ظل القطب الشمالي من وجهة النظر العسكرية منطقة استراتيجية هامة بالنسبة للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة الأولى. وتعد "ناوتيلوس" الذرية الأمريكية أول غواصة قامت في مطلع ستينيات القرن الماضي برحلة طويلة تحت جليد المحيط المتجمد الشمالي من شبه الجزيرة ألاسكا في الشرق إلى غرينلاند في الغرب. ثم مرت إحدى الغواصات السوفيتية عام 1962 بالطريق نفسه من الغرب إلى الشرق. لكنهما لم تتزودا آنذاك بصواريخ باليستية نووية. ولأول مرة، في 14 سبتمبر عام 1963، قامت غواصة "كا-178" الذرية السوفيتية الحاملة للصواريخ الباليستية والتابعة للأسطول الشمالي السوفيتي، برحلة بحرية صعبة تحت الجليد من ميناء مورمانسك في شمال غرب البلاد، إلى إقليم الشرق الأقصى. وأوكلت إلى طاقم الغواصة بقيادة العقيد البحري، أركادي ميخايلوفسكي، مهمة البحث عن مناطق ماء سائل في حقول الجليد الواسعة، تصلح لإطلاق الصواريخ الباليستية ودراسة إمكانيات الاتصال اللاسلكي من تحت الجليد، وفحص إمكانات أجهزة الملاحة في ظروف منطقة القطب الشمالي القاسية، وغيرها من المهام اللازمة لتحقيق المشاريع الاستراتيجية. وحضر قائد البحرية السوفيتية آنذاك الأميرال، سيرغي غورشكوف، وداع الغواصة عند انطلاقها من ميناء مورمانسك السوفيتي، ما يدل على أهمية تلك الرحلة البحرية الجريئة بالنسبة للقيادة العسكرية السوفيتية. وتعد "كا-178" إحدى الغواصات السوفيتية الأولى والتي كان بوسعها حمل صواريخ "آر-13" الباليستية المزودة برؤوس نووية. وكان بوسع الغواصة الغطس إلى عمق 300 متر والتسارع حتى 26 عقدة بحرية تحت الماء و8 عقد بحرية على سطح الماء. كما كان بمقدورها البقاء في البحر مدة 50 يوما. وبلغ عدد أفراد طاقمها 104. وغطست الغواصة تحت الجليد العميق شمالي أرخبيل أرض فرانسوا جوزيف واتجهت نحو الشرق. لكن الغواصة صعدت إلى سطح الماء بعد ساعات من انطلاق الرحلة، إذ عثر قائد الغواصة عن طريق الصدفة على موضع غير متجمد في البحر. ومن أجل الوصول إلى هذا الموضع، كان عليه أن يجعل الغواصة تصعد إلى الأعلى عموديا، مع العلم أنها تحمل على متنها صواريخ وطوربيدات، كانت الأمامية منها، عند القيام بمثل هذه المناورات، جاهزة دوما للإطلاق واختراق الجليد الذي بلغ سمكه أحيانا عشرات الأمتار، إذا اقتضى الأمر ذلك. واستغرقت تلك الرحلة البحرية للغواصة 16 يوما، قبل أن ترسو في خليح "كراشينينيكوف" بشبه جزيرة كامتشاتكا السوفيتية. وذلك بعد أن قطعت مسافة 4.5 ألف كيلومتر، بما في ذلك 3.5 ألف كيلومتر تحت الماء وألف كيلومتر تحت الجليد. وقال القائد الأسبق للغواصة النووية الاستراتيجية وبطل الاتحاد السوفيتي، ألكسندر أستابوف، الذي سبق له أن مر عام 1993 بالمسار نفسه تقريبا، قال إن مثل هذه الرحلات تحت الجليد تتطلب بذل جهود غير عادية، والتحلي بروح معنوية عالية ونكران الذات من قبل كل أفراد طاقم الغواصة دون استثناء، لأن ارتكاب أي خطأ، ولو كان بسيطا، يمكن أن يتسبب في وقوع كارثة وموت الجميع في قعر البحر أو في قبضة الجليد. وأضاف قائلا إن وضع بحارة الغواصة التي تسير تحت الجليد يمكن مقارنته بوضع رواد الفضاء. ومنذ ذلك الحين تراكمت عند البحارة السوفيت والروس خبرات هائلة لاستصلاح منطقة القطب الشمالي وجليد المحيط المتجمد الشمالي بصورة خاصة. أما الغواصات الروسية الاستراتيجية الحاملة للصواريخ، فتجوب حاليا بشكل منتظم أعماق المحيط المتجمد الشمالي. لكن قائد غواصة "كا-178" السوفيتية كان أول من شق تلك الطريق منذ 55 عاما. المصدر: نوفوستي