الحديث عن الاجتهاد بما هو عملية استنباط للحكم الشرعي من مظانه وفق آليات ووسائل محددة عند أهل الاختصاص لمواكبة التطورات الحاصلة بفعل الدينامية التي تشهدها الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها هو حديث عن موضوع أصيل اعتنى به العلماء تأصيلا وتنظيرا وممارسة منذ العصور الأولى وسيظل هذا الاهتمام قائما ما دامت الحياة في حركة دائمة وتغير مستمر والذي يدعوا إلى إجراء النظر الاجتهادي في نصوص الشريعة الإسلامية أمور منها أن معظم نصوص الشريعة ظنية الدلالة بحيث تحتمل أكثر من معنى وهو أمر معهود يعود بالأساس إلى كون هذه الشريعة جارية على مقتضى اللسان العربي وأساليب العربية في التعبير ولعل من أهم الأساليب اللغوية التي يتطرق من خلالها الاحتمال إلى النص ما يتعلق بالحقيقة والمجاز فقد يكون اللفظ دائرا بين الحقيقة والمجاز فلا يدرى أيهما أولى بالاعتبار من الآخر فيلجأ المجتهد إلى إعمال النظر الاجتهادي من خلال البحث عن العلل والقرائن التي ترجح هذا المعنى أو ذاك فإن ظهر له ما يرجح به أحد الطرفين عمل به وإلا فالأصل في الكلام الحقيقة، ومن الأساليب أيضا ما يتعلق بالاشتراك اللفظي وهو أسلوب لغوي معروف يقوم على أساس اشتراك معنيين أو أكثر في اللفظ الواحد كلفظ العين الذي يطلق على معاني متعددة ولا يمكن حمله على معنى من المعاني إلا بدليل وهو ما يستدعي ضرورة إعمال النظر الاجتهادي في تحديد المعنى المقصود. ومن مقتضيات إجراء النظر الاجتهادي أيضا أن نصوص الوحي معدودة ومتناهية والوقائع لا متناهية فلزم من ذلك إلحاق اللامتناهي من الوقائع بالمتناهي من النصوص عن طريق الاجتهاد والمقايسة وإلحاق النظير بالنظير وهو ما يتطلب فقها آخر بالإضافة إلى فقه النصوص وهو فقه الواقع المتمثل في دراسة الأبعاد النفسية والاجتماعية والبيئة وغيرها دراسة كاشفة لحقيقة الأشياء حتى يتم تنزيل الحكم عليها تنزيلا سليما. ولم يهتم الفقهاء فقط بما هو حاصل بالفعل من قضايا ونوازل بل أسسوا لنظرية جديدة تقوم على أساس الانتقال مما هو موجود بالفعل إلى ما يمكن أن يوجد في المستقبل أي من الواقع إلى المتوقع ومن الحال إلى الاستقبال ومن الثابت إلى المتغير بحيث ظهر عندهم ما يسمى بالفقه الافتراضي القائم على افتراض أحوال ووقائع غير موجودة حالا لكنها يمكن أن توجد مستقبلا فوضعوا لها أحكاما اجتهادية بحسب الصورة المتخيلة والحقيقة التي يمكن أن توجد عليها، وقريب من ذلك أيضا نجد لهم اهتماما بما يسمى بمراعاة المآل القائم على اعتبار مآلات الأفعال والتصرفات في النظر الاجتهادي وفي هذا الصدد يقول الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله:" وهنا نكتة لابد من التنبيه إليها وهي أن (المآل) في الاعتبار الاجتهادي يقتضي نظرا تطوريا أي غير سكوني ذلك أن اعتبار المآل في تنزيل الحكم الشرعي هو نظر إلى الواقع في صيرورته الحركية فالمآل هو ذلك الواقع المصار إليه بعد حركة الواقع المشاهد وفرق بين هذا وبين نظر الفقيه في الفتوى في الواقع باعتبار حاله دون مآله فهذا نظر سكوني وتأمل ثابت أما النظر في المآل فهو رصد الحركة المتغيرة المؤثرة على الحكم الشرعي بعد تنزيله وإلباسه ظروف الزمان والمكان المتوقعة".(المصطلح الاصولي عند الشاطبي فريد الانصاري الصفحة 418 وما بعدها) وهكذا ظل الاجتهاد حاضرا في عمق المجتمع الإسلامي مواكبا لقضايا كل عصر بحيث لم تخل مرحلة من المراحل من تجديد وتهذيب وتشذيب ويشهد لذلك ما كتبه العلماء من كتب ومؤلفات تؤكد في مجملها على أن عملية إضفاء الجدة وإعادة قراءة النصوص في ضوء ما تفرضه مقتضيات كل عصر كانت ولا زالت وستظل ثابتة مع الزمن. واستنادا إلى هذه الحقيقة التاريخية نجد اليوم عناية خاصة بمقاصد الشريعة الإسلامية تأصيلا وتنزيلا ولا يخفى ما لعلم المقاصد من ارتباط وثيق بالنظر الاجتهادي وبقضايا التجديد إذ المجتهد لا ينظر إلى النصوص باعتبار ظواهرها وإنما ينظر إليها باعتبار عللها ومقاصدها فالعناية بالمقاصد بما هي جوهر الدين في علاقته بالحياة التي لا تعرف الثبات والاستقرار تضفي على الأحكام الشرعية نفسا تجديديا من خلال إعادة بعثها وربطها بسياقات متعددة في ظل ما يفرزه العصر من قيم وممارسات وأنماط اجتماعية واقتصادية وثقافية وتربوية. ومن تجليات هذه العناية ما كتبه مجموعة من العلماء يأتي على رأسهم الدكتور أحمد الريسوني حيث صدر له مؤخرا كتابا تحت عنوان "القواعد الأساس لعلم مقاصد الشريعة" وهو عمل فريد من نوعه لم يسبق إليه لأن هذه القواعد المتعلقة بالمقاصد وإن وجدنا بعضها مبثوثا في بطون كتب أصول الفقه إلا أنه لا توجد دراسة مستقلة تهتم بهذه القواعد المقاصدية على وجه الخصوص، يقول الدكتور احمد الريسوني في مقدمة كتابه :" فدعما لهذا العمل الناشئ وإرساء لأسسه وقواعده رأيت أن أتناول بمزيد من الدراسة والبيان ثلاثة من أركانه وقواعده وهي قواعد مترابطة متشابكة حتى ليمكن في النهاية اعتبارها قاعدة واحدة والقواعد الثلاثة هي: * قاعدة التعليل * وقاعدة الاستصلاح * وقاعدة المآلات." (القواعد الأساس لعلم مقاصد الشريعة ص7) وإذا كان التجديد والاجتهاد بهذه الأهمية فإننا يجب أن نؤكد من جهة أخرى على أن مسألة التجديد هذه لم تكن أرضا بدون مالك ولا حقا مشاعا يتصرف فيه الجميع وإنما كانت دائما خاضعة للرقابة الصارمة من طرف المؤسسة العلمية التي يمثلها علماء شهدت لهم الأمة بالتفوق والريادة في العلوم الإسلامية المختلفة وهذا ما أثبته التاريخ من خلال المواجهات الشرسة التي خاضها هؤلاء العلماء مع بعض التيارات الفكرية والعقائدية كالمعتزلة والخوارج والقدرية والجبرية وغيرها من التيارات التي لم تجد لنفسها البيئة المناسبة لنشر قيمها ومبادئها في ظل الرقابة العلمية والمنهجية من طرف المؤسسة العلمية بما لها من سلطة رمزية وقوة تأثيرية في توجيه الحركة الفكرية نحو المسار الصحيح. وكم من الأعمال والمشاريع التجديدية التي تنجز اليوم ويتم النفخ فيها والتضخيم من شأنها في الأوساط الفكرية والثقافية لكنها ما تلبث أن تضمحل وتختفي نظرا لكونها لا تراعي النسق التشريعي العام ولا تأخذ بعين الاعتبار المبادئ والأسس التي تقوم عليها أحكام الشريعة، والتي شكلت عبر التاريخ خصوصية حضارية بحيث لم تعد مجرد قواعد لفهم النص الشرعي بل أصبحت مع مرور الزمن منهج حياة وطريقة تفكير لدى الإنسان المسلم مما أكسبه قوة ومناعة ضد أي تيار لا يراعي هذه الخصوصية الحضارية. وبالجملة يمكن القول بأن الدين الإسلامي ليس ضد فكرة التجديد، فالتجديد بشرطه من مقتضيات الخطاب الديني وقد قال صلى الله عليه وسلم :" إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". (رواه أبوا داود رقم 4291) وقد صنف العلماء تصانيف في أسماء المجددين وما ينبغي أن يشترط في المجدد منهم جلال الدين السيوطي في كتابه (التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مائة) واليوم هناك مشاريع تجديدية عديدة تحظى بكثير من الاعتبار لأنها تنسجم مع الرؤية الإسلامية منطلقا وأهدافا وتفتح آفاقا جديدة للتعاطي مع نصوص الوحي في ظل التغيرات العميقة التي يشهدها المجتمع. ويبقى السؤال المطروح بالنسبة لهذه الأعمال التجديدية هو إلى أي مدى يمكن أن تساهم في إعادة بعث التراث الديني وإحياء الصلة المفقودة بينه وبين هذا الواقع المركب والمتسارعة أحداثه؟