قال أبو المعالي الجويني عند موته: "وددتُ لو أموت على دين عجائز نيسابور"، عبارة جديرة بالتأمل، خاصة إذا علمنا أن الجويني من أقطاب علم الكلام، فها هو بعد رحلة طويلة من الجدليات والإغراق في لجة الفلسفات والاغترار بالعقل وتقديسه، يتمنى أن يعيش الإسلام في صورته البسيطة النائية عن التعقيد. لقد كان الأئمة يوجهون الناس الذين أغوتهم الفلسفة وخلْطَها بالدين إلى ترك هذه الأمور والرجوع إلى دين العوام الذين تواتر لهم قولا وعملا من عهد النبوة والرعيل الأول، دين الإسلام الذي أنزله الله للعالمين، من الملوك إلى رعاة الأغنام، من أهل العلوم إلى الشيخ الأُمّي المُغيّب في خيمته بالصحراء. دين سهل المنال، فكتابه غلب فيه المُحكم الواضح على المتشابه الذي يُرجع فيه إلى الراسخين في العلم الذين يقولون آمنا به كلٌ من عند ربنا. وأما نبي الرسالة صلى الله عليه وسلم فخيرُ من نطق بالضاد، أُوتي جوامع الكلم وروعة البيان وسهولة العرض، وسنُّته العملية جاءت في سيرته العطرة بتفصيل وسرْدٍ متسلسل مُفصّل شامل لكل مراحل حياته، وهو لم يكن لنبي من الأنبياء، لقد عشنا معه من خلال سيرته، فنحن نراه منذ طفولتنا كيف يأكل ويشرب ويفرق شعره، وكيف يعامل الأهل في البيت والصحب في المسجد والأعداء في ساحة القتال. لما سأل أحدُهم عمرَ بن عبد العزيز عن شيء من الأهواء، أجابه: "عليك بدين الأعرابي والغلام في الكُتاب والْهِ عما سوى ذلك. من لي بعيشٍ في ذلك الزمن الجميل، عندما كانت العقيدة وتحقيقها لا يحتاج إلى مجلدات لشرحها، فيدخل في الإسلام بلا إله إلا الله، عالمًا بأن معناها لا معبود بحقٍ ويستحق العبادة سوى الله، فمن ثم يُوّجه العبدُ وجهَه بالعبادة للذي فطر السموات والأرض حنيفا ولا يكون من المشركين. ثم يأتيه تقرير الوحدانية والتنزه عن الكفو والشبيه عندما يستقبل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 – 4]، وعندما يتطلع إلى العلم بأسمائه وصفاته جل وعلا يقرأ {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]، فأرشده القرآن إلى أن له أسماء حسنى تليق بكماله وجلاله، وأن عليه العمل بها لا مجرد العلم النظري، فإذا ما علم أن الله له صفة الوجه أو اليد أو العين أتاه قول من الله يحرس تصوراته ويحميها {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11]، فيوجهه إلى فهم هذه الصفات وفق تنزه الله عن مشابهة أحد من خلقه في ذاته أو أسمائه أو صفاته. ذلك الإيمان الذي شهد النبي صلى الله عليه وسلم بأنه خالط قلب امرأة بإقرارها أن الله في السماء، فقال (أعتقها فإنها مؤمنة). الإسلام الذي نزلت تشريعاته فتلقاها الناس بفورية الاستجابة، دون التباطؤ أو عرقلة الفضول، فيكفيه أن الله ورسوله قالا وأمرا ونهيا، فلا مجال للتردد. تتنزل التشريعات ولا تجد أحدهم يسأل هل الأمر للوجوب أم على سبيل الاستحباب، وهل النهي للتحريم أم على وجه الكراهة، فالانشغال برضا الله غمر العقل والوجدان. كان يكفيهم أن يروا نبيهم وهو يتوضأ حتى يصنعوا مثل صنيعه دون تكلف، وكان يكفيهم أن يقول لهم (صلوا كما رأيتموني أصلي) حتى تكون هذه صلاتهم دون زيادة أو نقص أو ابتداع. في ذلك العصر كان الناس يجتهدون إذا لم تكن دلالة النص قطعية واضحة تختلف فيها الأفهام، فيوم أن قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فهم بعضهم أنه يحثهم على الإسراع في المسير، فصلوا العصر قبل أن يصلوا، وأخذ بعضهم النص على ظاهره فلم يصلوا العصر إلا بعدما وصلوا إلى بني قريظة، فلم ينكر النبي على أحد الفريقين في اجتهاده، ولم نرَ معارك كلامية، ولا تسفيه ولا تنقيص من طرف لآخر. في ذلك العصر كان الناس لا يحتاجون إلى أعوام من الدراسة وتلقي العلوم حتى ينهضوا للعمل من أجل الدين، فما إن يُطلق أحدهم لسانه بلا إله إلا الله، حتى يعلم أن عليه واجبًا وعلى عاتقه مسؤولية في تبليغ هذا الدين. دونكم عهد النبوة والرعيل الأول وما تواتر عنهم، فيه الخير كل الخير، فيه الإسلام ببساطته وانسيابيته، دعوكم مما طرأ من الفسلفات والكلام والأهواء والتعقيدات، وهذا ما أعنيه وما عناه الجويني بدين العجائز، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.