لا زالت ذاكرة الطفل تحتفظ بتفاصيل أول يوم صامه في رمضان. رافق، في آخر يوم من شعبان، من صعد قبل المغرب إلى السطح من أفراد عائلته والجيران. تباروا كلهم في رؤية الهلال. خيل إليه أنه أول من شاهد خيطا رفيعا أبيض اللون في سماء زرقاء صافية، فنادى بأعلى صوته مشيرا إلى الأفق البعيد : ” راه.. راه..راه…”. تعالت زغاريد النسوة فرحا بمقدم رمضان. دقت طلقات المدفع في سيدي بالعباس والتأم “الغياط” والطبال و”النفار”. بدت البهجة على الوجوه وتبادل الناس التهاني. في ليلة السادس والعشرين من رمضان، وهو في عامه التاسع، نام الطفل في بيت جدته، حيث رأى النور، بحي اسكرينيا. أيقظته جدته لتناول وجبة السحور. ألزمته، طيلة ذلك اليوم بارتداء جلباب صوفي خفيف، أبيض، على منصورية بيضاء، وبلغة صفراء، فاقع لونها، وطاقية بيضاء، جلبتها له، خصيصا، عند قيامها بحج البيت العتيق. كانت حرارة ذلك النهار مفرطة، فلازم جدته طيلة اليوم، يساعدها في أعمالها المنزلية ويلبي كل طلباتها، إلى أن حل أوان العصر، حيث أنهكه الجوع والعطش. كلفته جدته حينئذ بشراء خبزتين “بويو” من “فران خواكين”، ولتر من الزيت من دكان السي حسن السوسي. آثر أن يبدأ بشراء الخبزتين، ليغتنم فرصة القيلولة، حيث لا يكون خواكين موجودا في مخبزته، لأن ذلك الرجل الثخين، كان، كلما رآه، يحدجه بنظرات شزراء مقيتة، ترعبه. على الرغم من ذلك، كان خبزه لذيذا، يحظى بسمعة طيبة لدى ساكنة المدينة. وهو في طريقه إلى دكان السي حسن، بجوار مدرسة عبد القادر السدراوي ( الأولى)، وبيده قارورة زجاجية، لم يتفطن حتى ارتشف سهوا بقية الزيت التي تفضل عادة أسفل القارورة، وأضاف إلى ذلك قطعة صغيرة، ساخنة من “البويو” فأحس لذلك بارتياح كبير، خاصة عندما لاحظ أن عين السي حسن كانت ترقبه بحنان وابتسامة. لم يعتبر نفسه مفطرا لأنه لم يتعمد ذلك. عندما أخبر جدته بهذه الواقعة، قالت له مطمئنة: ” شوف أوليدي، داك الشي اللي كليتي أو شربتي، هدية من عند الله، هداك من طعام الجنة”، وشجعته بذلك على مواصلة الصيام. عندما حان موعد أذان المغرب، دعته جدته للجلوس على حافة بئر موجود في ركن الدار، يستعمل ماؤه في الكنس والاستحمام وغسل الأواني، وقدمت له التمر والحليب، وهي تطلق زغرودة البهجة والسرور، فخورة به، داعية له بالتوفيق والتمكين، راجية من الله أن يصبح خير خليفة لأبيه، الذي توفي في ريعان الشباب. استمتع الطفل اليتيم، كغيره من الأطفال، أيما استمتاع بأيام وليالي رمضان، حيث مارس حريته في اللعب، والذهاب إلى الحلقة بعد العصر، للفرجة والاستمتاع بحكايات الرواة التاريخية والملحمية والهزلية، ولسماع الأغاني والأهازيج الشعبية، وغير ذلك مما كان يعرض في الحلقة من فرجة وإمتاع. كان ينقل ما سمعه وشاهده في الحلقة إلى البيت، فيقصه ويشخصه أمام نظرات نساء أسرته، اللائي لم تكن لهن آنذاك فرصة سانحة لارتياد فضاء الحلقة. وكان يخلق بذلك جوا مرحا يدخل البهجة والسرور على أمه وجدته وخالاته وعماته… قبل أذان المغرب بقليل ينطلق الطفل مع أصدقائه إلى فضاء سيدي بلعباس، حيث يوجد مدفع، تعلن طلقاته عن أوقات المغرب والسحور. كان الأطفال يدحرجون أقراصا سلكية جوفاء من صنعهم، يستخرجونها من العجلات المطاطية المتلاشية بعد حرقها، ويصطفون في طابور كبير، كمتسابقي الدراجات، في انتظار طلقة المدفع. ما أن يطلق المدفع طلقته الأولى حتى ينطلق الأطفال إلى بيوتهم في لهفة إلى الحريرة والتمر والشباكية والزميتة وغير ذلك من المأكولات الرمضانية. وبعد العشاء والصلاة، يجتمع الأطفال في أركان الحي للسمر وممارسة هواياتهم في اللعب والحكي، إلى أن يأخذ منهم التعب مأخذه فيعودون إلى بيوتهم ليستعدوا لليوم الموالي.