قرأت فيما قرأت أن ''من يناضل حبا في الوطن لا ينتظر أجرا، ومن يناضل من أجل السلطة دائما يترصد غنيمة. فمن يقبل بتعويض مقابل نضاله هو ليس مناضلا بل مرتزقا...''، وهو كلام دقيق صائب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه عند من يتحرون النضال الصادق النبيل... مناسبة هذه المقولة الملهمة هو ما يدعيه البعض من كونه يتشدق بالنضال وببذل الجهد من أجل تحقيق العيش الكريم للمواطنين والذود عن المسحوقين وعن المغلوب على أمرهم في بلادنا السعيدة. هذا البعض، ومن فرط نعته لنفسه بالنضال، ومن فرط تضخم أناه بهذا الوصف، يخيل إليه أنه صار تمثالا يجسد الكفاح المستميت أو إلاها من آلهة الإغريق المعبودة أو صنما من أصنام الجاهلية المتقرب إليها بالتزلف والتملق و التقديس والتوقير! ... وهو يمشي الخيلاء في الشارع، والشارع له وحده دون غيره من البشر! يكاد يعلق على ناصيته شارة مكتوب عليها عبارة ''أنا مناضل'' ! أو يكاد يشمها (من الوشم) بالحناء على الكفين أو على ''الصنطيحة'' أو في أي مكان مكشوف من جسمه ''الملائكي''، بل ويوشك أن يضعها يافطة تعلو واجهات الشوارع والبيوت. يخال هذا النوع، من هذا البعض، أن الرائين له ملزمون برفع القبعة مع الوقوف وأداء التحية احتراما له وتبجيلا! هذا البعض، يشعر إثر أي نقد له أو تصويب بالتشنج والارتباك و''التقفقيف''، فيصير خوفه أفظع حالا ممن وجد نفسه وحيدا أمام مجموعة من الذئاب الجائعة وسط الأدغال! إنها مشارف النهاية بالنسبة إليه، وهي نهاية سياسية مأساوية بلا ريب. ولذلك فإن اعتماده على أي ''سلاح'' حتى وإن كان ''نوويا'' هو أمر جائز ومقبول بل وواجب، حتى وإن اقتضى الأمر الفتك بالجميع، بمن فيهم المناضل من أجلهم! فالغاية تبرر الوسيلة على كل حال! هذا النمط من ''المناضلين''، المتصف بالنرجسية والدوغمائية والرهاب في ذات الوقت، لا يمكنه الصمود في وجه التحولات الذهنية والسوسيوثقافية الطارئة، ولا يستطيع مواجهة اللوم الأخوي والعتاب الودي إلا بالعنف والتنطع والعربدة، لأنه لا يمتلك شخصية مرنة ومزاجا منبسطا يتلاءم مع جميع العقليات ويستوعب جميع الاعتراضات بما يتطلبه الأمر من حنكة وحكمة وأناة وتبصر وكظم غيظ وعفو عن الناس. ثقافة الاستعلاء والهروب إلى الأمام هي أفضل ما يتقنه ويتفنن فيه ''أشباه المناضلين'' حينما يقفون على المحك، أو حينما تعرض على أنظارهم ''منجزاتهم'' المتعثرة التي يعكسها الواقع، هم محترفون في ذلك أكثر مما يتصور المرء! لكن المواطن اليقظ سرعان ما ينتبه لضحالة مواقفهم وزيف ادعاءاتهم المغلفة بالحذلقة المقيتة والانتهازية الرعناء، فينزل بهم أقسى العقوبات خصوصا عند الامتحانات الانتخابية! إن من صفات المناضل العضوي الملتزم الذي لا صلة له مطلقا بما سلف، نكران الذات والأناقة في التواصل والتواضع. فأما نكران الذات فيتأسس على خدمة الناس ومشاركتهم هموهم ومعاناتهم ماديا و اعتباريا ومعنويا، وأما الأناقة التواصلية فتعني الإصغاء للآخر بصرف النظر عن خلفياته وتوجهاته وقناعاته المغايرة، ومجادلته بالكلام اللبق والمسؤول، وأما التواضع فتحطيم للبرج العالي ومشي في الأسواق والأوحال... النضال غاية منبعها الهامش والفقر والوعي والأخلاق والحس الجماهيري والروح النقدية، ينمو مع الشخص ويلازمه طالما هو حي، في الحل والترحال، بل حتى بعد الممات، ولنا من الشواهد التاريخية ما يؤكد هذا الأمر. النضال حضور وتجذر وانتماء، يكسب صاحبه محبة الناس وتعاطفهم لعلمهم علم اليقين بأنه لن يخذلهم مهما تغيرت الأحوال. النضال وعد ووفاء بالعهد. إنه الشرط الإنساني الوحيد الذي يسمح للكائن الآدمي بالارتقاء إلى منزلة الإنسان. ورجوعا لما قرأت، فالشخص الذي يمتطي صهوة النضال السياسي أو الجمعوي من أجل تحقيق مآرب شخصية دون أن يخجل من نفسه ولا من جشعه، هو كائن وصولي محتال، لا يمكن وصفه بالإنسان ولا بالذئب حتى، فهو منه أطيب وأطهر، وهو ربما من الشيطان أدنى وأقرب! بقلم جمال غوبيد.