في منتصف شهر أبريل 2020 حيث كانت الصين ترزح تحت نير جائحة كوفيد19، كتبت قصائد هايكو تتحدث عن أوجاع مختلفة يعرفها العالم. وهي أوجاع متداخلة ومترابطة تشير بالواضح إلى أهم الأسباب الكامنة خلف ما يعيشه العالم اليوم من مخاطر حقيقية أضحت تهدد البشرية جمعاء.. بدأ الهايكو الأول بوجع الجائحة في الصين ،ثم قدم الثاني وجع التغير المناخي الذي حرمنا بهجة الربيع وأصبح ينذر بتحول فصولنا المتنوعة إلى ما يشبه فصلا واحدا طويلا وحزينا. وجاء الهايكو الثالث للإشارة إلى وجع الإرهاب المصطنع والذي دمر دولا وشعوبا (سوريا نموذجا صادما).. وانتهت تلك القصائد بوجع الآلة الحربية وجشع الرأسمالية التي لم تدخر جهدا في صناعة مآسي الشعوب وإرجاعها قرونا إلى الخلف كما يشهد بذلك وضع العراق. وهذا تذكير بتلك القصأئد : -1- وَجَعٌ فِي الصِّينِ، صَفٌّ طَوِيلٌ مِنَ الْأَنِينِ.. رِئَةُ الْعَالَمِ تَرْتَجِفُ. – 2 – مَطَرٌ جَاءَ..مَطَرٌ ذَهَبَ. مَطَرٌ تَعَالَى فِي السَّمَاءِوَمَا اغْتَرَبَ. بَرَاعِمُ الرَّبِيعِ تَرْجُو قَطْرَةَ مَاءْ. – 3 – مَسْرَاكَ دِمشْقُ أَمْ حَلَبُ؟ لَمْ يَبْقَ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا الذَّنَبُ.. عُيُونُ الْأَطْفَالِ تَرْقُبُ الشَّمْسَ تَقْتَرِبُ. – 4 – سُحُبٌ مِنَ الدّخَّانِ تَعْلُو الْعِرَاقَ بَغْدَادُ تَطْهُو أَحْلَامَهَا فِي الْمُقَل. عشاءُ الْقَلْبِ بِطعْمِ الشَّهَادَةِ سَيِّدَتِي. لم ينتبه الناس إلى حمولة هذا النص القصير واستشرافه المستقبل. واعتقدوا أنه مجرد تركيب لغوي ينطلق مما كانت تعانيه الصين لصنع نص فيه من المبالغة والخيال ما يحقق غواية الشعر ومتعة القراءة..كُتِبَ النّصُّ في وقت مبكر ودق بعنف جرس الخطر، وكانت الدول – بما في ذلك المتقدمة”جدا” – تتفرج على الصين. وكانت مواقف عامة الناس عبر العالم تتراوح بين التشفي وبين الشفقة المحتشمة. ولم يكن السياسيون والاقتصاديون أحسن تقديرا من العامة بخصوص ما ينتظر العالم. فالسياسة تعمي مثلما يعمي الاقتصاد. والعمى هنا هو عمى البصيرة لا البصر . إن صناع عولمة الاقتصاد والثقافة والقيم عَمِيَت بصيرتُهم ولم يدركوا أن هذا العالم الذي حكمته الرأسمالية المتوحشة وفرضت أنموذجها في العولمة على كل شيء لن يكون في منأى عن عولمة المرض والجائحة. كانت أمريكا والدائرون في فلكها يعتقدون أن الصين ستغرق مع وبائها، ولم يكلفوا أنفسهم حتى إبراز مشاعر التضامن الإنساني مع هذا النوع من أبناء آدم وحواء. وعلى نفس الخط، وبشكل متخلف جدا، هللت وكبرت العديد من الأصوات في عالمنا العربي والإسلامي وسوقت ما يحدث في الصين تسويقا دينيا يتمثل في عقاب الله لهذا البلد الذي أساء للمسلمين. هو عمى البصيرة أيضا لأن الضعفاء العاجزين عن خوض صراع الحياة يرفعون هذا الصراع إلى السماء وكأن الله سيحارب مكانهم متناسين قوله عز وجل: ” وأعدوا لهم ما استطعتم..”. هكذا يعتقد هؤلاء أن الدعاء أقوى من ترسانة الأسلحة النووية والجرثومية..وأن دعاءهم سيدمر الصين ويجنبهم مخالب الوباء. وقد كان الأحرى أن يلتفتوا إلى ما فعله المسلمون بالمسلمين في العراقوسوريا واليمن وغير ذلك قبل الحديث عن أعداء غير مسلمين. نحن أمام نوعين من غباء البصيرة: واحد ينتجه الجشع الاقتصادي والوهم بالقدرة على التحكم في العالم وصناعة المستقبل. والثاني ينتجه الغباء والجهل الذي يريح نفسه من صراع الحياة ويفوض الأمر لله. الأول تطرف في الذكاء، والثاني تطرف في الغباء.. وعليه لم يتم تصور حجم الكارثة التي تنتظر العالم. تستمد رؤية المبدع مقوماتها من إحساسه الإنساني الخالص. وهو إحساس استثنائي يرتبط بالإنصات العميق لنبضات الإنسان والكون.من هنا كان ذلك الإحساس بأن الوجع الذي كانت تعيشه الصين سيصبح صفا طويلا من الأنين وأن رئة العالم كلها سيرعبها هذا الوجع. كان الحدس قويا حد اليقين بأن كورونا ستجتاح العالم المتفرج ولن تستثني هذا أو ذاك. هو حدس لا يستند إلى الخيال الطائش، وإنما ينطلق من الإدراك العميق لطبيعة العالم المعاصر الذي نعيش فيه. إنه عالم انهارت فيه الحدود وتشابكت العلاقات والمصالح والمخاطر، ولربما أضحى أصغر من قرية.. الناس يقبلون بسرعة انتقال المعلومات والأموال والأشخاص والبضائع والمواقف والقيم عبر العالم.. فلماذا يستثنون سرعة انتقال وتفشي الجائحة؟!. وها هي الصين، التي شَمَتَ فيها الكثيرون وانتَظرَ سقوطَها الكثيرون أيضا، استنفرت قدراتها كبَيتِ النمل المهدد بالخراب، واعتمدت على أطبائها وسواعد أبنائها الذين أحسنت تربيتهم وإعدادهم ، فحاصرت الوباء واحتوته قبل أن يحتويها.. وها هو الوباء اليوم ينتقل ويغزو كل بقاع العالم سواء المتطرف في ذكائه الاصطناعي أو المتطرف في خياله الطوباوي وتبسيطيته الحالمة.. لم يجد العالم سلاحا لمواجهة الكارثة غير اتباع خطوات الصين المتمثلة في الحجر ولزوم البيت. وما يؤكد عمى البصيرة أن معظم دول العالم ظلت تتردد خوفا على المصالح الاقتصادية والسياسية..وظلت العديد من شعوبنا المغلوبة والرازحة تحت الجهل والتخلف تستهزئ بالكارثة..بل منهم من خرج في شكل بدائي ساخر للتظاهر ضدها. وها هو العالم يدفع ثمن عمى بصيرته مهما كانت أسبابها.. لقد تاخرنا كثيرا عن استيعاب الإشارات.. وعندما غزت الجائحة العالم كشفت حقائق مرة وصادمة ؛ فالدول الرأسمالية بدت بدت عاجزة لتكتشف شعوبها أن حجم استعداداتها الطبية يعتبر مسخرة إذا قيس بحجم الأموال الضخمة التي كانت تنفق على التسلح والترفيه وما لا ينفع في صد الكوارث..واكتشفت أيضا أن جبروتها المصطنع وهيبتها التي بنتها بالعلم والتكنولوجيا هي أوهن من بيت العنكبوت. وأما الدول الغارقة في الجهل والأوهام فوجدت ظهرها عاريا أمام رياح العدوى. وها نحن مرة أخرى نشهد دولا كبرى تستنجد بالصين وبالدول التي كانت تعتمد في بناء ذاتها على ذاتها. الكل يطلب الكمامات وأجهزة التنفس الاصطناعية والأدوية من الصين.. بل أصبحنا نرى سيدة العالم أمريكا تقوم بقرصنة الكمامات الصينية دون وازع أخلاقي وحضاري أو حتى سياسي!!.كم جميل وفظيع كشف الغطاء عن حقيقة علاقات الرأسماليين.. لا مجال هنا للعواطف والأخلاق والقيم الإنسانية التي طالما تشدقوا بها واستغلوها غطاء للتدخل في بلدان العالم. لقد تنكروا لبعضهم البعض.وتسابقوا للوحصول على كمامات واقية. ستتغلب الإنسانية على كورونا مهما كان الثمن.. فقد مرت بجائحات عديدة عبر تاريخها وتخطتها بالرغم من فداحة الخسائر والآلام. لكن يبدو أن تأثير كورونا على الإنسان والكون سيكون عميقا ولا شبه له بالمراحل السابقة. لقد وُضِع ذلك المشروع الذي انطلق مع ديكارت وظل ينمو إلى أن وصل إلى ما وصل إليه موضِعَ المساءلة والمحاكمة. ويتعلق الأمر بالاعتماد على العلم والسيطرة على الكون وتسخير كل ما فيه للإنسان. فهذا التوجه أساء إلى ثوابت نظام الكون.. لم يكن هذا الإنسان الآلي يفكر أن انقراض آلاف الكائنات الحية فيه خطر على وجوده لما لها من أدوار جوهرية في تحقيق وصيانة التوازن البيولوجي والبيئي. ولم يكن يدرك أن السماء التي نفث فيها سمومه دون رأفة لا تقل أهمية عن الأرض.. لقد بطش الانسان بالأرض والسماء على حد سواء، فكان عليه أن ينتظر ردات فعل كونية تتَّحِدُ فيها الأرض والسماء ضده (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا. صدق الله العظيم). لقد خرج وجع كورونا من رحم وجع الطبيعة. فالتغيرات المناخية والبيئية وحجم الأضرار التي ألحقها الإنسان بالطبيعة قد تكون كورونا إحدى تمظهراتها وإنذاراتها. سيتشكل عالم جديد بعد كورونا ، وربما سيكون محفوفا بمخاطر وكوارث أفظع..إن عالما يستسلم للعلم ويرغب في تحويل كل شيء إلى بضاعة في هذا الكون قد يضع الإنسانية جمعاء على درب الانقراض.. فالبصيرة تقتضي الإنصات العميق لأوجاع الأرض ونداءات نظام الكون..وتقتضي الرأفة بكل من يحيا إلى جانب الإنسان في هذا الكون من أصغر الحشرات وصولا إلى الأشجار والأنهار والبحار . يجب تقديس الماء والتراب والهواء والحذر من إلحاق الأذى بأي منها لأنها العناصر الجوهرية لاستمرار الحياة. فعندما تتعرض آلاف الكائنات الحية إلى الانقراض بفعل هذا السباق المحموم في استغلال كل شيء وتسميم عناصر الحياة لن يكون الإنسان استثناءا لأنه جزء من تلك الكائنات. هذا هو المقصود بالبصيرة..فهي تتمثل في الإحساس بالمسؤولية واستحضار حجم المخاطر في كل خطوة ، ووضع مستقبل البشرية فوق كل مصلحة واعتبار. يتعلق الأمر هنا بالرهان على العلم والذي يجب أن ينبني على محبة الخير لكل ما في الكون .. والإدراك العميق أن أي فساد أو ضرر سيدفع الإنسان أيضا ثمنه. من هنا نفهم قوله تعالى( ولا تفسدوا في الأرض إن الله لا يحب المفسدين).فالفساد هنا بمعناه الشمولي وليس بمعانيه الاجتماعية والاخلاقية والسياسية فحسب. إننا لا نقصد التخلي عن العلم أو التقليل من أهميته كما يعتقد الخياليون والمتزمتون عندنا. فالعلم لا مفر منه لتحقيق الرقي وضمان عيش كل ساكنة الأرض. وهذاينقلنا إلى الحديث عن وجع الإرهاب ووجهه المظلم.. فقد جثم فوق صدورنا ليلا مرعبا ودمر بلداننا..إنه نقيض تام للعلم. يزرع فينا التواكل والكسل والغدر والتقسيم والانتقام. وهذا النوع من الوجع أسهمت في إنتاجه الرأسمالية المتوحشة، وكان لنا أيضا نصيبنا في هذا الإسهام..فنحن من شجع فينا الجهل والتزمت ومنح فرصة لكل أنواع الغباء تصنع منا قطعانا تساق إلى المسلخ. نحن من ظللنا ننظر إلى تقدم الشعوب وكأنه خروج عن الدين سيدمر هويتنا. وتركنا أبناءنا لأيدي خفية تستقطبهم وتسوقهم لقتل أبرياء تحت مسميات مختلفة.. ونسينا أنه علينا نحب الإنسان ونحترمه كإنسان كرمه الله وهو وحده المسؤول عن حسابه وعقابه. كورونا مقدمة لعهد جديد.. وقد بدأت الدول تتسابق لوضع ترتيبات له لتضمن لنفسها وجودا فاعلا. ونحن لا زلنا نستكين إلى أوهامنا ونعتقد أن الله يعاقب من ليسوا على ملتنا.. وعندما سنصحو سنجد أنفسنا على طريق الانقراض.. وفي أحسن الأحوال خدما عند سادتنا. فالشعوب التي تعتقد أن العالم سيستمر على ما هو عليه هي شعوب غير جديرة بالبقاء. ولعل من سمات العالم الجديد، كما هو محتمل ، الاعتماد على الذات والتسلح بالمعرفة والوعي بأهمية العنصر البشري باعتباره الرأسمال الحقيقي.. قد نشهد تقديرا أكبر لرجال التعليم وللأطباء والعلماء والمبدعين والميل إلى محاربة السخافة التي اكتسحت العالم.. وقد نشهد علاقات دولية مبنية على الندية وتقاسم المصالح وتبادلها. .حيث يمكن أن تتحرك الشعوب الحية بشكل غير مسبوق للحد من الإساءة لنظام الكون.. وليس بعيدا أن تبرز أقطاب وتحالفات جديدة. وإلى جانب ذلك سيتم الاهتمام بالإنسان خارج كل التصنيفات الثقافية والدينية.. ويتقوى الاعتقاد بالمصير الإنساني المشترك.. فالغرق قد يشملنا جميعا.. ولكن طوق النجاة سيكون من نصيب من يستعد بجد للانخراط في العهد الجديد. وهو عهد العمل والإنتاج والانضباط لصوت الحياة المنادي بالتصدي للجهل والرأفة بمكونات وعناصر الكون.. وبناء إنسان يتسلح بالمعرفة والإمكانات للإسهام في استمرار الحياة وحمايتها. هذه احتمالات العهد الجديد..قد تتحقق إذا انخرطت الشعوب بجد ووعي ونفضت عنها غبار الماضي. وإذا قدر الله وتخلفت هذه الشعوب عن موعدها ، فسيدخل العالم في مرحلة أشد سوادا.. سيتضاعف الجشع الرأسمالي وتتعدد رؤوسه.. وقد تختفي دول وتصنع خرائط جديدة. وفي هذا المنحى ستفقد الإنسانية بصيرتها تماما ليتضاعف استغلال الطبيعة والهجوم عليها لتعويض ما ضاع أو مضاعفة استدراكه. وآنذاك سيقول نظام الكون كلمته الفاصلة.. وستصبح كورونا محنة صغيرة جدا قياسا بالمحن المقبلة. . نتمنى أن يسير العالم في منحى الافتراض الأول. وهو ما يتطلب الحضور الفاعل لمعظم دول وشعوب العالم لفرض نظام عالمي إنساني يطمح إلى تحقيق كل حاجيات سكان الأرض.. عالم نحب فيه لأنفسنا مانحبه لغيرنا..نؤمن فيه بالعيش المشترك المبني على العمل والمعرفة والتعاون والتصدي الجماعي لكل المخاطر المحدقة بالإنسان ، وليس على التواكل والجهل والاستغلال والاقتتال.