الكل عاد من عطلة قصيرة أو طويلة تحت سماء البلاد، وكلّ رجع بما قسّم الله له.هناك الذين رجعوا بأجسام محمرة من لفح الشمس الوطنية ليفاجأوا بالنواح المطير للسماء هنا فاضطروا لارتداء ملابس تليق بجهامة أحوال الطقس حتى لم تعد تظهر منهم سوى وجوه سمراء كباكستانيين أشعثي الشعر. وهناك الذين عادوا بكيلوات زائدة بسبب طواجين الأمهات ذات الجودة العالمية.. أو بسبب العزومات الدسمة التي يلبّونها بالكثير من الغبطة مستمتعين بلقاء الأهل والأحباب في القرى النائية وأحيانا في دواوير مغروسة بين قرون الجبال، فيما صغارهم المساكين يبقون حبيسي الحيطان وهم يتجولون من دار لدار ليروا أناسا لا يعرفونهم يتحدثون لغة لا يفهمونها. هكذا يستبد بهم الضجر لتصبح نهاية العطلة بالنسبة إليهم موعداً يترقبونه بفارغ الصبر. وهناك الذين يحرصون على إخفاء بعض من آثار ضرب البوليس الوطني في مخافر معتمة وفي ظروف ليست غامضة تماماً ولأسباب ليست أمنية على الدوام... هم الذين ألفوا أن يرفعوا أصواتهم في وجه رجال الأمن الزُّعر هنا دون حرج ولا وجل. مثل صديقي الجديدي المغفل الذي ضربه الله فارتكب “جنحة” التجول رفقة السيدة زوجته بسيدي بوزيد دون عقد زواج. وهكذا ولأنه لم يجد تلك الوثيقة الدامغة في جيبه حينما وقف عليه أصحاب الحال اكتشف أن زوجته لم تعد مصونة وعليه الآن أن يجمع 12 شاهد من الكورنيش ليقنعهم بأن المرأة حلاله بلاله من دكالة حتى لبروكسل. لكن على من تحكي زابورك يا داوود؟ هكذا وجد المسكين نفسه في ضيافة غير سعيدة. وحينما رفض الركوب في سيارة الشرطة متوهماً أنه لم يقم بجرم يستوجب ذلك.. ولأن قوات التدخل السريع في وطننا السعيد لا تضيّع الوقت، فقد وجد نفسه مقذوفاً به على وجه السرعة في مخفر الشرطة حيث تكفل بأمره رجل أمن، ادّعى بأن صاحبنا قد دفعه، ليغنّي له أغنية “مرحبا بكم في بلادكم” على إيقاعات مخزنية دون حاجة لصوت نجاة اعتابو. فالسوط أحيانا أمضى من الصوت وأقدر على التبليغ. وعلى ذكر اعتابو، هناك اللائي يعرضن بقايا الحناء على أطرافهن باعتزاز... ويتذكرن أعراسا كانت الجرّة فيها سيدة الفرح. أعراس تتصبّب فيها “الغرامة” كالعرَق، فيما كنّ هن، العذراوات منهن على الخصوص، يتصّببن خجلاً من مغازلات شبان وديعين للغاية يكيلون لهن الكلام الحلو بالقناطر ويجدوهن جميلات وفاتنات تماماً مثل تأشيرة.وهناك اللائي، لم يضيّعن الفرصة، ليرجعن بأزواج لم يكنّ على علمٍ بوجودهم تحت الشمس قبل العطلة. زيجات مطبوخة في طناجر الضغط الوطنية. زيجات عادة ما تحسم أمرها الفاتحة التي يقرأها الأقارب فيما بينهم على عجل. زيجات سريعة من أزواج طارئين خلّفوهم وراءهن في انتظار إجراءات إدارية معقدة ستمكنّهم من الالتحاق بهم فيما بعد إلى حيث للمطر مواكب يومية ثقيلة.وهناك الذين عادوا بفتيان مجهولين لم يعرفوا متى ولا كيف انحشروا في الصندوق الخلفي للسيارة. هذا الذي يتحوّل عادة، أثناء العودة، إلى خزنة مؤن لتكديس الزيت والزيتون و”الزمّيطة” وأنواع أخرى من “التقاوت” كما لو أن أوروبا مقبلة على مجاعة وشيكة. هناك الذين جاؤوا محمّلين برزمة مخالفات بسبب إفراطهم في السرعة والسكر. فصيف البلاد السعيد يشجّع على الإفراط في كل شيء. وعموما المهاجرون يعرفون أكثر من غيرهم أن النشاط يشيط فعلا في أرض الوطن. لهذا فهم يأخذون ما “شاط” منه إلى هنا حتى ولو جاءت هذه “الشياطة” الوطنية على شكل غرامات مكلّفة.وهناك الذين عادوا بقضايا جديدة، تورّطوا في بعضها عن طريق الصدفة فقط، لكن تلزمها أكثر من عطلة مقبلة سيكون عليهم تبديدها بين أرجاء محاكم المملكة قبل أن يقول القضاء كلمته الفصل فيها بعد عمر طويل طبعاً. وهناك الطلبة المساكين من أبناء الشعب المغلوب على أمره اللذين رجعوا إلى الجامعات هنا في الحافلات مصهودين فارغي الوفاض، لكن محمّلين بدعوات الأمهات والجدّات... ما يكفيهم لتغطية عام كامل من الكدّ بعيداً عن الأهل والأحباب.وهناك اللواتي لم يعدن... زينب التسولي إحدى أولئك. فمنذ سنتين وهذه السيدة الجبلية تنتظر في “دار زهيرو” إحدى القرى الصغيرة المتاخمة لطنجة والمحاذية لمطارها الدولي. تسمع زينب أزيز الطائرات وتعدّ الأيام في انتظار عودة أصبحت تقارب المستحيل. فالعطلة عندما تطول فترتها تتحول إلى عطالة مفتوحة على دروب الضياع. والذين استقبلوك بالأحضان أول مرة وتراقصوا حول حقائب الهدايا كهنود حمر سرعان ما ينفضوّن من حولك كجنود خرجوا محبطين من حرب خاسرة بمجرّد ما يجف جيبك من فائض السيولة. زينب لم تخمن كل ذلك. فقد كانت متحمسة للقاء الأهل عندما دسّت يدها في يد زوجها وسافرت رفقته باتجاه أرض الوطن. زوجها الذي كان له الفضل في انتشالها من قريتها الفقيرة قبل سنوات وأخذها معه إلى الضفة الشمالية. فإذا بزينب تجد نفسها تختال قليلا على أبناء القرية بوضعها الجديد كمهاجرة وبلقبها ك”زماكرية”. وهو لقب يكاد يعادل لقب سفيرة في أوساط بنات وأبناء منطقتها من بؤساء طنجة ونواحيها.لكن ما لم تخمنه زينب هو أنه بمجرد انتهاء العطلة، سيدس الزوج في جيبها، هكذا ودون سابق إنذار، ورقة طلاق ليقول لها مِن هنا مرّوا. طلاق غير قانوني، من زاوية نظر القانون البلجيكي. فهنا يحتاج المواطن البلجيكي أكثر من وقفة أمام المحاكم و الكثير من المساطر المعقدة لاستصدار حكمٍ بالطلاق. لكن الزوج دسّ في يدها ورقة الطلاق وسافر. وحده هذه المرة. هكذا وكأن المسكينة لم تكن أكثر من جملة اعتراضية في حياته.منذ ذلك الحين وزينب تعدّ عبثاً الأيام والطائرات... ومن عطلة لعطلة، يرجع العائدون محمّلين بالهدايا ويقفلون راجعين محمّلين بالوصايا والدعوات والمطالب والصور. فيما هي لا زالت تكابد العيش على هوامش طنجة العالية، حيث صارت حياتها أشبه بمنحدر معبّد في اتجاه الجحيم. جحيم لا يفوقه إلا وضع فئة من المغاربة ممن نفذوا بجلودهم وأحلامهم من بؤس الوطن، بطرق غير واضحة دائماً نشدانا لحياة جذابة، قبل أن يجدوا أنفسهم أسيري حياة لا تقلّ بؤساً عن تلك التي خّلفوها وراءهم. ففي الوقت الذي تكون معظم أحاديث المغاربة هنا، شأنهم في ذلك شأن عموم المواطنين البلجيكيين، عن العودة من الفاكانس، هناك شاب مغربي دهسته سيارة في 25 جوان الماضي يرقد وحيدا في غيبوبة مطوّلة بأحد مستشفيات بروكسل محروما حتى من العيادة. هذا الشخص ظلّ مجهولاً طوال شهرين إذ لم يكن يحمل في جيبه ما يدلّ عليه. شهران من الإقامة السرّية في المستشفى لم تتوصل مصالح الأمن خلالها بأي إعلام باختفائه ومن أيّ جهة ليستنتجوا في الأخير أن الأمر يتعلق بمقيم “غير شرعي”. وحتى عندما استفاق المسكين من غيبوبته لم يبد عليه أنه استعاد وعيه. فقد خرج من الحادثة، التي هرب مقترفها النذل كما لو أنه دهس جرذا، بشلل نصفي وبفقد للقدرة التامة على الكلام. وحتى عندما يتكلم بصعوبة فلكي يهمهم ببضع كلمات ويخطّ بعض الأسطر التي استطاع رجال الأمن والمترجمون المرافقون لهم الخروج منها ببعض البيانات الشحيحة. وهي البيانات التي تمّ إبلاغها للتمثيلية الدبلوماسية البلجيكية بالمغرب التي نقلتها بدورها إلى السلطات المغربية دون أن تصل إلى نتيجة ملموسة بسبب عدم دقة الاسم ربما. هكذا قررت مصالح الأمن ببروكسل تصريف المعلومات عبر موقع “وافين” الإلكتروني الذي بادر المسؤول عنه بنشرها وبعثها إلى الصحافيين. معلومات قليلة على قدر واضح من الغموض والارتباك لم يزدها اتصالي الشخصي بالمفتش المركزي المسؤول عن ملف الحادثة إلاّ التباسا. لذا أكتفي منها في هذا السياق بالإشارة إلى أن الشاب المغربي يدعى يوسف عضراوي أو عدراوي أو ربما عذراوي بالذال المعجمة... وأنه من مواليد 1969. والغالب أنه من مدينة الدارالبيضاء بسبب حديثه أثناء هذياناته المتتالية عن الحي المحمدي و الرجاء البيضاوي. كما يُعتقد أن له ثلاث أخوات وثلاثة إخوة من بينهم نادية وزهرة وهناك أحمد الذي لا يعرف ما إذا كان أحد إخوته أم والده. وفي انتظار أن يستدل عليه أحد ويتصل بمصالح الشرطة ببروكسلالغربية المعنية بملفه، ما زال المسكين يرقد غريباً ومجهولاً ونصف مشلول في مستشفى “جات” ببروكسل. وفيما يرقد يوسف في المستشفى، يواصل أشباهه من المقيمين “غير الشرعيين”، وفيهم عدد كبير من المغاربة، الاعتصام بالكنائس على امتداد خارطة هذه المملكة الصغيرة المستلقية جنوب بحر الشمال مطالبين بتسوية وضعيتهم وإخراجهم من الظلمة التي عمّت حياتهم وصارت تخيّم على مستقبلهم. نساء ورجال من مختلف السحنات والتجاعيد والجنسيات والأعمار يضربون عن الطعام وكلّ أملهم لفت انتباه المسؤولين إلى وضعيتهم اللاإنسانية وإلى رغبتهم الأكيدة في الخروج من ظروف العبودية المعاصرة التي يعيشونها. عبودية الأزمنة الحديثة التي تفضح نفاق خطاب المساواة التي يتبجح به المسؤولون السياسيون في الغرب. فهؤلاء الأشخاص يعيشون إداريا في الظلام كما لو ثكلتهم الحياة تحت الشمس. بدون أوراق وبدون أسماء وبدون ملامح. وحتى من دون ذنب واضح ارتكبوه، سوى تصديقهم لدعاية الغرب على امتداد سنوات الحرب الباردة عن أنه مجتمع وفرة ورفاه. هكذا وجدوا أنفسهم محكومين بالأشغال الشاقة في ورشات البناء أو داخل المطاعم حيث يغسلون أكواما هائلة من الأطباق مقابل أورويات معدودة. هناك حيث يقبل عليهم مشغّلون انتهازيون لا يهمهم منهم سوى صلابة سواعدهم وهزالة أجورهم التي لا تكفي سوى لسد الرمق وللسكن في مساكن رديئة لا تغيّر رداءتها شيئا من ارتفاع إيجارها. ومن المؤسف أن مصاصي الدماء من المتاجرين بآلام العباد يكونون أحيانا من بني جلدة هؤلاء المقيمين “السريين”. فهم أعلم بأسرارهم وبنقط ضعفهم، لذا، من غيرهم أخبَرُ بأمر استغلالهم على أكمل وجه. أقصد على أبشع وجه. بل وهناك من مغاربة بلجيكا العفاريت ممن مسَّك عليهم الله بتجارة هنا أو هناك من تراه يدّعي زورا وبهتانا أنه يشغّل الواحد من هؤلاء المقيمين غير الشرعيين على سبيل الإحسان ومد يد العون. ليحول نفسه، وبقدرة قادر، إلى نسخة مزوّرة من الأم تيريزا “مايد إن نصبانستان”. وهي جمهورية عابرة للقارات والأجناس يقف وراءها نصّابون مهرة. كمدير محل البيتزا المغربي الذي كنت أشتغل معه، في الأسود طبعا، عندما كنت طالباً بسبب عدم توفر الطلاب الأجانب على رخصة عمل إلا أثناء العطل الدراسية. لقد كان أخونا في الله والوطن يصرّ على تذكيرنا بأنه يشغلّنا قصد مساعدتنا رغم أننا مقتنعون بأننا نحن من نساعد هذا البغل على تنمية ثروته الشخصية بأقل تكلفة ممكنة. هكذا نتيح له أن يسافر إلى البلد في العطلة ليفاخر أمام أهله وأقاربه بخدماته الجليلة في سبيل مساعدة أبناء جلدته... جلدته النتنة التي لا تصلح عليها إلاّ للجَلد.