لارتفاع عمقا لئن كان العمق سطحا إذا نظر إليه من الأعمق حسب أنطونيو بورتشيا ،فإن العلو منظورا إليه من الأعلى سطح أيضا .فالسطح ، إذن ،عمق الارتفاع وارتفاع العمق .ومع ذلك مازال هناك من ينظر إليه نظرة سطحية. لا شك أن إفريست هو سقف الأرض ،لذلك فهو على رأس أحلام المتسلقين في كل الأزمنة . يحكى أن المتسلق الأول لجبل إفريست لم يكن وحده،فقد اصطحب دليلا إليه .ولقد قضيا وقتا طويلا وعصيبا قبل أن يشرفا على القمة ( والأصح أن تشرف القمة عليهما ) .ويحكى أيضا أن المغامر ذاك دفع دليله فريسة للصخور حتى ينفرد بشرف التربع على قمة الأرض .لكن ،من حكى الحكاية ؟ وكيف يكون الدليل دليلا إذا لم يكن خبيرا بالمكان ؟ مرة نزل أحد مدمني التسلق من عليائه وخاطب الناس قائلا: - لكم تبدون لي صغارا حين أكون هناك . ولكم كانت صدمته كبيرة حين رد عليه أحدهم : - حين تكون هناك، لا أحد منا يراك. لا بد أن الرجل من يومها وهو يفكر في الاختيار بين أن يرى الناس صغارا وبين أن يظل مرئيا بالعين المجردة. يتسلق الشاعر قبيلته من أخمص القطيع حتى صدر الخيمة الكبرى .فإذا هو صوتها الذي لا صوت فوقه ، وهو الناطق الرسمي باسمها رغم بقية الحناجر . ليست سبابة الطفل هي التي عرت الإمبراطور ، فقد كان عاريا وسط بطانة من العميان وذوي الألسنة المصابة بالعنة .فهل تحتاج القبيلة إلى سبابة تومئ إلى الجمل الذي استنوق أو الريحان الذي استحبق ؟ نشرت إحدى الصحف صورة لبورخيس جنب هرم خوفو .لقد كان الشبه واضحا بينهما :إنهما معا عابران للأزمنة . تستطيع آلة المخيلة أن تلتقط صورا أخرى : فإذا طاغور الى جنب إفريست وكل الهملايا جذلى بأن نبتت لها قمة أخرى .وإذا درويش جنب الكرمل كشقيقين من حجر وزعتر وكبرياء .. وما من جبل إلا وله صنو بقامته وبظل لا يختفي وإن شحت الأنوار. وحدهم هؤلاء الذين يضاهون الجبال دون أن يتسلقوها يستحقون أن نكونهم. أما صغار المتسلقين فيقضون سحابة عمرهم في التسلق المحفوف بالمزالق ، ليجدوا أنفسهم في قمة الحضيض :فما كانوا يتسلقونه ليس جبلا ، وإنما حصاة فقط .لذلك ، فأعمالهم الكاملة تدفن مباشرة بعد الذكرى الأربعين لنفوقهم في قبر بحجم قرية نمل . تستطيع آلة المخيلة أن تلتقط صورة أبهى :فإذا الشاعر الكبير واقف جنب بئر طافحة . هل غادر الشعراء..... يغادر الشعراء أوطانهم مكرهين، غالباً، صوب جغرافيات أخرى، قد يلائمهم هواؤها فيمتد بهم العمر حتى يبلغوا من الإبداع عتيا، وقد لا يلائمهم فإذا هم مصابيح معطلة في أرصفة الغربة. يغادر الشعراء قصائدهم أحيانا صوب أجناس أخرى، قد يسلس لهم قيادها فيطلون علينا من غير ما قمة، وقد تحرن مطاياهم الجديدة غير بعيد عن السفح. يغادر الشعراء مناصبهم السامية احتجاجاً على الصنيع الفظ لأنظمة بلدانهم في هذه النازلة أو تلك، فيخسرون كراسيًّ واطئة يربح الشعر مقابلها قاماتهم الفارعة. بل إن منهم من تنازل، لأجل الشعر، عن رئاسة دولة في قارة لا تتنازل فيها حتى الجثث عن حصتها من الذباب... فيما يصعد شعراء الطوائف قصائدهم الذريعة سُلَّماً نحو سُدّة الوهم. يغادر الشعراء الكبار والشعراء التجار، يغادر الشعراء الصعاليك والشعراء المماليك، ويغادر الشعراء الشعراء. منهم من عرف الدار بعد توهم، منهم من عرف الوهم دون تردد، ومنهم من ضيع الطريق الوحيد إلى عُقره. هند الذهاب إلى الشعر عن طريق النثر يشبه تماما الإبحار غرباً إلى الهند. ففي كلتا الرحلتين نصل إلى أرض لم نتوقعها. إن جزر الهند الغربية هي أول ما طالعنا من قصيدة النثر، تلك القارة الجديدة التي انتشينا بها أكثر من أولئك البحارة القدامى. فقد كلفنا الوصول عبابَ ستة عشر بحرًا.... وهاهي الأشرعة الآن ترفرف إيذانا بسيادة اليابسة. الهند رمز التعدد. فالمائة بلغة أخرى هي Hundred . وهي رمز الصرامة، وإليها ينسب الحسام المهند. وهي أيضًا رمز الغرابة، ولا يجاريها في ذلك سوى السند. وهي، ليس أخيرًا، رمز الكثافة من الأديان حتى الأمطار الموسمية. ولعل هذه الرموز ما يجعل لخريطتها نفس حدود قصيدة النثر في جغرافيا الكتابة. من بحر الظلمات إلى جزر الهند الغربية ومنها إلى القارة الجديدة كانت الرحلة المعروفة. وهي تشبه إلى حد كبير رحلة الشعر من البحور إلى التفعيلة إلى قصيدة النثر. وكما أن العالم الجديد لم يكن قفرا كما قد يدَّعي المستكشفون وأحفادهم من بعدهم، فإن قصيدة النثر كانت مأهولة منذ فجر اللغة. أما سكانها الحاليون، وهم من فصيلة الشعراء، فقد أضافوا إلى أرضها عادات جديدة في الزراعة والري، فاستحقوا لأجلها أسماءً تميزهم، منها النصَّاصون وهم مبدعو النصوص، ومنها النُّثراء وهم كتاب الشعر نثرًا... ولابد أن الأرض التي يخصبونها الآن ستنجب لنسلهم أسماء أخرى. قصيدة النثر جسد يلزمه من النضج ما يكفي للإفصاح عن جنسه، فهي كطفلة من دون ضفيرتين، تحتاج إلى سنوات قبل أن يعلن صدرها النافر أنها ليست غلامًا، وإلاَّ علينا فقط أن نصدق من يناديها من بعيد: هند، يا هند. تلميذ الأطفال كان ابني كلما فرغ من إنجاز فروضه المنزلية، دون مساعدة مني في الغالب، يطلب إلي أن اقترح عليه "جملة اليوم"، وهي، كل يوم، حول موضوع تقترحه المعلمة على الفصل ويدونها الأولاد على ألواحهم، وفي الغد تختار أحسنها لتسجلها على السبورة وينقلها الجميع في دفاترهم موقعة باسم التلميذ صاحب الجملة المحظوظة. ذات صباح، بينما كنت أغسل وجهي من بقية الأرق، داهم ابني الحمام مطالبا إياي بجملة اليوم، فقد نسي أن يدونها في لوحته البارحة، فما كان مني إلا أن غمغمت في وجهه بكلام لا بد أنه لم يرقه إذ رد علي : بابا هذه ليست جملة شعرية . لقد أخفيت دهشتي ووعدته بجملة أخرى. كان الطفل موقنا أن الجملة التي اقترحت عليه لن تسطع في ظلام السبورة. *** كنت مستلقيا ذات قيلولة قديمة ببيت أحد الأصدقاء حين تناهى إلى مسامعي صوت شجي قادم من الطابق السفلي للبيت . لقد كان الصوت لطفلة تردد نشيدا لم يكن يصلنا منه سوى هذه العبارة : "أيتها النحلة يا أختي" وهي الجملة التي وقعت في قلبي وقوع العسل، وإني لأحتفظ به إلى الآن. *** طفل يرى أن الشعر هو ما يسطع في الظلام وطفلة تراه في مؤاخاة النحل الذي أضفى على نشيدها لحنا من عسل. فهل لي رأي بعد رأييهما؟. *** قرأت مرة لأحد الشعراء رأيا عميقا مفاده أن الماضي يمكن أن يكون تلميذا للمستقبل. أنا هو الماضي. أنا تلميذ الأطفال. ما قل وجل في ركام الكلام الذي أنتجته البشرية منذ أن صارت لها ألسنة، يظل "ما قل ودل" هو الأكثر بريقا وإثارة لانتباه الذاكرة. فالأمثال والحكم والأقوال المأثورة.. تتمتع بحياة خالدة واحترام نادر في كل أصقاع اللغات، حتى أنها أضحت، لوضعها الاعتباري هذا، حكما وحجة وشاهدا لا ينتاب الزور شهادته. لقد ظل الكلام لعدة قرون وسيلة التواصل المثلى، حتى انضافت إليه شبكة شاسعة خيوطها الأصوات والصور والإشارات والألوان والحركات والأضواء والرموز ...وهي شبكة متناهية الحبكة نسجت على نول التكنولوجيا الذي أبى إلا أن ينتج "ما قل ودل" خاصا به، الشيء الذي يجعل الكلام أمام تحد جديد يفرض عليه التخلص من شحوم الإطناب حتى يستمر في سباق السرعة إن كان قد دخله أصلا. لست أستثني من الكلام أي كلام : فلو اجتمعت كل الجدات لما اقنعن حفيدا واحدا بالإصغاء إليهن ساعة "Les power Rangers" ولو تضافرت كل مواهب الباعة في الأسواق الشعبية لما أعلنت عن البضائع بنفس اللذة التي لأخطبوط الإشهار ذي الطعم الخارق "le goût de foudre" ، كما أن الرسائل الحميمة (حيث النظر في الوجه العزيز هو التوقيع المشترك لكل الأشواق) بدأت تفقد حرارتها أمام الشاشات السحرية للكمبيوتر والهاتف النقال... اعتقد أن الأدب معني أيضا بهذا التحدي. ولأني لست أديبا فإني سأترك هذي الشعاب لأهلها وأعود إلى بيت القصيد. إن بيت القصيد من أشهر ما قل ودل، ففي معظم القصائد القديمة هنالك على الأقل بيت أكثر حياة وشهرة من أترابه في الحارة، ما يجعلنا نسترشد به كلما قادتنا الضرورة إلى أنحائه. وفي الكثير من الأحيان نحتاج إلى شطر فقط هو "شطر القصيد" ذلك أن شطرا آهلا بالشعر خير ألف مرة من "بيت الشعر" إذا كان مسكونا بالأشباح. وإن هي إلا قرون فقط وتغدو بعض الكلمات قصائد قائمة بذاتها. فمع الانتشار المروع لأطفال الأنابيب وأطفال الاستنساخ الذي سيعرفه العالم، ستغدو كلمة "أمي" قصيدة مؤثرة تنهمر لها بغزارة دموع أيتام المختبرات. أما المشاعر والقيم والغرائز الإنسانية، فمن المرجح جدا أن تنتهي إلى صيدليات خاصة. فبعد ظهور أقراص الفحولة علينا ألا ننتظر طويلا ظهور أقراص الشهامة وأقراص الصدق وأقراص الحنين وأقراص الوفاء... وهي جميعا بحجم "ما قل ودل". ومع ازدهار ثقافة الأقراص هاته، من المرجح أيضا أن تلوذ اللغة بالصمت، وإن بعض الكلمات، إذا خرجت من عزلتها، فلن ترضى بأن تكون أقل من قصائد. لذلك فكلمة "حبيبتي" مثلا، وهي الآن لا تحتاج إلى موهبة خاصة، ستغدو ملحمة حب خالدة لا يمكن أن تجود بمثلها إلا قرائح الفحول من الشعراء. على الشاعر إذن أن يقيم للكلمات محمية شمال القلب حيث وحده وجيب الحياة جدير بالسهر على هكذا طيور نادرة. فكما يؤول كل الألم إلى بعض الأنين وكل اللذة إلى بعض الانتشاء فإن القصيدة يممت أنفاسها شطر المقطع فالشذرة... فالكلمة، في سعي حثيث نحو ما قل وجل غير آبهة بما يسقط منها من متاع : إنه القصيد عائدا إلى بيته. قناص الخوف لكأن العالم أعمى. لكأن الشاعر عكازة ضوء. العالم غزير الضوء. ولربما هو كذلك الآن أكثر من أي وقت قادم. ومع ذلك، فإن الشاعر ( أقصد الشاعر طبعاً) يحمل مصباحه الصغير، الذي على هيئة قلب، ويجوب الأرجاء الساطعة وكله يقظة. ديوجين فعل الشيء نفسه في عز الظهيرة، وقد كانت الحقيقة ضالته، الحقيقة التي لم يصادفها أبداً، ليس لأنها أسطع من مصباحه، بل لأنها تقيم في مرآة لا أحد يعلم متى تشظت وتناثرت فإذا هي بعدد الأجنحة. ليست الحقيقة ما يهم الشاعر، بل هي الأجنحة. لذلك، كان ينظمها مثنى مثنى ثم يطلقها سرباً فإذا هي قصيدة . ولمَّا كان يحرص على أن تكون الأجنحة لنفس الفصيلة، فإن التحليق كان منسجماً من الريش حتى الغناء. لم يعد الشاعر ذيَّاك الشاعر. فقد جعل يؤاخي بين الأجنحة قاطبة، من جناح البعوضة حتى جناح الرخ، في سعي عنيد منه لإعادة تركيب ولو جزء صغير من المرآة، عسى أن يكون الجزءَ حيث عين الحقيقة، العين المسمولة وهي تحدق بشماتة في ظلام العالم. لا غرابة، إذن ، إن جاءت قصيدته شعثاء مثل كومة من الريش. ولا غرابة إن استعارت بعضاً من أصوات الغابة. لكأن الشاعر قناص سديد. لكأن الخوف طريدته المشتهاة. العالم غزير الضوء والشاعر لا يزال يحمل مصباحه ويغدق عليه من زيت القلب كيلا يتوقف وجيب الضوء. تلك طريقته في التوجس من هذا السطوع العظيم. فقد رأى فيما يرى الشاعر أن العالم سيصاب بسكتة ضوئية مفاجئة ترديه جثة حالكة. ساعتها سيظهر الوجه الحقيقي للخوف في مرآة الظلام الكبير. ولا أحد غيره، وبفضل مصباحه النادر الذي يذرف أجنحة الضوء، سينعم برؤية الوجه البهي ذاك، الوجه الذي يشبه تماماً عين الحقيقة. وديوجين، هل كان يخاف انقطاعاً مفاجئاً للشمس. الشاعر والحاجر خلال مسيرة الشعر الطويلة، ظل الشعراء يضعون قصائدهم في نفس الكفة من الخُرج. ولقد وجدوا دائما من يضع أحجارا في الكفة الأخرى. الأحجار تلك لم تكن تضمن التوازن فحسب، وإنما جعلت بثقلها كفةَ الشعر هي الأعلى. الشعراء والحُجراء واكبوا الركب منذ فجر الرحلة. ولعل الضجر، أو لعلها الوعثاء ما جعل بعضهم يضع صنيعه في كفة البعض الآخر. علبة السرعة في أواسط القرن الماضي، دخلت عربة الشعر العربي محملة بعصور منه منعطفا غريبا. لم يكن عليها أن تقطع الطريق فحسب، بل أن تعبده وتستكشف محيطه أيضا. لقد كان للمخيلة أدوار عديدة، لعل أهمها دور علبة السرعة، ما جعل العربة تلك ذات دفع أسطوري، حتى أن القصائد الأولى لتلك الفترة كانت تعج بالآلهة من مختلف الجنسيات والأحقاب. مياه كثيرة جفت تحت الجسر قبل أن تفاجأ العربة، وغير قليل من ركابها، بهذا الطريق السيار الذي لا إشارة فيه لتحديد السرعة، وحيث المخيلات الرقمية تبز بعضها في التجاوز وإطلاق المنبهات. والجسر؟ هل تذكرون ذاك الجسر؟ لقد تداعى تماما ولم يعد بإمكان العربة أن تعود القهقرى.