الحمد لله الذي أحكم بحكمته ما فطر وبنى وقرب من خلقه برحمته ودنا، ورضي الشكر من بريته لنعمته ثمنًا، وأمرنا بخدمته لا لحاجته بل لنا، يغفر الخطايا لمن أسا وجنا، ويجزل العطايا لمن كان محسنا، بين لقاصديه سبيلا وسننا، ووهب لعابديه جزيلا يقتنى، وأثاب حامديه ألذ ما يجتنى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (سورة العنكبوت آية 69). أحمده مسرا للحمد ومعلنا، وأصلي على رسوله محمد، أشرف من تردد بين جمع ومنى، وعلى صاحبه أبي بكر المتخلل بالعباءة راضيا بالعنا، وهو الذي بقوله تعالى وعنى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (سورة التوبة آية: 40) وعلى عمر المجد في عمارة الإسلام فما ونى، وعلى عثمان الراضي بالقدر وقد دخل بالفناء الفنا، وعلى علي الذي إذا بالغنا في مدحه فالفخر لنا، وعلى عمه العباس الذي أسس الله قاعدة الخلافة لبنيه وبنى. أما بعد: فقد استمعت لمقطع للمدعو الأخ وحيد النصراني يزعم فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل إلى مكة يوم الفتح أبقى على صورة مريم وابنها المسيح عليهما السلام.. وأمر بطمس جميع الصور إلا صورة مريم والمسيح.. واستدل النصراني وحيد بما جاء في أخبار مكة لمحمد ابن عبد الله الأزرقي وبما جاء في تاريخ الإسلام وسير أعلام النبلاء للعلامة المؤرخ شمس الدين الذهبي رحمه الله ج1 ص56: {فلما كان يوم الفتح دخل رسول الله إلى البيت، فأمر بثوب فبل بماء وأمر بطمس تلك الصور..}. قال وحيد وهو يشرح هذا الجزء من الحديث: "بعد 21 سنة من بعثة رسول الإسلام دخل فتح مكة وراح دخل الكعبة شاف صور الكعبة والتماثيل وغيرهم أشكال وألوان فقال لهم: أحضروا قماشة مبلولة بماء وأمر بطمس بمسح كل الصور الموجودة في الكعبة. طيب فين المفاجأة؟ تعال شوف معايا المفاجأة..". ثم أكمل وحيد باقي القصة: "وأمر بطمس تلك الصور ووضع كفيه على صورة عيسى وأمه وقال: امحوا الجميع إلا ما تحت يدي" انتهى. الرد: أولاً: وحيد عندما استشهد بهذه القصة بما ورد في أخبار مكة وتاريخ الإسلام والسير لم يعرض حتى إسناد الرواية التي هي الضابط الشرعي في معرفة صحيح الخبر من سقيمه واكتفى بالمتن دون ذكر سند الرواية ربما لأنه يعلم ان النصارى لن يراجعوا وراءه هذا ان كانوا قد سمعوا عن علم عند المسلمين يسمى بعلم الحديث.. وهذه الفعلة مشهورة أنها من الأساليب التي يتخذها المنصرون حتى يتوهم المشاهد بأن ما يقوله ثابت مسلَّم. يقول العلامة شعبة بن الحجاج: {إنما يعلم صحة الحديث بصحة الإسناد}(1) ثانيًا: أي شخص سيعود لهذه القصة التي ذكرها الأزرقي في أخبار مكة سيجد انه أوردها بأربع أسانيد. – الإسناد الأول: قال: حدثني جدي قال حدثنا مسلم بن خالد الزنجي عن ابن أبي نجيح عن أبيه قال: {جلس رجال من قريش -في المسجد الحرام-.." فذكر خبراً طويلاً في بناء الكعبة, وقال في آخره: "وجعلوا في دعائمها صور الأنبياء وصور الشجر وصور الملائكة، فكان فيها صورة إبراهيم خليل الرحمن شيخ يستقسم بالأزلام، وصورة لعيسى بن م ريم وأمه وصور الملائكة عليهم السلام أجمعين، فلما كان يوم فتح مكة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فأرسل الفضل بن العباس بن عبد المطلب فجاء بزمزم ثم أمر بثوب فبل بالماء وأمر بطمس تلك الصور فطمست، قال: ووضع كفيه على صورة عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام وقال: "أمحوا جميع الصور إلا ما كان تحت يدي" فرفع يديه عن عيسى بن مريم وأمه}. وهذا خبر مردود لعلتين: أولاً: لأنه منقطع (2) فأبو نجيح لم يدرك زمن الجاهلية ولا زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – وإنما أدرك آخر زمن الصحابة رضي الله عنهم والمنقطع لا يثبت به شيء. العلة الثانية: مسلم بن خالد الزنجي وقد وثقه ابن معين وضعفه أبو داود وقال أبو حاتم: {لا يحتج به}، وقال النسائي: {ليس بالقوي} وقال البخاري: {منكر الحديث} (3) وهذا مما يزيد الخبر وهنا على وهنه. – الإسناد الثاني: قال وحدثني جدي قال حدثنا داود بن عبد الرحمن قال أخبرني بعض الحجبة عن مسافع بن شيبة بن عثمان: {أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يا شيبة امح كل صورة فيه إلا ما تحت يدي، قال فرفع يده عن عيسى ابن مريم وأمه}. وهذا خبر ضعيف وفيه علتان: أولاً: لأنه مرسل (4) فإن مسافع بن عَحبد الله الأكبر بن شيبة بن عثمان تابعي كما نقل عن العجلي ومحمد بن سعد وابن حبان وغيرهم في تهذيب الكمال.. ثانيًا: أنه منقطع، لأن في إسناده من لم يُسم ومثل هذا لا يثبت به شيء. في قوله: {قال أخبرني بعض الحجبة} ؟؟ فمن هؤلاء الحجبة الذين أخبروا داود بن عبد الرحمن ؟ الله اعلم. – الإسناد الثالث: قال حدثني جدي عن سعيد بن سالم قال حدثنا يزيد بن عياض بن جعدبة عن ابن شهاب: {أن النبي – صلى الله عليه وسلم – دخل الكعبة يوم الفتح وفيها صور الملائكة وغيرها فرأى صورة إبراهيم فقال قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام ثم رأى صورة مريم فوضع يده عليها وقال امحوا ما فيها من الصور إلا صورة مريم}. وهذا ضعيف جدا وفيه علتان: العلة الأولى: أنه مرسل من مراسيل الإمام العلامة ابن شهاب الزهري ومراسيل الزهري عند الأئمة ليست بشيء. قال يحيى بن معين: {مراسيل الزهري ليست بشيء}، وقال الشافعي: {إرسال الزهري عندنا ليس بشيء}(5) العلة الثانية: زيد بن عياض بن جعدبة وهو ضعيف كذاب قال عَبد الحميد بحن الوليد المصري ولقبه كبد، عَن عَبد الرحمن بحن القاسم: {سألت مالكا عَن ابن سمعان. فقال: كذاب. قُلتُ: يزيد بحن عياض ؟ قال: أكذب وأكذب. وقال عباس الدوري، عَن يحيى بحن معين: ضعيف ليس بشيء. وقال أحمد بحن صالح المصري: أظنه كَانَ يضع للناس، يعني الحديث. وقال عَبد الرحمن بحن أَبِي حاتم، عَن أَبِي زرعة: ضعيف الحديث وأمر أن يضرب على حديثه وعن أبيه: ضعيف الحديث، منكر الحديث. وقال البخاري، ومسلم: منكر الحديث. وقال أَبُو داود: ترك حديثه ابن عيينة يتكلم فيه. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال فِي موضع آخر: كذاب. وقال فِي موضع آخر: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وقال أبو أحمد بن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ}(6) – الإسناد الرابع: قال أخبرني محمد بن يحيى عن الثقة عنده عن ابن إسحاق عن حكيم بن عباد بن حنيف وغيره من أهل العلم: {أن قريشا كانت قد جعلت في الكعبة صورا فيها عيسى ابن مريم ومريم عليهما السلام قال ابن شهاب قالت أسماء بنت شقران امرأة من غسان حجت في حاج العرب فلما رأت صورة مريم في الكعبة قالت بأبي وأمي إنك لعربية فأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يمحو تلك الصور إلا ما كان من صورة عيسى ومريم.} وهذا خبر مردود أيضا لأمرين أحدهما: أن الرواية من بلاغات الزهري كما في قوله: {قال ابن شهاب} ثم ساق الكلام وبلاغات الزهري كما تقدم ليست بشيء، والثاني: أسماء بنت شقران وهي مجهولة غير معروفة، ومثل هذا لا يثبت به شيء. فهذه هي الروايات التي جاءت في كتاب أخبار مكة للأزرقي وسير أعلام النبلاء وتاريخ الإسلام والتي اقتبسها المدعو وحيد وأثبتنا أنها روايات ساقطة من الناحية الإسنادية ولله الحمد. ثالثًا: من المعلوم ان ديننا الإسلامي يحرم التصوير والتصوير أنوا منها صور التماثيل وتعليقها فهو يعتبر من الكبائر التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة. جاء في المسند وعند الترمذي بسند صحيح عن جابر رضي الله عنه قال: {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور في البيت ونهى الرجل أن يصنع ذلك}. وروى الإمام أحمد أيضاً والبخاري في تاريخه بأسانيد جيدة عن معاوية رضي الله عنه: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التصاوير}. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذي يضاهون بخلق الله}. وذكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قصة في هذا الأمر حيث قالت: {دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه هتكه وتلون وجهه وقال: يا عائشة أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذي يضاهون بخلق الله} رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه. فانظر أخي القارئ كيف حدثت السيدة عائشة عن ردة فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى تلك التصاوير وما فعل بها، فيستحيل ان يقرها ويأمر بإبقائها في بيت الله عز وجل إن كان في الأصل قد هتكها في بيت زوجته السيدة عائشة رضي الله عنها. والأحاديث في باب الصور كثيرة جدا مفصلة وفيها وعيد شديد يوم القيامة، قال عليه الصلاة والسلام: {أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون}. فلا يمكن ان ينهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم تارة ويقرها تارة أخرى حتى لو ادعى مدعي أن ذلك يدخل من باب الاستثناء فهو يتناقض مع صريح الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم ولا دليل على كلامه بل على النقيض من ذلك، و إن الملائكة لا تدخل لبيت فيه صور كما حدث عن ذلك الصادق المصدوق. فقد روى الإمام أحمد والبخاري والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال {دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم، فقال: أما لهم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة هذا إبراهيم مصور فما له يستقسم}. قلت: وهذا الحديث لوحده يضرب عرض الحائط تلك الروايات الساقطة التي استشهد بها وحيد فالحديث واضح في إنكاره صلى الله عليه وسلم لصورة إبراهيم ومريم حين رآهما في الكعبة. رابعًا: قد ثبت في الأخبار الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بطمس ومحو جميع الصور الموجودة في الكعبة وأنه صلى الله عليه وسلم دخلها وما فيها شيء من الصور قط. قال الإمام أحمد حدثنا روح -وهو ابن عبادة القبسي- حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: {إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب يوم الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، ولم يدخل البيت حتى محيت كل صورة فيه} إسناده صحيح على شرط الشيخين. والحديث صريح وواضح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل إلى البيت حتى محيت جميع تلك الصور وهذا ان كان يدل على شيء فإنه يدل على كذب تلك الروايات المتهالكة، ولا يوجد دليل واحد صحيح صريح في استثناء صورة المسيح ومريم بل الصحيح إنكاره على ذلك كما تقدم في حديث ابن عباس الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله. وفي الأخير حاول المدعو وحيد أن يوثق تلك الروايات بالرجوع إلى الضال عدنان إبراهيم الذي استشهد بنفس الروايات التي تم بيان ضعفها ولله الحمد، فظن وحيد ان بذلك العرض قام بالتوثيق العلمي وعرضها على أنها صحيحة. على أساس ان أقوال عدنان إبراهيم الشاذة تعتبر حجة على المسلمين ولمزيد من الفائدة فقد رد عليه شيخنا أبو عمر الباحث في حلقته بعنوان: (للمرة الثانية عدنان إبراهيم يكذب على الرسول لإرضاء النصارى) الخلاصة: 1- الروايات التي استشهد بها وحيد ضعيفة جدا لا يحتج بها 2- تلك الروايات تتناقض مع صحيح الأحاديث التي فيها إخباره صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب بطمس جميع الصور المتواجدة داخل الكعبة دون استثناء. 3- تتناقض مع صحيح الأحاديث التي تنهى عموما باتخاذ الصور بل إن الملائكة لا تدخل لبيت فيه صور كما تقدم. وهذا نسأل الله التوفيق والسداد وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم. تم ولله الحمد مراجع البحث: (1) التمهيد (1/57) (2) الحديث المنقطع هو ما سقط من سنده راوٍ واحد أو أكثر لا على التوالي، أو ذُكر فيه راوٍ مبهم مثل (رجل.. شيخ).. وسبب ضعفه فقده لاتصال السن. (3) سير أعلام النبلاء للذهبي ج8 ص117 (4) المرسل هو ما رفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير. (5) شرح علل الترمذي (1/ 283 – 284) (6) الكامل في ضعفاء الرجال ج9 ص 141. التنبيه على خبر باطل في أخبار مكة لفضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري.