حين تتأمل حركات الانقلاب في عهدها الحديث، وما تمارسه من تنكيل وتشويه لمعارضيها، تجد أن ذلك سمة تشترك فيها مع ما سبقها على مرّ التاريخ. ولكن ما أشبه الأمس باليوم، دوما هناك انخداع وعدم استخلاص للعبر. فمن جهة يُخدع التابعون بشعارات براقة مزيفة، فيُستخدمون غطاء لإنجاح الانقلابات، ومن جهة ثانية لا تستفيد الشعوب من فترات تولي قادة الانقلاب للحكم، بالإضافة إلى ما يطبع عهد هؤلاء من مظاهر القمع والتسلط والقهر لكل المعارضين؛ بل يتم التخلص حتى من مؤيديهم بعد انتهاء دورهم! ونحن هنا في هذا المقال، نقف وقفات مع نقطة سوداء تُنحت في جباه كل الانقلابيين، ألا وهي ظلمة السجون وقساواتها، وشدة ألمها وفتكها بالمخالفين والمعارضين، ليتأكد لنا أن المنقلبين طغاة مستبدون بطباعهم، لا يؤمنون بالتعددية ووجود المنافس حرا طليقا، ولا يأمنون لأقرب المقربين إليهم. لذلك ينهجون كل أساليب التجسّس والمراقبة واقتفاء أثر كل معارض أو حتى مشروع معارض، والسبب طبعا لا عجب فيه، ذلك أن ما أتى بالانقلاب ينبغي العمل على تحصينه بكل قوة وجبروت ضد كل انقلاب، وهكذا تدور الدائرة وتسير العجلة. ويعد السجن بما فيه من حرمان للحرية، وآلية من آليات الإخضاع والتذليل والامتهان لكرامة الإنسان، علامة بارزة من علامات الانقلابات المتتالية التي عرفها وطننا العربي على مرّ تاريخه، بالإضافة إلى آثاره الأخرى المُدّمرة لكل تعدد واختلاف. كما شكل السجن مجالا خصبا للإلهام وإنتاج أدباء، عُرفوا بأدب السجون، نقلوا لنا آلامها وآمالها، عرّفونا بزنازينها وأقسامها الداخلية، أشعرونا بأنين نزلائها وشوقهم وحنينهم، كما تعرفنا من خلالهم على صنوف وأنواع من التعذيب والتنكيل التي تقشعر لها الأبدان، فجاءت عدة كتب وروايات تنقل وتحكي الواقع الأليم، ومن ذلك: حياتي والسجن، السجن الوطن، الجنون في غياهب السجون، الخديعة الناصرية، القط الذي علمني الطيران، تلك العتمة الباهرة، تزممارت، أيام من حياتي، حدائق الرئيس، في الزنزانة، البوابة السوداء، يسمعون حسيسها، طريق جهنم…والقائمة تطول حتى يمكنك أن تتعرف عن أشهر السجون في الوطن العربي. فهذا سجن تدمر بسوريا الذي كتب على بوابته "الداخل مفقود والخارج مولود" أرّخ لأبشع أنواع التعذيب والقمع والتسلط لكل مخالف، وارتبط ذكره بأول انقلاب حدث في الوطن العربي عام 1949، وكان بذلك فاتحا لسلسلة من الانقلابات العسكرية، تولى الحكم على إثره حسني الزعيم، لكن سرعان ما انقلب عليه حافظ الأسد عام 1970 بعد أن تم تعيين أحمد الحسن الخطيب رئيسا مؤقتا كواجهة. وهكذا كان سجن تدمر من أسوأ سجون النظام السوري، لما اشتهر به من قتل للمعتقلين، وحدوث مجازر دموية عقب محاولة الاغتيال التي تعرض لها الراحل حافظ الأسد. وها هو نجله بشار الأسد يسير على درب أبيه في سياسة القمع والاعتداء على مخالفيه، متشبثا بالحكم رغم فظاعة المآسي التي طالت الشعب السوري، من اعتقالات ونفي وتشريد..فما أشبه الأمس باليوم. وفي مصر اشتهرت سجون طرة المركزية مرورا بسجن أبو زعبل، وصولا إلى سجن العقرب..وهكذا اشتدت آلة القمع ووحشية الاعتداء على المعارضين واستئصالهم من الوجود، وخاصة بعد القضاء على النظام الملكي واستبداله بنظام جمهوري، تم تدشينه بانقلاب عسكري جعل الملك فاروق يتنازل عن العرش ويغادر البلاد في 26 يوليوز 1952، وبعد ذلك ألغيت الملكية وأعلنت الجمهورية، وكان اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية إلى أن انقلب عليه صديقه جمال عبد الناصر، ووضعه تحت إقامة جبرية إلى وفاته، ثم تسلّط بعد ذلك عبد الناصر على الحكم من 1954 إلى 1970، مستمدا شرعيته من انقلاب أبيض، سمي ب "حركة مباركة"، وتحت شعارات وعدت بالقضاء على الظلم، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإقامة تعددية ديمقراطية..لكن كل ذلك كان حبيس الشعارات الحماسية المزيفة للحقائق، ففي عهده شهدت السجون المصرية أصنافا شيطانية من الترهيب والتنكيل بالمعارضين، وخاصة الإسلاميين في السجون الحربية، بدءًا ببرودة السجون وانقطاعها عن الشمس، مرورا بألم السياط ووحشيتها، والمكوث عراة أياما طوالا، وإطلاق الكلاب المدربة تنهش في أجسام المسجونين..إلى محاولة التخلص من كل من آمن بالثورة وتعلق بشعاراتها، وذلك بتهم مجانية مُعدة إعدادا دقيقا. وما أشبه الأمس باليوم! هذه مصر التي أرادت أن تتلمس طريقها للنهوض من جديد، اجتمعت جل أطيافها للثورة على نظام ديكتاتوري حكم لأزيد من ثلاثين سنة، وما عرفت بلاده في عهده إلا تراجعا وفقرا وفسادا..وتم خلعه في عام 2011، وأجريت انتخابات ديمقراطية حملت أول منتخب مدني لسدة الحكم، إنه الدكتور محمد مرسي الذي دبر شؤون بلاده لمدة لم تزد على العام الواحد، حتى تحركت آلة الانقلاب من جديد تجييشا، وإثارة لنعرات الطائفية المقيتة، فتحقق الانقلاب مرة أخرى بقيادة وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي في 03 يوليوز 2013. وهكذا جرت سنن التاريخ مرة أخرى من جديد، فبعد أن استتب له الأمر بدأ بمعارضيه قمعا واعتقالا ونفيا، ليصل بعد ذلك لمن وفر له غطاء الشرعية، واستخدمه لتحقيق أهداف الانقلاب، وأصبح السجن والتشويه والتهميش مصير الحالمين بثورة 30 يونيو. فهذا البرادعي تم نفيه وتشويهه، كما تم إقصاء جبهة إنقاذه، وذوبان جل قادتها؛ بل إن آلة القمع لم تستثن حركة 6 أبريل حتى بعد انقسامها، ولا تفرق بين الرجال والنساء، وأكثر من ذلك توجه مدفعيتها حتى للفنانين ورجال الأعمال.. !! ولنا نموذج آخر لسجن عرف بمجزرة بشعة راح ضحيتها أكثر من 1200 سجين في أقل من ثلاث ساعات عام 1996، إنه سجن "بو سليم" بليبيا، وحدث هذا في عهد الطاغية البائد معمر القذافي، الذي جاء هو الآخر بانقلاب عسكري جري في 01 شتنبر 1969 ليقضي بذلك على فترة النظام الملكي بقيادة الملك محمد ادريس السنوسي. وقد سمى القذافي انقلابه فتحا، وحمل معه شعارات العدل والعدالة، وتوزيع الثروات بالحقوق..كلذلك تبخر وراح أدراج الرياح، تشبث بكرسي السلطة لمدة تزيد عن أربعين سنة!، وتخلص من كل معارضيه من كل الأطياف، أذاق مخالفيه كل أنواع التعذيب والتشريد، لم يسلم من بطشه حتى المنفيون خارج بلاده، حيث لاحقهم بالاغتيالات والاعتداءات والمساومات، وتفنّن بضروب من التجبر والتسلط، حتى ظن نفسه ملك الملوك وقاهرهم، وأنه الواحد الأوحد الخالد الأبدي! إلى أن ضاق به الشعب ذرعا، فخرج متخلصا من خوفه، ليقول للطاغية كفى قمعا وجشعا، حتى لقي الطاغية حتفه متمرغا في التراب لدى الثوار، ونال ما يستحقه في نهاية مأساوية لمتغطرس متجبِّر. ولازال الشعب الليبي يتلمس طريق حريته إلى اليوم، ويسعى إلى ديمقراطية حقيقية تضمن تحصين مكتسبات الثورة، بعد تشكيله لحكومة وبرلمان شرعيين. لكن دم الانقلابيين مازال سيّالا متدفقا؛ إذ ظهر انقلابي قديم جديد، إنه اللواء خليفة حفتر، الذي يريد أن يحكم قبضته على البلاد بالحديد والنار، وهذه المرة بتعاون وتآزر مكشوف مع عشاق الانقلابات ومخططيها ومنفذيها.. إذن، فما أشبه اليوم بالأمس، وهكذا يدور التاريخ دورته فيؤكد لنا أنه كلما كان هناك انقلاب عسكري إلا ظهر معه قمع واعتداء لكل المعارضين والمخالفين، حيث لا يسود ولا يحكم إلا قادة الانقلاب، وما دونهم ينبغي عليهم الطاعة والخضوع والاستسلام..وغير ذلك تفتح له أبواب السجون مرحبة بكل وحشية وترهيب، ويكون الثمن المدفوع عمرا مديدا في الغياهب والزنازين، وقد يصل الأمر إلى الموت فداء للكرامة والحرية والعدالة..والتي لابد أن ينجلي ليلها ويبزغ فجرها؛ وإن بعد وطال.