نفسها وساد داخلها ظلام دامس وانفجرت الحناجر تستغيث الخالق : لا إله إلا الله محمد رسول الله الله أكبر …أنت اللطيف وأنت المجير… استقرت السيارة على بعد ثلاثين مترا من الإسفلت وسط منحدر حقل أجرد لا ترى فيه عشبا ولا حتى هشيما ، ليجد الخمسة أنفسهم داخل هيكل حديدي كل شيء في تحطم .إنهم أسرى لحظة غير مسبوقة ولا متوقعة ساقها لهم قدرهم هذا . يحاولون فتح الأبواب المحطمة ليعرفوا ما أسفر عنه هذا القضاء الموعود ، أخذتهم دهشة عاصفة ،لا يعلم أحدهم ما الذي أصابه ولا الذي أصاب من معه . انهالت على ذهن أحمد متوالية من أسئلة قاسية قساوة الجلدات التي نالت من ظهر ابن حنبل : يا إلهي : كيف لي أن أرجع فاقدا أحد أصدقائي …لا لا …سأتعذب إن أنا رأيت أحدهم جريحا أو معطوبا هل من اللازم أن تتبدَد فرحة هؤلاء سريعا وتبتلع نشوتهم لحظة أقل من طرفة عين ؟! استطاع أحمد أن يفتح باب مقعده والتفت إليهم يحثهم على الخروج بصوت جريح محشرج : السي عبد الله ،السي مصطفى ، الشريف السي عبد السلام افتحوا الأبواب واخرجوا… فرد عليه الشريف : إننا نحاول ..الأمر صعب ، نسأل الله العون … وبعد محاولات جهيدة خرج الأربعة يتنسمون عبق الحياة ونفسا من أمل النجاة ..إلا عبد السلام بقي مستقرا في مقعده فحثه الشريف على الخروج ظانا أن العائق هو الصدمة ووقعها النفسي على صديقهم ، لكن عبد السلام أجابهم بما لم يكن يخطر على بال أحد منهم : أنا باراليزي ، لقد أصبت بشلل . تلقوا جوابه وكان أحدا أفرغ فيهم صدورهم أو رؤوسهم كل ما في ماسورة رشاش من رصاص . لم يتصور أحد هذه النهاية المأساوية لعبد السلام ، وهم يعلمون مكانته وإمكانياته…مهندس خبير ورياضي وهبه الله بسطة جسمية تميزه عن جموع الرياضيين ، بطول سامق يضاهي عزة النجوم…إن لم يكن عبد السلام مهندسا شغلته متاعب التخطيط وتتبع سير أشغال المشاريع فهو مهيأ أصلا ليكون بطلا كبيرا يدافع عن القيم الرياضية النبيلة… يا للهول العظيم و يا لنار جهنم التي ينبغي أن تحرق ما جره علينا التقدم التقني والصناعي من ويلات وصدمات …لقد تيقن الجميع أن عبد السلام فعلا كما وصف نفسه… ما السر في أن تنتهي زيارة ترصدها ملائكة الرب بهذا الشكل، لا أظن…فرحمة الله وسعت كونه وتدبيره لمفردات الكون جار على وجه يحقق مصالح العباد في الدنيا والأخرى كما تعلمنا من علماء المقاصد… مثل هذه الخواطر جالت في خلد هؤلاء إزاء ما تراه أعينهم وتخفق به قلوبهم من الفزع والرجاء . ها هو عبد الله يدنو نحو أحمد يمسح براحة كفه الدم السائل الدافئ الذي يسيل من رأسه ويجري على وجهه : أحمد ما الذي حصل ؟ لم نحن هنا ؟ حادثة سير… أدرك أحمد أن صديقه عبد الله واقع تحت عنف الصدمة بفعل ارتطام سقف السيارة بالأرض وأصابة رأسه ، والدم لم يفتر بعد …فازدادت خشيته وحسرته وانتابته هواجس ووساوس لعينة لما داهمه مرة أخرى عبد الله بسؤال آخر : أي حادثة ؟ متى وقعت وأين ؟ هل نحن معنيون بالحادثة ؟ وصلت سيارة الإسعاف لنقل المصابين إلى أقرب مستشفى، مصطفى وعبد الله وعبد السلام والشريف. أكدت المصالح الطبية أن الأمر يتعلق بشلل شبه كلي إثر إصابة عبد السلام على مستوى العمود الفقري ، وأما أثر الرضح الذي تعرض له رأس عبد الله فليس بليغا ولا يشكل خطورة حقيقية . في المستشفى الذي نقل إليه المصاب كان الشغل الشاغل هو ما آل إليه الوضع الصحي لصديقهم خاصة بعد أن وصل الأصدقاء والعوائل .وما هي إلا لحظات قليلة حتى رجع السيد عبد الحميد أحد مرافقي المجموعة في السيارة الثانية وموظف بوزارة الصحة وابن هذه المدينة التي يحتضن مستشفاها عبد السلام ، رجع من إدارة المستشفى منكسرا حزينا يستشير معهم : أيها الإخوة الإدارة قررت نقل أخينا عبد السلام على الفور إلى أحد مستشفيات العاصمة . يا إلهي الأمر جلل فرحلة العذاب بين المستشفيات أكبر من أن تحتمل ، مستشفيات يحاصرك فيها لهيب البيروقراطية وتلفح وجهك فيها نظرات طامعة عابثة… ليس لنا إلا أن نصبر فاختيارات القضاء لا ترد ولا تتبدل ومنهج السماء كله حكمة بالغة ورحمة واسعة. لم تكن رحلة المصاب بين المستشفيات والأطباء إلا قطعة من عذاب ملتهبة . عبد السلام جثة هامدة في كرسي متحرك لا يقوى على رفع سبابته ، يشتهي أن يسجد سجدة واحدة لله لكن يتعذر عليه ذلك ، ولم تبق الحياة تدب سوى في جوارح رأسه ، يسمع ويرى ويتكلم ويرتل الآيات ويسترجع كل حين . طاف به أهله وأقاربه وأصدقاؤه على كثير من الأطباء والمستشفيات وسط البلاد وغربها ليستقر به الوضع بعد شهور عدة بالعاصمة الإسماعيلية بين أحضان زوجته وابنيه الصغيرين. إنه في رخصة مرض طويلة المدى. لم تكن لتتوقف زيارات أصدقائه له . كانوا أحيانا يعقدون جلسة في بيته يتدارسون الآيات ويلتمسون الهدي والعبر من سيرة صاحب الرسالة العالمية ، يشارك فيها عبد السلام برباطة جأش ويقين وأحيانا بدموع حارقة يبكي لها الجميع : شكر الله لكم دأبكم وزيارتكم أيها الأحباب ، تعلمون أكثر مني ما قد أقوله… أنتم اساتذة ومثقفون وإنما أذكر نفسي وإياكم … ولا أخفيكم شيئا فمع كوني راض بقضاء الله وقدره فإنني أشتاق لسجدة على جبهتي وأتوق لها ، ما أجمل السجود ! وما أروع أن تجعل أعلاك في أدناك لترتقي في مدارج السالكين إلى رب العالمين فتطرق باب القرب " اسجد واقترب"…اللهم إنك تعلم أن لا حول لي ولا طول ، ولولا عجزي لسجدت لك سجدة ما رفعت رأسي منها إلا أن تشاء يا رب العالمين . أسأله تعالى أن يلطف بي ويفرغ علي صبرا ، أما أنتم فدامت محبتكم ورعاكم الله وحفظكم من كل سوء أو مكروه. كان كلام عبد السلام من مقعده يحدث ما يشبه حالة جمود في حركة من حوله ، يقطع أنفاسهم في ذهول حتى يخيل لهم أثناء كلامه أن الكون مطالب قسرا أن يصغي لخطاب هذا الفارس المهيب . لم يكن ليتولى الكلام بعده غير الشريف الذي أوتي ملكة الوعظ و منطق الإقناع الروحي ما به يرتاح عبد السلام : أخي عبد السلام أنت من أهل البصائر، ما علمنا عنك سوى أنك تعشق الفجر والسجادة وتحرص على الإسباغ والإبكار .دوما في جلسات الهدي والنور، ترتل وترتقي تسجد وتقترب استدرارا لألطاف التجلي والغفران…أخي عبد السلام الفضلاء عند الله لا يحزنون تنتظرهم مقاعد الصدق ومنابر النور… مرت أكثر من أربع سنوات ونصف السنة وعبد السلام حبيس مقعده يستلهم الصبر من نماذج الاقتداء ويلقن الدروس لمن حوله من الزائرين… حتى إذا كان يوم من أيام فصل الشتاء القارسة إذ بأحمد يستفيق على رنة هاتفه المحمول فزعا لما رأى اسم صديقه مصطفى يتراقص على شاشة هاتفه المحمول: الله ! هذا مصطفى يتصل في وقت غير معهود …خيرا إن شاء الله السلام عليكم السيد أحمد خفوت صوته وهزال نبرته أوحى لأحمد بمكروه أو…وربما العكس … وعليكم السلام…خيرا إن شاء الله السي عبد السلام في ذمة الله لا إله إلا الله محمد رسول الله…إن إلى ربك الرجعى…غادرنا وكلنا له شوق وتوق …وإذن ليستعدَ كل الإخوة للسفر وحضور مراسيم جنازة الفقيد .وليؤجل الإخوة كل برامجهم حتى حين ! . نزل الخبر على أحمد كما تهوي المطرقة على قطعة حديد صماء لشقها ، و أعاد هذا النعي إلى ذاكرته حدث وفاة أحد أحب الناس إليه الذي لقي ربه جراء حادثة سير مروعة أشبه ما تكون بحادثة عبد السلام …أودت بحياة مهندس ومفتش تربوي. تواردت على ذهن أحمد عناصر مقارنة بين عبد السلام وعبد القادر صديق الطفولة والشباب والدراسة وزميله في المهنة ، وراح يقارن في حوار داخلي حاد يكاد يمزق أوصال نفسيته الهشة : يا إلهي عبد السلام ومن قبل عبد القادر ! أليس السلام هو القادر؟! وبعدهما …؟؟ لا أدري فابن خلدون عالم الاجتماع البشري قرر أن الماضي أشبه ما يكون بالآتي من الماء بالماء ،سبحان المعبود ! أوتي كل منهما حسن سمت وخلق وبسطة جسمية …رحلا في عنفوان كمالهما …وإذا كانت والدة عبد السلام قد توفيت وهو نزيل المستشفى فإن والدي عبد القادر ما لبثا أن التحقا به من فرط الكمد والغم بسبب الفراق الصعب… شيعوا الجنازة هنالك وواروا عبد السلام التراب وأحيوا ليلة ذكر بين أحضان ذوي المرحوم ومحبيه وعادوا يتهامسون ، ويسترجعون ، ويدعون ويرون ذكريات مشتركة مع الفقيد المرحوم .