منذ هاجر أحمد القرّوطي إلى بلجيكا سنة 1968 لم يُتح له أن يُدلي بصوته في شيء اسمه الانتخابات. فهذا المهاجر المتقاعد ظلّ يفاخر بكونه من المغاربة القلائل الذين لم يتجنّسوا بجنسية بلد الاستقبال الذي قضى به زهاء أربعة عقود ليبقى وفيّاً لمغربيته التي لا يريد أن يشوّش عليها بانتماء آخر. مغربية تجعله يعيش أجنبيا على التراب البلجيكي بدون حقوق سياسية طوال كلّ هذي السنين. لكن مفاخرته تلك لم تكن تجلب عليه، وهو المتابع الدقيق لأحوال الوطن المهتمّ لشؤونه، إلاّ الإحساس بالمرارة. فلِحدّ الآن لم يُكتب للقرّوطي أن يشارك في أيّ من استحقاقات المغرب الانتخابية ولم يشعر قطّ بأنه شريك فاعل في بناء مسار وطنه الأوحد على الصعيدين السياسي والديمقراطي.والاستحقاقات الوحيدة التي كان له حقّ المشاركة فيها هي أول انتخابات تشريعية عرفها المغرب المستقل سنة 1963. لكن وبسبب ملاحقته حينها من طرف “الأمن” ضمن بعض المغضوب عليهم من شباب حزب الاستقلال، لم يتمكن من الإدلاء بصوته. ليعيش طوال حياته على هامش الاستحقاقات الانتخابية هنا وهناك. وفي الوقت الذي يرى بعضا من رفاقه القدامى يراكمون المسؤوليات والمناصب يكتفي هو بالبقاء حيث هو... في الدرجة الصفر من المواطنة.لذا كانت فرحة القرّوطي استثنائية بإقرار حق المهاجرين المغاربة في الانتخابات التشريعية ل2007. لكن على قدر الفرحة جاءت الخيبة بعدما سكب المسؤولون المغاربة سطلاً من الماء البارد على رأسه هو وأشباهه من أبناء الجالية المغربية في المهجر حين أعلنوا تراجعهم عن قرار إشراك هؤلاء “الغرباء” في الانتخابات وحرمانهم بالتالي من حقهم الطبيعي في المشاركة السياسية. سطل ماء سيتلوه أبرد منه عندما تقدمت الوزيرة المنتدبة المكلفة بالمغاربة المقيمين بالخارج نزهة الشقروني بتقديم مشروع ظهير لتأسيس مجلس أعلى استشاري للمغاربة القاطنين بالخارج. مجلس آخر ينضاف إلى لائحة المجالس العليا التي أصبحت تزدحم بها المملكة السعيدة حتى أننا لم نعد نفهم ماذا بقي للحكومة المسكينة أن تفعله لتبرير رواتب وزرائها الموقّرين؟ وكما كان متوقعاً، فقد انبرت العديد من الإطارات الفارغة، التي تحمل أسماء أكبر منها مدّعية تمثيل الهجرة، للتصفيق لهذه المبادرة فيما أصحابها يُمنّون النفس منذ الآن بمناصب ومراتب عالية علوّ كعبهم في التزلّف والتطبيل لكل ما تأتي به السلطة الرحيمة من نِعَم. فيما سيظل أحمد القرّوطي ومن على شاكلته على هامش الحياة الانتخابية يتفرّج من بعيد على هرج انتخابي وطني يخفي صمتا مطبقا على أكبر عملية إقصاء جماعي لما يناهز ثلاثة ملايين مهاجر مغربي. هؤلاء الذين يعيش أكثر من نصفهم ببلدان الاتحاد الأوربي لم ينسوا قطّ أنهم مواطنون. فهم حملوا معهم وطنهم إلى غرباتهم. لتظل أبصارهم مشدودة إلى شاشات الفضائيات وعيونهم معلّقة إلى عناوين الصحف على الأنترنيت وآذانهم ملتصقة بسماعات الهواتف تقفِّياً لأخبار الوطن ومستجداته.فسواء في بروكسل أو في أمستردام، تراهم يتابعون أخبار بلدهم باللهفة ذاتها وبالحماس عينه. حماس ولهفة لا يخطئهما القلب. فتجمعاتهم تهدر منذ الآن بالنقاش عن الانتخابات التي ستنظّم من دونهم وفي أنفسهم من المرارة ما فيها. فكما لو أن صفة مهاجر تُسقط عن صاحبها مواطنته أو تطوّح به في أحسن الأحوال إلى الدرك الأخير منها. وكما لو أن هناك إرادة سياسية لخلق نوع من “البدون” على الطريقة المغربية.لكن ربما كان على أحمد القرّوطي أن يحمد الله على أنه ظلّ بعيدا عن “معترك” الانتخابات بالمغرب. فمنذ بداية شهر ماي، يرزح رفيقه السابق في الهجرة الحسين آيت الحاج، رهن الاعتقال بالسجن المدني بمراكش. هذا الشيخ الذي تجاوز عقده السابع هو أحد المهاجرين السابقين ببلجيكا. لكنه لم ينتظر أن يُسمح لمغاربة المهجر بالمساهمة في الاستشارات الانتخابية لوطنهم الأم لكي يخوض معركة المشاركة السياسية. لأنه بمجرد ما أنهى سنوات الكدح والغربة حتى رجع إلى قريته الأمازيغية للمساهمة في تنميتها وتقرير مستقبلها. مستقبل كان يطوّقه رموز الفساد السياسي الذين رهنوا مستقبل المغرب والمغاربة لعقود. فإما أن يكون لهم ما أرادوا من نهبٍ للمال العام، أو أن يرهبوا كل من وقف في طريقهم من خلال ملفات محبوكة كتلك التي حبكتها أيادي إدريس العموني، العامل السابق لإقليم شيشاوة وصهر وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، ضدّ آيت الحاج الحسين. الملفات التي ما زالت تجد من ورثة الحرس القديم من يتابعها ويتعهدها بالرعاية إلى الآن.ففي سنة 1992، عندما كان السيد آيت الحاج رئيسا للجماعة القروية لإدويران، رفض التوقيع على صرف أموال جماعية لفائدة مشروع إنجاز أقسام دراسية كان العامل السابق يريد تفويتها لمقاول من الدارالبيضاء على اعتبار أن الأموال المخصصة للمشاريع لا يمكن صرفها كاملة إلا بعد انتهاء الأشغال ومراقبة كيفية إنجازها. تفويت يجني منه سعادته عمولة تقدر ب150 مليون سنتيم حسب صحيفة وطنية. ولهذا فتغريد هذا الأمازيغي العصيّ خارج سرب رؤساء الجماعات القروية المؤمّنة على قرارات العامل سيكلفه كومة دعاوى ملفقة آتت أكلها بكل أسف سنة 2001 لكي يصدر حكم بالسجن لثلاث سنوات ونصف على السيد آيت الحاج بتهمة الارتشاء والتزوير. آيت الحاج الذي، بسبب ثقته في براءته مما نسب إليه، استوفى جميع مراحل التقاضي المتاحة قانونيا مطالبا بنقض هذا الحكم لدى كتابة الضبط بمحكمة العدل الخاصة وإيداع مستحقات الرسوم وقدرها ألف درهم داخل اليومين المواليين. لكن المفاجأة الكبرى أنه تمّ رفض طلب النقض بداعي أنه لم يتمّ إيداع المبلغ المنصوص عليه مما يبرهن على أن هناك خطأ مقصوداً وراءه أياد خفية وجهات نافذة. ولم يعلن عن الحكم ومحاولة التنفيذ إلا في سبتمبر 2003 والمغرب على مشارف الانتخابات التشريعية. وبعد التشكيك في رفض طلب المراجعة تم إهمال القضية ليتمّ التلويح بالتنفيذ مجدّدا على مشارف انتخابات 2004 المحلية قبل أن ينفذ فعلا ًعلى مشارف الانتخابات التشريعية 2007. كما لو أن هناك إصراراً على إقصاء الرجل تماماً من الساحة الانتخابية.فهذا المهاجر المتقاعد دخل إلى الجماعة القروية بمعاشه الذي يتقاضاه من بلجيكا وببعض الأراضي الفلاحية ليخرج منها أفقر مما دخل. فهل هكذا يكون حال المرتشي؟ وهل هذا المآل يشجع أحداً على العودة إلى وطنه والمساهمة في بنائه الديمقراطي من الداخل؟طبعاً لا أحد سيجرّب حظّه مع سمك القرش الوطني. وربما على أحمد القرّوطي أن يفرح أخيراً لأن الخلاص قد جاءه من حيث لم يكن يحتسب. فهو سيمارس أخيراً حقه في الانتخاب دون أن يبرح مكانه تحت سماء هذا البلد الذي لا يريد حمل جنسيته. إذ تمّ، ولأول مرة في بلجيكا، إقرار حق الأجانب من غير الأوروبيين المقيمين لأزيد من خمس سنوات في التصويت خلال الانتخابات البلدية المزمع عقدها في الثامن من أكتوبر المقبل. الانتخابات التي تعرف مشاركة مكثفة للمواطنين من أصل مغربي خاصة في منطقة بروكسل العاصمة. إيوا السي القرّوطي، وأخيراً سيكون بإمكانك التصويت. فهل أنت جاهز؟ يا ولدي الله يهديك.. لمن ستصوّت؟ يبدو أننا وصلنا إلى الفرح متعبين. لقد عمّت الفوضى سوق الانتخابات. ومعظم المغاربة الذين تملأ صورهم الشوارع خبزيون لا تهمّهم لا سياسة ولا يحزنون. لذا ترى منهم من يغير الحزب كما يغير جواربه. وهناك من تتساءل أصلاً عن جدّية ترشيحه؟ طبعاً أتفهّم شعور أحمد القرّوطي. شعور يتقاسمه معه العديد من المتابعين لأخبار الحملة الانتخابية هذه السنة. فمنذ إقرار القانون الذي صار بمقتضاه متاحاً لأي مرشح مهما كان ترتيبه متأخراً في اللائحة الوصول إلى مواقع القرار المحلي، كأن يحتل منصب مساعد عمدة أو عمدة (لمَ لا؟) إذا ما حصل على الأصوات المخوّلة لذلك، تمّ إغراق السوق الانتخابية بالمرشحين من أصل مغربي في البلديات التي تعرف حضورا كثيفاً للمغاربة. هكذا ضمنت الأحزاب السياسية البلجيكية أن تحدّ من شوكتهم ليلعبوا فقط دورهم التقليدي ككمّاشات أصوات دون أن تقوم بينهم قائمة لأحد. فصارت الأحزاب تتنافس على مرشحين منهم من لا يفك الخطّ فقط لأن وراءه مسجداً يدعّمه أو حارة تسانده. المساجد التي خرج بعضها عن حياده السياسي ليشتغل بشكل سافر لصالح هذا الحزب أو ذاك. ولصالح مرشح دون آخر. في الوقت الذي يفترض فيه أن المسجد مكانٌ للعبادة يلقى فيه الناس ربهم بقلب سليم، خالٍ من تجاذبات السياسة وتنابذات السياسيين.دخول بعض المساجد على الصف كان له أثره في اختيارات الأحزاب للمرشحين. فقد أخبرني إطار مغربي ينتسب إلى حزب يساري علماني أن القيادة المحلية لحزبه لم تسمح له بالترشّح للانتخابات لأنه علماني زيادة عن اللزوم. وهي تفضل أن تختار مرشحيها ممن لا يثيرون حفيظة الناخبين المتديّنين. وربما لهذا السبب استبق أحد رفاقه، الذي كان يجاهر بلائكيته، الموقف ليؤدي مناسك العمرة لضمان مكانه على لائحة مرشّحي ذات الحزب. هكذا توسّل صديقنا بيت الله الحرام معبَراً ليصير ترشحه حلالاً حسب مفتيي ديار الحزب العلماني العتيد. واللافت أن هذا الهرج الانتخابي ساهم في تمييع الممارسة السياسية وأفقد الحملة الانتخابية الكثير من جدّيتها. فما معنى أن تُدار الحملة الانتخابية في بلد عصري ذي تقاليد ديمقراطية عريقة على إيقاعات الموسيقى الفلكلورية المغربية. ففرق كناوة والعلاوي والدقة المراكشية صارت تدور على الأسواق ذات الكثافة السكانية من أصل مغربي لتطبّل لهذا الحزب أو ذاك. إنها سمفونية “الحداثة” بإيقاعات شعبية على الطريقة المغربية. الطريقة التي اعتمدتها الأحزاب البلجيكية العصرية للظفر بأصوات الناخبين. وكأنها استوعبت بشكل جيد المثل المغربي السائر الذي يقول بأن المغاربة يجمعهم البندير وتفرّقهم الهراوة.رغم أن مواطنينا من أصل مغربي بعد إغراقهم سوق الانتخابات لم يعودوا في حاجة إلى هرّاوة تفرقهم. فهم متفرّقون من تلقاء أنفسهم. تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى تماماً كأصواتهم المشتتة. وكلّ منهم يتكفل بأمر صاحبه حتى ولو كان رفيقا له في نفس الحزب. والمقاهي المغربية في حيّ “ميدي” تشهد فصولاً من مرتجلات مسرحية لا يقدر على مضاهاتها عباقرة مسرح الارتجال. فبالصدفة وأنا في مقهى مغربي دخلت مرشحة لتوزع بعض الأوراق الدعائية لحملتها قبل أن يستفزها أحد المرشحين المنافسين. هنا بدأ الحديث بالمغربية الفصحى بعيدا عن تكلّف السياسة وتحذلق الفرنسوية: آشوف السي، والله خبزتي ما يأخذها مني حدّ آلالاّ الله ينعل اللي ما يحشم. يعني أنت سياسية خبزية... وكا تقوليها بوجهك أحمر؟؟؟ طبعاً أقولها بوجه أحمر. كلكم خبزيون. أنا فقط أعترف بذلك. وهذه شجاعة لا تتوفرون عليها. طبعا الكثيرون لا يمتلكون الشجاعة الكافية. رغم أن هناك أحزابا اختارت “أشجع” هؤلاء للظهور على لوائحها كحزب الوسط الديموقراطي الإنساني (المسيحي سابقاً) الذي اختار بطل فرنسا وبطل العالم السابق خالد القنديلي المنتقل حديثا إلى بروكسل للترشح على قائمته. فيما اختار الحزب الليبرالي تدعيم قائمته بالملاكم والممثل من أصل مغربي عبد الكريم قيسي. قيسي صديق طفولة الممثل البلجيكي ذي الصيت العالمي جان كلود فان دام الذي مثل معه في بعض من أفلامه تمّ اختياره من طرف مخرج الحزب الليبرالي لخوض معركة التمثيل السياسي. وإذا كانت هذه المعركة تقتضي عضلات قوية وسواعد مفتولة عند بعض المرشحين فإنها أحيانا لا تستدعي سوى قليل من الدهاء وكثير من الوشاية. ففي بلدية “إيتيربيك” التي أقطن بها انبرى المرشح الحديث العهد بالليبرالية أحمد مرابط إلى فضح رفيقه السابق في الحزب الاشتراكي والنائب الحالي ببرلمان جهة بروكسل العاصمة رشيد مدران متهما إياه بالاستفادة غير المشروعة من الإعفاء البريدي للبرلمان في حملته الانتخابية. إذ بعث رشيد مدران، يوماً قبل انطلاق الحملة الانتخابية، رسالة ذات طابع انتخابي لا تتعلق بعمله البرلماني. وقد قدّر مرابط أن رفيقه القديم وغريمه الجديد قد أرسل ما بين ألفي وثلاثة آلاف رسالة. بما يعني ذلك أن الرجل أنفق بشكل غير مشروع زهاء 1500 أورو من المال العمومي لأغراض انتخابية شخصية. رشيد مدران ردّ على صاحبه مقلّلا من حدّة هذه الاتهامات على أساس أن حصّة كل برلماني لا تتجاوز أصلاً 500 رسالة في ثلاثة أشهر. كما وعد بإرجاع المال الذي صُرف في هذه الإرساليات إلى البرلمان والتصريح به ضمن نفقات حملته الانتخابية. وفي المقابل اتهّم خصمه أحمد مرابط بسرقة منصب منتدب بإدارة توزيع الماء الذي حصل عليه كاشتراكي وظل متشبثا به حتى وهو يغادر الحزب ميمّما ذات اليمين.هكذا يتطوّع المغاربة لتكسير مجاديف بعضهم البعض. فيما تنقل لنا نشرات الأخبار المحلية قضايا أكثر جدّية تتورّط فيها شخصيات بلجيكية مرموقة لتنتهي الحكايات بأسرع مما بدأت ودون لغط يذكر. فكلّ المسؤولين في كروشهم من العجينة ما يكفي لإشباع معسكر للاجئين. وكلٌّ سقفُ بيتِه من زجاج. لذا فهم يسترون ما ستر الله. أما المغاربة فشعارهم الخالد هو عليّ وعلى أعدائي. لذا فقد صار بأسُهم بينهم شديد. شدّة احتدام التنافس، الذي لا يكون شريفاً دوماً، على أصوات بني جِلدتهم. الجِلدة التي يتنكّرون لها سريعا. إذ بمجرّد ما يفوز الواحد منهم بأصوات إخوته في الانتخابات حتى تراه يعطي تصريحات مضحكة لسائل الإعلام، يردّد خلالها بغير قليل من التنطّع : “أنا منتخب من طرف كل البلجيكيين ولست ممثلاً لفئة دون أخرى”. صحيحٌ إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه... وكل انتخابات ونحن مغاربة.