هوية بريس – الثلاثاء 08 شتنبر 2015 لا شك أن للشعر دورا فعالا في إمتاع الناس، وإغناء وجدانهم وخيالهم بما يحثهم على الخير، وينشر بينهم من كريم الخصال، وجميل الصفات. وإن الخير في الأمة باق، والدعاةُ المخلصون لهذا الأدب الذين يحملون هذه القيم يتنامون يوما بعد يوم، والكتابات تَتْرى هنا وهناك، والوعي بالقضية أخذ ينمو وينضج، في وقت (كان الاقتراب من الأدب الإسلامي، كالاقتراب من حقل ملغوم، أو منطقة محرمة… حتى إنه كان يبدو لبعضهم أن هذه الخطوة، لن تكون غير صيحة في واد، أو نفخة في رماد)1، لكنها خطوة قَيَّض الله لها من ينافح عنها، ويدافع عن دعوتها، فاستوى عودها، وانتشرت في بقاع الأرض، حتى إنك لا تكاد تجد مكتبة تخلو من تأليف حولها. * مفهوم نظرية الشعر الإسلامي: الشعر قسيم النثر في تحقيق مسمى "الأدب"، ولقد دأبت كتب النقد قديما وحديثا على تناول مصطلح "الأدب" بالدراسة أولا، ثم الانطلاق منه إلى مكونيه: الشعر والنثر، من باب البدء بالعام للوقوف على الخاص. وما دامت "نظرية الشعر الإسلامي "جزءا من "نظرية الأدب" بعامة، فإني سأقتصر في بعض مواطن البحث على استعمال مصطلح "الأدب الإسلامي"، إذ ما يصدق على الكل، يصدق -هنا- على الجزء. والمقصود بالنظرية -هنا-، محاولة إيجاد نسق أدبي يحكمه التصور الإسلامي، ويلفه المشروع الدعوي العام، الذي يحاول أن يجعل من هذا الأدب وسيلة ناجعة، تجلي هذا التصور، وتَرْكُزُهُ في النفوس، انطلاقا من أن الأدب وسيلة تأثيرية قوية في النفس المنفعلة الحية. فالنظرية عمل يستهدف محاولة وضع الخطوط الكبرى التي يجب أن تحكم الأدب. والتنظير في الإسلام ليس بحثا عن أسس جديدة، تكون محض اجتهاد بشري، تبنى عليها المشروعات المزمعة، وليس ضربا من الخيال يدغدغ شعور المفكرين القابعين في البروج العاجية، يُنزّلون عليه هموم الناس و قضاياهم.. بل هو إعادةُ النظر في ثوابتَ هي أصلا موجودة، أقرها الدين، وركز قواعدها، وعالجها علماؤنا عبر القرون المتوالية -فيما يُسمح لهم به شرعا من الاجتهاد-، وتنزيلٌ للنصوص على الواقع، وربطٌ للمتغيرات بالثوابت، ومن ثم صياغةُ نسق يَنظِمُ حياة الناس، ويجمعهم حول مشروع موحد. فالتنظير في الإسلام -إذن- (لا يكون إبداعا لشيء غير موجود البتة، ولا إقامة كيانات صناعية في الهواء..، بل النظرية هنا، مجموعة حقائق موجودة، أو موجودة أصولها، وصياغة جديدة لمفهومات قائمة في الأذهان، وربما مبعثرة في صفحات متباعدة)2. على أن مفهوم النظرية بشكل مجرد، ليس بدعا في التاريخ الإسلامي حتى يقال: إنه من الوافد الدخيل، الذي يجب أن يرفض؛ فقد استقر عندنا مصطلح "النظرية الإسلامية للاقتصاد"، و"نظرية علم الاجتماع الإسلامي"، و"نظرية السياسة الشرعية".. فلا مانع -إذن- من صياغة نظرية في "الأدب الإسلامي". هذا على مستوى شيوع المصطلح واستقراره، أما على المستوى المعجمي، فليس -كذلك- ما يمنع من استعمال النظرية بمفهومها السابق، الذي يتضمن معنى التأمل في التراث الأدبي الإسلامي، واستنباط الخطوط العريضة التي تحكمه. جاء في "مختار الصحاح": (النَّظَرُ والنَّظَران بفتحتين: تأمل الشيء بالعين)3. وفي "اللسان": (تقول العرب: دُورُ آل فلان تَنْظُرُ إلى دُورِ آل فلان، أي: هي بإزائها ومُقابِلَةٌ لها… و"النَّظَرُ": الفكر في الشيء، تُقَدِّرُه وتقيسه منك)4. كما أشارت المعاجم الحديثة إلى ما يثبت ذلك. ففي "المعجم الوسيط"5: (نَظَرَ بين الناس: حَكَمَ وفَصَلَ بينهم). وجاء في "معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب"6: (نظرية الأدب هي: دراسة أصول الأدب بعامة، وفنونه ومعاييره، ومذاهبه عبر العصور والحدود القومية). ولا شك أن النظرية هي نوعُ حكمٍ على أدب مَّا، وإنصافه مما داخَلَه وليس منه، كما أنها محدِّدٌ للفواصل التي تُباين أدبا مَّا عن غيره. جاء في "المعجم الوسيط"7: (النظرية في الفلسفة: طائفة من الآراء، تفسر بها بعض الوقائع العلمية أو الفنية). وهو ما يؤكد ما سبق من أن "نظرية الأدب الإسلامي"، ما هي إلا كشف وجَلاء للمقومات التي وضعها الإسلام لفن القول، خاصة وأن معجزة الإسلام ذاتها، معجزة قولية بالأساس. ولو ذهبنا نستقرئ نصوص السنة، والآثار المروية عن الصحابة والتابعين، لحصلنا على كم هائل من المعايير والضوابط الكفيلة بضبط معالم هذه النظرية المنشودة. * دوافع التنظير للشعر الإسلامي: لا شك أن الأديب رائد من رواد البشرية، والناقد عين عليه، ترصده لتقومه وتوجهه، وهما الكفيلان بتصحيح مسار الأدب، وإزالة ما علِق به من غبار وأدران، طوال هذه الحقبة التاريخية، التي تمتد من عصر النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلى عصرنا هذا. ومن هنا تأتي أهمية التوطيد لهذا الأدب، ووضع نظرية متكاملة له. ولقد بات من الضروري وضع هذه النظرية، ليتميز خالص الشعر من زائفه، عن طريق وضع المقاييس الحقيقية التي تحكم جودة الأدب، وجَعْلِ حد لهذه المذاهب السائدة، التي تقطع الطريق أمام كل محاولة تروم الحق، وتنشد الفضيلة. إن النظرية كفيلة بأن تجمع الغيورين على هذا الأدب في خندق واحد، وتنتظِمَهم في سلك واحد، بدل تبديد الجهود هنا و هناك، والتي -في الغالب- تقتصر على الأدب الدفاعي، والنقد المعياري، الذي يسير خلف الأدب ولا يتقدمه. إن غياب البديل الإسلامي دافع لاستهلاك السائد من هذه المذاهب، التي -للأسف الشديد- رأينا من أبناء جِلدتنا من يبالغ في حمل أفكارها، ويتفانى في الترويج لمعتقداتها، مقتنعين بأنها تقدم النموذج المثالي للأدب الإنساني الرفيع8، وانعكس ذلك على إبداعاتهم، فجاءوا بما يصادم الإسلام، بل ويحاربه، تارة بمعاول الماركسية، وتارة بمعاول الوجودية، وتارة بمعاول اللادينية .. ووجدنا أدباءنا ونقادنا الإسلاميين حيارى أمام هذا الزَّخَم الهائل مما تطلع به علينا الصحف والمجلات كل يوم، وما تلقي به المطابع بين الحين والآخر، فإذا ما تحرك أحدهم للتغيير، فمن منطلق دفاعي فردي، وفي غياب منهجية موحدة، مما يفسر أنه (أصبح من الضروري، وضع خطة واضحة ودقيقة، من أجل مراعاة مبدإ تراكم المعرفة في الإنتاج الفكري والأدبي الإسلامي الجديد، حفاظا على الطاقات، ورعاية للقابليات، ..كما لا بد أن تقوم دراسات ناقدة ، تجيب عن مجموعة أسئلة تحدد أهداف العمل وغاياته، والحدود والشروط والوسائل اللازمة لترشيده وتوجيهه الوجهة السليمة، وتجلي السلبيات والإيجابيات، وتفك قيود التحكم الثقافي الذي يشل ويعطل فاعلية المسلمين)9. ولا ندري كيف ينكر الكثيرُ الدعوةَ إلى نظرية في الأدب الإسلامي، وهذه الإيديولوجيات الأخرى جعلت لنفسها مذاهب، وجعلت لكل مذهب نظريته الخاصة، فالإباحية مذهب، والشذوذ الجنسي مذهب، والعبث مذهب.. أفلا يتحتم علينا -نحن أيضا- التفكير في مذهب إسلامي للأدب، يَنْعَمُ بنظريته الخاصة، تحكُمُ تصوره، وتوجه مساره، وهو الأدب الأكثر رحابة وشمولية، والقادر على الوقوف في وجه الأدب المكشوف والمتهتك، الذي لا يواجه بمجرد المصادرة والشعارات وإبداء الغضب والقلق والتأفف، وإنما بالبديل القادر على منافسته. على أن هذه النظرية لا يقصد منه إقصاء الآخر وتنحيته، ولا تدعي أنها وحدها على الحق، وكل ما سواها على الباطل، وإنما تسعى لتوجد لها مكانا بين النظريات الأخرى، وتنتزع حقها في الوجود، وعلى القارئ بعد ذلك أن يتفاعل مع ما يأنسه من هذه النظريات، ويأخذ ما يناسب اعتقاده وتصوره. ويمكن حصر أهم الدوافع لإيجاد نظرية للشعر الإسلامي ونقده في النقاط الآتية: 1- ما عرفه الأدب الإسلامي -والشعر منه بخاصة- من تهميش وإبعاد، من طرف العديد من النقاد والمبدعين المسلمين، الذين يرون أن غاية الشعر تحقيق الكمال الفني والمكنة التعبيرية، وأن من سلامة التصور وكمال النباهة، عزلَ الدين عن الفن، وأن كل أدب يعالج قضايا الدين، هو تراث قديم، يجب القفز عليه وتجاوزه. 2- هذا التحدي الخطير الذي ترفعه الدول الغربية في وجه المجتمعات الإسلامية، وهو تسخير الفنون -والأدب واحد منها- لخدمة الدولة، ومعتقدات الحزب، والنمط الذي تبغي هذه الدولة أن ينشأ عليه أبناؤها، فجعلت من الأدب -وبخاصة الشعر والرواية والمسرحية- وسيلة فعالة لتغيير العقول، وتشكيل الوجدان، وتوجيه الفكر، ومن ثم لم تتأخر في صياغة نظريات عديدة للأدب. وقد اعتقلت الدول الاشتراكية الأدبَ بسياج عَقَدي مكين، وقَصَرت دور الأدباء على خدمة إيديولوجية موحدة، بل وهددت من خرج عن هذه السبيل، كما فعل "ستالين" حين كون (اتحاد الكتاب السوفييت، الذي أصبح أداة مباشرة لسيطرة "ستالين" على الثقافة… وأصبح النشر محظورا على غير الأعضاء فيه)10. وأكد "لينين" كون الأدب (ترسا ولولبا في آلة اشتراكية ديمقراطية واحدة عظيمة)11. 3- ظهور تيار "الحداثة المتطرفة" المعارضة للأدب الملتزم بقيم الدين تصورا ومنهجا وهدفا، الذي يعلن الثورة على الموروث، بل ويقصد الانقضاض عليه. فلم يعد غريبا أن نجد من يدافع عن مذهب "تمجيد الشيطان" "SATANISME"12، ويرفع صوته قائلا: (يَلْزَمُنا أن نُحيي شعر الشيطان)13، وينقب في كتب التراث ليستخرج منها كل انتهاك رديء، فيعتبره النموذج الذي يجب أن ينسج على منواله، ويجد ملاذه في عربدة "أبي نواس"، وجرأة "ابن أبي ربيعة"، مناديا: (إن الانتهاك هو ما يجذبنا في شعرهما)14. 4- تجاهل الدعوة إلى تمحيص تاريخ الأدب العربي، المسبوك – في غالبه – بيد المستشرقين، من حيث تدوينه، وتقسيمه، ودراسته، الذين لم يأل كثير منهم جهدا في تزوير بعض حقائقه، والطعن على خلفاء المسلمين، والاستنقاص من البارزين من الدعاة والصالحين، والترويج لكتب تخدم أهدافهم، ككتاب: "ألف ليلة و ليلة" و"حي بن يقظان"… 5- اختلال المعايير في اعتبار الشعر الجيد عند بعض نقادنا القدامى، فمنهم من نظر إلى اللفظ مجردا ففضله، وجعله وسيلة الشعر المقبول، ومنهم من اقتصر على المعنى، فجعل جماله مَناط الشعر الجيد، ومنهم من اعتمد صدق عاطفة الشاعر، ومنهم من قسم الشعراء بحسب البديع، ومنهم من فضل بحسب التقدم الزماني، فجرد المتأخرين من كل مِدحة، لا لشيء إلا لأنهم تأخروا في الولادة، ومنهم من جعل شرف الشعر بشرف صاحبه، وغضاضته بغضاضته، ومنهم من رأى الأفضلية لمن ينظِم في جملة أغراض، لا في غرض بعينه… وكلها معايير -في تصورنا- تنكبت الطريق، حين لم تضع في الحسبان المعيار الأخلاقي، الذي يجب أن يحكم المضامين، والذي على أساسه يجب تقديم الشعر أو تأخيره. ولا شك أن هناك بعض الكتابات التي حاولت معالجة الموضوع، لكنها تبقى مفتقرة إلى تجميع الجهود المحدِّدة للقواعد العامة، والضوابط السليمة للبحث، حتى لا يحصل التناقض بين أنصار هذا الأدب أنفسهم حول القضية الواحدة، وهذا ما دعا إليه الباحث "عبد الرحمن حبنكة الميداني" حيث قال: (الأدب الإسلامي بوجه عام، وأدب الدعوة بوجه خاص، يحتاجان إلى نظر جدي جديد حقا، ويحتاجان إلى إعادة كتابة تاريخهما، مع فرز الأدب الإسلامي من عموم أدب المسلمين، ولو على طريق تحديد قواعد عامة، ومع فرز أدب الدعوة من عموم الأدب الإسلامي بمصنفات خاصة)15. ولن تعوزنا النصوص الجادة المانحة للعناصر الفنية والمضمونية التي على إثرها يقوم صرح النظرية. وفي تراثنا ما يغني من المواقف والإبداعات التي لا تزال قابعة في بطون الكتب، تحتاج إلى من ينفض عنها غبار الإهمال والنسيان. فلا بد إذن من (دراسة النتاج الأدبي الأصيل في ضوء التصور الإسلامي والنقد الإسلامي، لإبراز ملامح هذا الأدب، وتقديمه إلى القراء من خلال الصورة النقدية الجادة)16. وهنا وقفة ضرورية لا بد أن تأخذها محاولة التنظير بعين الاعتبار، وهي تتعلق بنضوب أقلام النقاد في مجال استقصاء الأحاديث النبوية، وتمحيصها، ومعرفة صحيحها من سقيمها، إذ نرى أغلب كتب الأدب والنقد، تحشد كل ما نسب إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – مما يتعلق بالموقف من الشعر، دون روية أو تدبر. وهذا مجانف للقواعد العلمية، ومناف للضوابط الضرورية التي وضعها علماء مصطلح الحديث، فكان لزاما أن يعاد النظر في هذه الأحاديث وكذا الآثار المنسوبة إلى الصحابة والتابعين، بعين الناقد البصير، يستخرج صحيحها من ضعيفها وما لا يصلح منها للاحتجاج. وهذا "د. عباس الجراري" يعترف بكثرة الوضع و التزوير على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونِسبة أقوال وأحكام إليه لم تثبت، وبخاصة ما يتعلق بموضوع الأدب، فهو يقول: (إننا لا نشك في أن كثيرا من الأحاديث قد وردت بالمعنى دون اللفظ، وأن كثيرا من الأحاديث كذلك، قد حرف أو وضع ونسب للرسول)17. وأمر التمحيص هذا -مع كونه ضروريا- ليس بِالهَيِّن، لأن كتب السير والتاريخ والنقد والأدب، قد ملئت بهذه الأحاديث والروايات، وبخاصة ما ينسب إلى الصحابة، كاستحسان "عبد الله بن عباس" -رضي الله عنه- لشعر "ابن أبي ربيعة"، الذي اعتُمد فيه على رواية منكرة عند صاحب "الأغاني"، تفيد بأن "عبد الله بن عباس" رضي الله عنه، قد استمع إلى "عمر بن أبي ربيعة" ينشد رائيته18 في الحرم المكي، فاستحسنها رغم ما فيها من مجون وتهتك، وهي رواية تعارض النصوص الشرعية والأحكام الفقهية، رواية ودراية19. 6- وجوب العمل على التأصيل لأدبنا الذي يعكس صورة المجتمع المسلم، وعقيدته، وأخلاقه، وتصوره للكون والحياة والإنسان، فإذا كان لكل أمة آدابها، وثقافتها، ونظرتها التي تصدر عنها، فلماذا لا يكون لنا – نحن المسلمين – أدب يترجم عن حضارتنا وهمومنا، ويقوم برسالة الشهود الحضاري، ويجدد خصوصية هذه الأمة. فلا بد من إعادة النظر في الأدب الإسلامي نفسه، وإعادة الكتابة فيه، (وإعادة فرز وضبط القواعد العامة، والإشادة بالنصوص الإسلامية، وتخصيصها بتأليف ومصنفات)20. 7- العمل على إعادة النظر في الكثير من المناهج النقدية، التي تدرس الأدب خارج الإطار الديني، والسياق الأخلاقي، فيجب (دراسة النتاج الأدبي الإسلامي الأصيل في ضوء التصور الإسلامي، والنقد الإسلامي، لإبراز ملامح هذا الأدب، وتقديمه إلى القراء، من خلال الصورة النقدية الجادة)21، كما يجب توحيد الخطة بين النقاد الإسلاميين، للخروج بنظرية متكاملة لهذا الأدب. 8- العمل على تحفيز أولي النهى، ممن لهم اهتمام بالأدب والنقد، إلى النظر إلى الأدب بعين الإنصاف والموضوعية، لإزالة هذه المساحيق المستعارة عن وجهه، وتقديمه للناس على صورته الحقيقية، عبر الندوات، والمحاضرات، واللقاءات الأدبية .. فمما يحز في النفس، أن نسمع بالندوات تعقد هنا وهناك، لخدمة مختلف التيارات والاتجاهات الأدبية، في حين، تكاد تنعدم الدراسات الجادة للأدب الإسلامي، خصوصا وأن سلاح الأدب لم يكن ليخفى على أصحاب الاتجاهات المشبوهة، الذين عرفوا خطورته وقدرته على تلوين العقول والقلوب. يقول "محمد حسن بريغش": (إن أصحاب المذاهب المادية والجنسية، ركبوا أجنحة الأدب خاصة والفنون عامة، ليصلوا إلى عقول الناس ونفوسهم، وهكذا انتشرت مذاهبهم. ونحن -كمسلمين- علينا أن نعرف أدبنا، ونعرف أدباءنا، بالحوار، واللقاء، والدراسة، والعرض، والتحليل، والنقد، حتى نفتح بينهم وبين القارئ دروبا وأبوابا، ونلقي على مناحي هذا الأدب كلها أضواءً، و سيجد فيه الجيل -إن شاء الله- شرابا طاهرا عذبا، يمج بعده أشربة العابثين والمتاجرين بالجنس والمال والسلطان)22. 9- وجوب الرد على شبهات بعض المستشرقين، ومن تأثر بمنهجهم، ومنها: – أن الإسلام قد أدى دوره كاملا في وقته، ولكنه عاجز عن مواكبة التكنولوجيا والحضارة المعاصرتين، عقيدة وسياسة وأدبا. – وجوب القطيعة مع التراث، والفصل الكامل بين الحاضر والماضي. – إن الأدب الإسلامي مغرق في الدين، وإنه أدب فقهي يجب تجاوزه. – إحياء بعض مقولات النقاد المسلمين القدامى، التي يفهم من ظاهرها تقديم المنحى الفني على المضموني، ولا تبالي بتجاوز المقدسات إذا كان الشكل جميلا، كما أُثر عن"الأصمعي" و"القاضي الجرجاني"، و"قدامة"، و"الصولي" وغيرهم. – إن الشعر العربي – بعامة – و الإسلامي – بخاصة ، شعر ذاتي، لا يعبر عن الجماعة، ولا يعالج الواقع التاريخي والاجتماعي والسياسي.. – إن الأدب الإسلامي أدب وعظي خطابي تقريري، يكاد يخلو من المتعة الفنية. 10- من جهة أخرى، عرفت فكرة " الأدب الإسلامي" اعتراضات شتى، بدءا من المصطلح، وشرعيته، ومقاييس استخدامه، ثم -على افتراض قبوله-، فهل هو مذهب واتجاه، أم معيارية؟، ثم هل هو مضمون فقط، أم مضمون وفن؟ وهل هناك -فعلا- نماذج تمثل هذا الأدب أم لا؟… وهي كلها شبهات تحتاج إلى هتك ستارها، وبيان زيفها، لإقناع المعارضين، وإزالة الغبش عن المحايدين، الذين يقفون من هذا الأدب موقفا وسطا، لا يؤيدون ولا يعارضون. 11- وكثيرا ما رمي هذا الأدب بالانزوائية، والتقريرية، والفقهية، لا لشيء إلا لأنه يغلف موضوعاته بغلاف أخلاقي، ويحكِّم الإسلام في تصوره، فيدعو إلى الحق والصدق، ويرفض الطيش والزيف، أو لأن صاحبه قد يكون بَرَع في فن آخر من فنون العلم الشرعي، كأن يكون محدِّثا، أو فقيها، أو لغويا، فصار الشعر يوزن بما عليه صاحبه، لا بما هو شعر. "فالشافعي" لأنه اشتهر بعلم الأصول والفقه، شعره فقهي ديني، و"عبد الله بن المبارك" لأنه فقيه زاهد، شعره إرشادي توجيهي.. وهكذا، مما حدا بالناقد الشيخ:"عبد الله كنون" إلى أن يقول عن هذا اللون من الشعر: (طالما أغفله الكتاب، وتجنىّ عليه النقاد، وهو أدب الفقهاء، أعني شعرهم المغموز -ظلما- بالضعف، والمضروب مثلا لكل شعر ليس بذاك، فالآن أوان إنصافه، ورد الاعتبار إليه)23. ويقول عن فرائد هذا الشعر: (درج مؤلفو الأدب على استبعادها من النصوص الأدبية، لمجرد أنها إنتاج طائفة من الأدباء غلب عليهم وصف آخر غير الأدب، وهو الفقه والعلم، مع أن في دراستها وعرضها -العرض الذي يجلو محاسنها- متعةً و إثراءً لأدبنا العربي الأصيل)24. ولطالما همش شعر" القاضي عياض" -مثلا-، لا لأنه شعر (ليس بذاك)، ولكن لأن صاحبه اشتهر بالفقه والعلم والقضاء، فشعره شعر فقيه واعظ. ومناط هذه الشبهة هو الفصل المفتعل بين الأخلاق والقضايا الحضارية الأخرى، من سياسة، واقتصاد، وإدارة، وأدب.. والحق أن كل مجال خلا من الجانب الأخلاقي، كان عرضة للفشل، لأنه فقد الصمَّام الذي يقيه العثرات، ويوجهه إلى سبيل النجاة. وللتنظير شروط ضرورية، سنحاول تعرفها في مناسبة قادمة -إن شاء الله تعالى-. 1- افتتاحية مجلة "المشكاة" ع: 7 أكتوبر: 1987 ص:3. 2- "مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي" د. عبد الباسط بدر ص: 9. 3- "مختار الصحاح: نظر". 4- "اللسان: نظر". 5- مادة (نظر). 6- ص:413. 7- مادة (نظر). 8- ينظر مقال : "من أسلمة الأدب العربي إلى إنشاء أدب إسلامي" أنور الجندي مجلة الأدب الإسلامي ع:7 1995م ص:3. 9- "مدخل إلى الأدب الإسلامي" د. نجيب الكيلاني ص:10. 10- "الماركسية والنقد الأدبي" تيري إيجلتون ترجمة وتقديم : جابر عصفور ص:44. 11- نفسه؛ ص:45. 12- (نزعة ظهرت في فرنسا خاصة في أوائل القرن التاسع عشر، كانت روحها العامة الدفاع عن الشر، وتمجيد الشيطان، لما نسب إليه من شجاعة وكبرياء عند مواجهته للسلطة الإلهية، فأصبح ينظر إليه بوصفه شبه زعيم ثوري بطولي) ينظر: "معجم المصطلحات العربية في اللغة و الأدب": مجدي وهبة وكامل المهندس ص:120 (بتصرف يسير). 13- "زمن الشعر" علي أحمد سعيد (أدونيس) ص:240. 14- " الثابت و المتحول" علي أحمد سعيد (أدونيس) ج:1 ص:216. 15- "مبادئ في الأدب والدعوة"؛ ص:29. 16- مقال: "في الأدب الإسلامي ملاحظات وإيضاحات" محمد حسن بريغش مجلة المشكاة ع: 8 1988م ص:30. 17- "من أدب الدعوة الإسلامية"؛ د. عباس الجراري؛ ص:106. 18- "ومطلعها:[طويل] "أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أنتَ غادٍ فَمُبْكِرُ***غداةَ غدٍ أم رائحٌ فمُهجِّرُ" ديوان عمر بن أبي ربيعة؛ ص:120. 19- ينظر تفصيل ذلك في: "نحو منهج إسلامي في رواية الشعر ونقده" د. مصطفى عُلَيَّان ص:221. 20- "مبادئ في الأدب والدعوة" عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ص:29. 21- مقال: "في الأدب الإسلامي ملاحظات وإيضاحات" محمد حسن بريغش مجلة: "المشكاة" ع:8 1988م ص:30. 22- "في الأدب الإسلامي المعاصر" محمد حسن بريغش ص:222. 23- "أدب الفقهاء" عبد الله كنون ص:5. 24- نفسه.