تطرح زيارة إيمانويل ماكرون إلى الجزائر سؤال أفق العلاقات الجزائرية الفرنسية، وما إذا كانت ستبدد جليد الخلاف بين البلدين، وتؤسس لتفاهمات استراتيجية، وتفتح الطريق لعودة الاستثمارات الفرنسية، وتشكيل رؤية مشتركة حول الملفات الخلافية بين البلدين؟ الجواب عن هذا السؤال يتطلب طرح ثلاثة أسئلة ضرورية يتعلق الأول بماذا تريد الجزائر اليوم من فرنسا، والثاني بماذا تريد فرنسا اليوم من الجزائر، ويرتبط الثالث بحدود تحقيق هذه التطلعات المشتركة، وتحديات ذلك في سياق إقليمي مشوب بكثير من التوتر والحذر. فرنسا تمر من فترة صعبة في علاقتها بكل من إسبانيا والمغرب، وهي تترقب موسم شتاء صعب بسبب أزمة الإمدادات الطاقية، وتتحرك في سياق حذر بسبب خشيتها من خروج علاقاتها مع المغرب من دائرة البرود إلى دائرة التوتر. الجزائر هي الأخرى تمر في فترة صعبة، وذلك بسبب توتر علاقتها مع إسبانيا، وبسبب انزعاج أوروبي أمريكي من انتقال تقاربها مع روسيا إلى خدمة لوجستية لها تعينها على تقوية نفوذها في منطقتي شمال إفريقيا والساحل جنوب الصحراء، لكنها في المقابل تعيش لحظة انتعاش مالية مهمة، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، وتكثف الطلب عليها أوروبيا بسبب قدرتها على تحقيق جزء من الإمدادات الطاقية نحو أوروبا. الجزائر تنظر للعلاقات مع فرنسا من منظار خاص، تغطي الذاكرة أكثر من نصفها، ويغطي النصف الآخر قضايا إقليمية تتعلق بملف الصحراء والعلاقة مع المغرب، فضلا عن الملف المالي وأيضا الليبي. النظرة الفرنسية مختلفة تماما، فما يهمها اليوم من الجزائر هو تلبية حاجتها من الإمداد الطاقي حتى تتجنب شتاء قاسيا، والتمكين لمصالحها الاقتصادية والتجارية، وتحصين نفوذها اللغوي والثقافي، حتى لا تسير الجزائر في طريق دعم اللغة الانكليزية ومحو اللغة الفرنسية من المنظومة التربوية، وهي تتطلع في المحور الإقليمي أن تبدد جزءا من الخلاف على مستوى الملف المالي. تبدو هذه هي التطلعات التي يريد كل بلد تحقيقها من الآخر، لكن، ليس من السهل تصور حصول تفاهم على كافة هذه المستويات، لأن إمكان تحقيقها في ظل المناخ الإقليمي المتوتر، يظل صعبا، ففرنسا لا يمكن أن تحرق كل أوراقها، وتربك خط التوازن الاستراتيجي الذي كانت تتعامل به مع كل من المغرب والجزائر، وهي في الوقت ذاته، لا يمكن أن تخرج عن المحور الأوروبي، بل والأمريكي، في ملف محاصرة النفوذ الروسي في شمال إفريقيا وفي غربها أيضا. أما الجزائر، فقرارها الخارجي أيضا مقيد بجملة إكراهات تمنعه من الذهاب بعيدا في رسم أفق العلاقات مع فرنسا، فهي مرتبطة بالمحور الروسي، سواء على مستوى التفاهمات في مجال الطاقة، أي أن الجزائر لا يمكن لها بحكم علاقتها الوطيدة بموسكو أن تكون أداة لإفشال التكتيكات الروسية في إدارة الصراع مع أوروبا، ولا يمكن لها أيضا أن تطعن موسكو من الخلف سواء في الملف الليبي أو الملف المالي، وحتى نقطة الاستثمارات التي تعتبر أقل خلافية بين البلدين، بحكم أنهما معا يرغبان في عودة الاستثمارات الفرنسية إلى الجزائر وتعزيزها، فهي الأخرى، غير مرشحة للذهاب بعيدا لأن الرؤية الشمولية التقليدية التي تحكم نظرة الجزائر للاستثمارات لا يمكن أن تشجع كثيرا في هذا الباب. فإذا استحضرنا المحيط الإقليمي، وبالضبط العلاقة مع المغرب، فإن خيارات فرنسا تبقى جد محدودة، لأن أي استثمار سياسي واستراتيجي في العلاقة مع الجزائر يعني فقدان حليف استراتيجي يملك أوراقا مهمة في الضغط على فرنسا، وفي تعظيم معاناتها خلال فصل الشتاء المقبل. ما يؤكد ذلك مؤشران اثنان، أولهما ما ورد في خطاب الملك محمد السادس في ذكرى ثورة الملك والشعب، والذي من المؤكد أنه قرئ فرنسيا على أنه تهديد سبق زيارة ماكرون إلى الجزائر، حيث أكد الملك بأن الصحراء أضحت هي نظارة المغرب في توجيه السياسات الخارجية ودعا الحلفاء التقليديين (ويقصد على وجه الخصوص فرنسا) إلى إنهاء مرحلة الغموض والازدواجية في هذا الموضوع، وحذر من أن هذا الخط يعني انتهاء العلاقات الاستراتيجية مع باريس. أما المؤشر الثاني، فقد سبق هو الآخر الزيارة، ويتمثل في إعلان إيمانويل ماكرون عن عزم باريس القيام بوساطة والتحضير لرباعية يحضر فيها الطرف الإسباني والمغربي والجزائري والفرنسي لخلق تفاهمات جديدة تجيب عن تحديات الحرب الروسية على أوكرانيا على المنطقة. تبعا لهذا التحليل، يمكن أن نسجل صعوبة كبيرة ستجدها المباحثات بين الطرفين على مستوى النظر للقضايا الإقليمية، وبشكل خاص قضية الصحراء والملف الليبي والملف المالي، ومن المرجح أن تترك قضية النفوذ الروسي في المنطقة ودور الجزائر في الخدمة اللوجستية لها، وأن يتم التركيز على أجندة أخرى، يتم فيها مقابلة الذاكرة بالإمدادات الطاقية والاستثمارات الفرنسية في الجزائر، مع طمأنة باريس بأن الجزائر لن تكون فاعلة في تقويض نفوذها اللغوي والثقافي في المنطقة، وأنها بدلا من ذلك ستعمل على استبقاء الحالة التي سبقت التهديد بإحلال الإنكليزية في منظومة التربية والتكوين بدل اللغة الفرنسية. فرنسا تعرف أن ملف الذاكرة حساس، وتعرف بخبرتها التاريخية أنه يأخذ الجزء الأكبر من الزمن في محادثات رؤسائها السابقين مع مسؤولي الجزائر، وتدرك أن الطرف الجزائري سيحس بنشوة كبيرة عند أي تنازل فرنسي، ويمكن أن يغطي هذا التنازل على كافة الملفات، ولذلك، من الأرجح أن يتجه الطرف الفرنسي إلى حلحلة هذا الملف، وتقديم مزيد من التنازلات دون الوصول ضرورة إلى الاعتذار، لكنها في المقابل، ستكون مشتطة في الطلب من جهة ثلاث أجندات أساسية: أولها تلبية الإمدادات الطاقية، والثاني، عودة الاستثمارات الفرنسية وأخذ ضمانات بعدم المس بالمصالح الفرنسية، والثالث، هو تحصين النفوذ اللغوي والثقافي الفرنسي في الجزائر والحفاظ على موقع اللغة الفرنسية في منظومة التربية والتكوين. المشكلة أن الإمدادات الطاقية تواجه إكراه الاعتبارات التقنية، فالجزائر تربطها بأوروبا ثلاثة خطوط أنابيب، يمر الأول مباشرة من الجزائر إلى إسبانيا، والثاني من الجزائر إلى إسبانيا عبر المغرب، والثالث من الجزائر إلى إيطاليا. الأقرب من جهة التصور التقني للإمدادات الطاقية الجزائرية إلى فرنسا، أن يتم ذلك من جهة إسبانيا، ولذلك تعمل فرنسا جاهزة قبل شتاء العام المقبل على إعداد أنبوب غاز يربطها بإسبانيا يمتد لحوالي 800 كيلومتر. الإشكال أن الجزائر علقت العمل بالأنبوب المغاربي العام الماضي، وأبقت على أنبوب "ميد غاز" وحده لإمداد الغاز إلى إسبانيا، وحتى في الحالة التي تحصل فيها تفاهمات بين فرنسا وإسبانيا والجزائر حول الإمدادات الطاقية الجزائرية إلى باريس، فإن مشكلة الأنبوب المغاربي ستطرح من جديد، بسبب أن الإسبان جد منزعجين من عدم وفاء الجزائر بالتزاماتها بالتدفق المسترسل للغاز الناتج عن ضعف سعة أنبوب ميد غاز وحاجته للصيانة كل حين، فما بالك إن فرض على هذا الأنبوب مد إسبانيا وفرنسا معا بالغاز. التطلعات الممكنة وحجم الإكراهات تقول بأن الأفق الممكن للعلاقة الفرنسية الجزائرية لن يتجاوز هذا المستوى، وأن أي تجاوز له يعني دخول العلاقات الفرنسية المغربية إلى نفق مظلم، يمكن أن يدفع المغرب لاستعمال أوراقه المختلفة، على غرار ما فعل مع إسبانيا وألمانيا قبل تحول موقفهما من قضية الصحراء. فرنسا جربت في 2016 تداعيات التوتر على مستوى ملف واحد يهم التعاون الأمني والقضائي مع المغرب بعد أن اتخذت الرباط قرارا بتعليقه، وقد أدركت بعد الهجمات الإرهابية (باريس ثم نيس)، أنها خسرت كثيرا من جراء تبنيها لرؤية تنظر للمغرب على أساس أنه مجرد لاعب مساير السياسة الفرنسية في غرب إفريقيا، وليس فاعلا منافسا وشريكا. ولذلك، فقد سارع ماكرون إلى الإعلان عن ورقته لتشكيل لجنة رباعية لتحقيق تفاهمات بين الرباط ومدريد والجزائروباريس، وذلك لأنه يعلم أنه حتى ولو بدأ زيارته إلى الجزائر بعد انتخابه رئيسا لولاية ثانية وذلك على غير المعتاد، فإن المصالح الاستراتيجية الفرنسية لا تتحمل أن تمضي في اتجاه واحد.