منذ مدة ونحن نرصد التحولات التي بدأت تستشري في صفوف الحركة الإسلامية، ونرمق ظواهر فكرية غريبة، يُسوّق لها باسم الإسلام ومقاصده تارة، وباسم مبدأ الحرية تارة أخرى، مع غياب تحكيم المرجعية الإسلامية في مثل هذه القضايا. مما جعل بعض المخلصين أن يؤسسوا فريقا للدفاع عن ثوابت الأمة، والذود عن محكماتها، وحفظ معلومها من الدين ضرورة. ولم يكن مقال أستاذنا أحمد الريسوني حفظه الله عن هذا المنحى ببعيد، حين اختار له عنوانا معبرا ومقصودا وهو (كي لا نضيع مرجعيتنا بأنفسنا)، ولم يكن ليتطرق لموضوع المرجعية الإسلامية لولا أنه، وهو الخبير بالحركة الإسلامية وأحد روادها ومؤسسيها الأُوّل، رأى ما رأى من انحراف واستنكاف عنها، وخفوت في الاستدلال بها، ومراعاتها في الخطاب. ونحن نقتطف هذا الجزء الذي قدم به لمقاله بقوله: "مما يلاحظ في السنين الأخيرة أن الخطاب الإسلامي لدى عدد من أصحابه بدأ يتقلص فيه اعتماد المرجعية الإسلامية وحضورها بشكل واضح ومتزايد، وبدأت تصبح فيه هذه المرجعية باهتة ومحتشمة، لصالح اعتماد المرجعيات السائدة: سياسية كانت أو إعلامية أو ثقافية أو قانونية". إن قوة الحركة الإسلامية، ليس في خطابها السياسي، ولا حتى في نضالها الحقوقي، لأن هذا الحد قد تشترك فيه مع غيرها من الحركات التغييرية العالمية أو المحلية، أو قد تكون مسبوقة إليه من بعضهم، لكن سر قوتها يكمن في اعتزازها بمرجعيتها الإسلامية في خطاباتها سواء السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية…إلخ. وهنا يستغرب المتتبع من غياب كامل أو شبه كامل للمرجعية الإسلامية، وعدم الالتفات إليها في معالجة قضايا كثيرة. والغريب الذي يجعل الحليم حيرانا أن بعض خطابات أو معالجات بعض الإسلاميين كانت تتوافق مع المنحى العلماني، إن لم يكن بعضها يمتح منه من غير تصريح، أو يحاول أن يسدل على العلمانية ثوبا إسلاميا، بدعوى المقاصد والموافقة لروح الشريعة، فكأنما غدت المقاصد بلا أصول، ولا قواعد وضوابط، وهذا إفساد للمقاصد وزج بها في التسيب والفوضى، وإخراج لها عن نسقها الأصولي والشرعي. قد يحسب بعض الناس أن هذا لونا من المبالغة، وضربا من الظنون التائهات، ليس لها شيء ملموس في الواقع، ولكن من تأمل هذه القاضايا سيدرك حقيقة أن الخطاب الإسلامي في بعض القضايا قد حاد عن مرجعيته، وأصبح أقرب إلى العلمانية منه إلى الشريعة الإسلامية. وأنا أذكر هنا جملة من القضايا التي تبين ما سبق، وهي: القضية الأولى: مفهوم الإسلام فقد دأب المسلمون منذ مجيء الإسلام على أن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، يتضمن مجموعة من الأحكام العقدية والتشريعة، فهو عقيدة وشريعة، وهذا لا ينازع فيه أحد، بل أصبح معلوما بالضرورة من دين الأمة، يعرفه حتى عوام الناس، ولا يجادلون في ذلك. لكن أحد أبناء الحركة الإسلامية، ممن يتصدرون المشهد، لم يرتض ذلك، فقال كلاما غريبا فصل فيه بين العقيدة والشريعة، واعتبر الإسلام عقيدة بلا شريعة. قال في سياق حديثه عن الإسلام والتاريخ: "وهكذا يمكن أن نقول فصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان واستمراره تتعلق أساسا بقدرتنا على إعادة تعريف الإسلام في كل وقت وحين، بما يناسب التاريخ وديناميته، لعل أنسب تعريف في تقديري للإسلام من هذه القراءة التاريخية والثقافية، أن نخرجه من كونه عقيدة وشريعة، مع الالتباسات التي تثيرها كلمة شريعة، إلى أنه عقيدة وقيم، عقيدة ومنظومة قيم، بهذه الطريقة أو على الأقل، هذا هو المعنى الذي يبدو من خلال تاريخ الإسلام، وتاريخ الفكر الإسلامي أنه دائما الثابت الأساس كان هو القيمة أكثر من الحكم بمعناه الضيق. هذا التعريف للإسلام بهذه الطريقة ربما يسمح لنا بابتكار وإبداع خطاب إسلامي من شأنه أن يكون متصالحا مع مسألة الحريات الفردية بشكل عام." (ندوة الحريات الفردية في المكتبة الوطنية). فالرجل لا يخفي أن يصرح بأن الإسلام عقيدة لا شريعة، وأن مفهومه متحول بحسب الحقب التاريخية، والإسلام كما قال: "يحتاج إلى إعادة نظر ويحتاج إلى يعني مساءلة خاصة في علاقته بالتاريخ". ويقترح علينا تعريفا للإسلام وهو: "لعل أنسب تعريف في تقديري للإسلام من هذه القراءة التاريخية والثقافية، أن نخرجه من كونه عقيدة وشريعة، مع الالتباسات التي تثيرها كلمة شريعة، إلى أنه عقيدة وقيم، عقيدة ومنظومة قيم". ونحن نتساءل هل هذا هو الإسلام الذي أجمعت عليه الأمة، وارتضته في حياتها وتحاكمت إليه في قوانينها وتشريعاتها قبل حقبة الاستعمار؟ ثم متى كان الإسلام في صراع مع التاريخ؟ والغريب أن الرجل لا يفرق بين الإسلام باعتباره دينا منزلا من عند الله، وبين الاجتهادات البشرية التي تمثلتها المدارس الفقهية والعقدية وغيرها، وهذا خلط ناجم عن مدى التأثر بالعلمانية التي في أحسن أحوالها قد تقر بالدين من حيث كونه مسألة شخصية، لا دخل لها في الحياة، وأنه عبارة عن عقائد خاصة بأولئك الدراويش. وأغرب من هذا حين يدعي صاحب المداخلة أن الإسلام في صدام مع الحريات الفردية. ونحن نتساءل هل الإسلام يصادم الحريات الفردية الفطرية أم يصادم المفاسد التي تناقض الفطرة الإنسانية مثل الزنا واللواط والسحاق والعري والتبرج وشرب الخمر ووو، فمتى كانت المفاسد وعلى رأسها الحرية الجنسية من مقومات الوجود الإنساني؟ إن هذا لشيء عجاب. القضية الثانية: الفضاء الخاص ارتفعت أصوات علمانية تريد أن ترفع عن الزنا التجريم، وتطالب بتغيير القوانين التي تجرم ذلك، وأن لأي فرد أن يدخل مع خليلته إلى الفندق من غير أن يدلي بعقد الزواج، ومن حقهما أن يدخل أي بيت، ولا ينبغي لأحد أن يتعرض لهما حتى من رجال الأمن. ومعنى ذلك حسب تصريح إحدى المناضلات الجنسانيات أن ذلك لا يعتبر زنا، من حقهما أن يمارسا الزنا فهما بالغان راشدان. الغريب أن يطلع علينا أحد وزراء التيار الإسلامي مؤيدا لهذه الدعوة الفاجرة، وأن يصرح بأن لا حق لرجال الشرطة بأن يتعقبوا الناس في الفضاء الخاص، قال: "لا مجال للتجسس ولا مجال للتلصص ولا مجال لتكسير الأبواب، ولا ولا لضبط هذه الحالات، لذلك فإن الأصل في موضوع الحريات الفردية هو اعتباره حقا ثابتا للإنسان دون منع أو مضايقة، مادامت لا تمثل استفزازا للآخر، ولا تمارس إلا في الإطار الخاص،.. إذا تأكد ان الفضاء الذي تمارس فيه الحرية ينبغي أن يبقى خاصا ومحميا، فإن الدولة لا علاقة لها به، ولا يجوز كما قلت أن تتجسس على الناس، ولا أن تكسر أبواب المنازل، ولا أن تقوم بالتفتيش القسري فيما وقع وما لم يقعط". لا فرق بين هذا الخطاب الذي يصدر من ابن الحركة الإسلامية والعلماني الذي يبيح الزنا، ومع الأسف فقد غفل صاحبنا عن أن الحرام حرام سواء في الفضاء الخاص أو العام، وكيف ينطق رجل دولة بهذا الكلام كأنه في دولة أوروبية، غافلا عن حماية الدولة لمواطنيها من المفاسد وعلى رأسها الزنا، الذي ينخر المجتمع. القضية الثالثة: الاتكاء في حل الخلاف الأسري على فكرة الصراع الأسرة في الإسلام مبنية على المودة والتراحم والتساكن والتكامل، كل فرد فيها له دوره ووظيفته، وعند حدوث النزاع هناك آليات لحله، وعلى رأسها الآلية الأخلاقية والفضل، غير أن بعض المنتسبين إلى الحركة الإسلامية طفقوا يأخذون من أدبيات الغرب العلماني في حل النزاع، أو في الدعوة إلى إثقال المنظومة التشريعية بكثرة القوانين التي تكون سيفا على أعناق الرجال، وترهق حتى النساء، إذ كثرة القوانين في العادة لا تحل المشاكل، بل تعقدها في ظل غياب لمبدأ التخلق والتقوى. لهذا وجدنا من يريد أن يزيد المرأة رهقا حين نادى بتثمين العمل المنزلي، بأن يؤدي الزوج أجرة لزوجته على خدمتها المنزلية، فلم تصبح الزوجة زوجة، وإنما حولوها بدعوتهم إلى أجيرة أو عاملة في بيت الزوج، مخالفينا في ذلك كل الأعراف والتقاليد والقيم الإسلامية التي أصبحت متوارثة وراسخة، وتقرها النصوص الشرعية، بل وترضى بها النساء قاطبة، ولا يجدن في أنفسهن حرجا ولا تبرما. وفكرة خلق الصراع داخل الأسرة، وتثمين العمل المنزلي فكرة مادية صرف، أصلها الفكر الغربي والمبالغة في حقوق المرأة، التي خرجت عن حد الاعتدال واللياقة والأخلاق والأدب، حتى سمعنا بمن يطالب بإدراجها في قانون مدونة الأسرة، وهذا لعمري تخريب للأسر وخلق التوتر بها، وتفكيك وحدتها ولحمتها. وهذا ما تريدها العلمانية بديار المسلمين. والغريب جدا أن يتمسك بعض منهم بحق الكد والسعاية التي أقرها بعض الفقهاء وعلى رأسهم ابن عرضون، مع العلم أن ابن عرضون يتحدث عن نوع من النساء في البادية يمارسن أعمالا شاقة فوق ما هو متعارف عليها، لكن أخواتنا الإسلاميات لا يهمهن هذا المنحى التأصيلي والسياق التاريخي الذي يتحدث عنه ابن عرضون وغيره، وإنما أردن أن يعممن حق الابتزاز والتسلط على مال الرجال بدون موجب حق ولا شرع، بحجة العمل المنزلي. ولا ينقضي عجبي ممن يتوسل إلى ذلك بمزيد من صلاحيات القاضي، وكأن صلاحياته محدودة جدا. وهذا خلاف الواقع، فالقاضي يزوج، ويطلق، ويحجر حفظا لحقوق الأيتام، وينظر في الإرث، فهو الكل في الكل، فجميع الصلاحيات في يده، لم يبق له إلا أن يدخل مع الزوجين في الفراش؟ فهل هذه الدعوة سديدة ورشيدة أم أنها دعوة لتبديد المجتمع باسم الإسلام والمقاصد والقواعد ووو. القضية الرابعة: الحجاب هناك من أبناء الحركة الإسلامية من يرى أن الحجاب الشرعي ليس واجبا، وأن للمرأة أن تكشف عن شعرها وبعض مفاتن جسدها. وقد سبق لي أن ناقشت أمثال هؤلاء، ولما زرت أستاذنا طه العلواني رحمه الله لما أتانا إلى المغرب، وفتحت معه النقاش حول هذه المقولة الخرقاء، قال لي: "لنفرض أنه ليس فيه نصوص شرعية، فهو مناقض لقصود التزكية، فما بالك والنصوص واضحة". هكذا أصبحت طائفة تتلكأ لثوابتها وقطعيات دينها، وتصريح إحدى البرلمانيات الإسلاميات واضح حين قالت بأن الحجاب ليس من أركان الدين. وهناك ممن ينتسبون إلى الحركة الإسلامية ممن لا حظ له من العلوم الشريعة، يطعن في صحيح البخاري، وأنه غير مقدس، وأنه ضمن صحيحه أحاديث منافية للعقل، ولا يقبلها الواقع، وبعضها يزدري المرأة. إننا اليوم أمام اكتساح للعلمانية وأفكارها الضالة للحركة الإسلامية، على حساب ثوابت واستقرار الأمة، باسم التجديد والتحديث، والتبرم من العقلية الفقهية التقليدية وغيرها من المصطلحات التي تنبئ عن جهل أصحابها بروح الشريعة وثوابتها وقطعياتها. ولا أعني بهذا أن نظل عاكفين على مقولات جامدة أو غير صالحة لزماننا، ولكن ليس من جيد الإصلاح أن تتبنى الحركة الإسلامية أو بعض أفرادها مقولات علمانية غربية، وإن لم يصرحوا بذلك، ولكن النتيجة واحدة، لمعالجة القضايا الراهنة، لا سيما المتعلقة بالأسرة والنظام الاجتماعي، وليس من الإسلام أن نفرق بين العقيدة والشريعة، فنقبل بالأولى ونستكف عن الثانية، فإذا صرنا على هذا المنوال ونسجنا عليه فقدنا لوننا، ولا يكفي أن نرفع شعار الإسلام. فالإسلام ليس شعارا أو ماركة، إنما هو ثوابت ومحكمات وقطعيات، وما عداها قابل للاجتهاد من أهله المبرزين فيه، وليس من أدعيائه. ولا مستقبل للحركة الإسلامية أبدا إن هي أشاحت بوجهها عن هذه الأسس الرشيدة، والأصول الهادية، التي لا تقبل المساومة أو النكوص عنها. قال تعالى: "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".