هوية بريس – السبت 18 أبريل 2015 ذكرنا في مقال سابق أن الدعاء من أعظم أنواع العبادة التي يحبها الله تعالى، ويجازي عليها باستجابة طلب الداعي عاجلا أو آجلا، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الدعاء هو العبادة"، ثم قرأ: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" صحيح سنن ابن ماجة. وتبيَّنا أن الدعاء من صفات عباد الله المتقين، وأنه سبب لرفع غضب الله وتجنب عقابه، وأنه سبب لدفع البلاء قبل نزوله وبعد نزوله، وأنه سلاح المظلومين، وسهام المقهورين، ومَفْزَعُ المستضعفين، وأنه سبب لتفريج الكربات وكشف الهموم والأحزان والحسرات، وأنه سبب للثبات والنصر في المعارك ضد الأعداء، وأنه يستعان به -أيضا- على قضاء الديون، وختمنا بشروط استجابة الدعاء، فأجملناها في: إخلاص النية والدعاء لله تعالى، وحضور القلب عند الدعاء، واليقين بأن الله تعالى يجيب الدعاء، إما بتعجيل الإجابة، وإما بدفع ضر مقابلها، وإما بتأجيل الإجابة إلى يوم القيامة، وأكل الحلال، لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وترك الاستعجال في الإجابة، والإكثار من الدعاء حين الرَّخاء. وقد تتوافر هذه الشروط والآداب للداعي ثم لا يستجاب له، ويلح على الله تعالى مرة ومرة فلا يقبل دعاؤه، وذلك راجع إلى موانع تحجز أن يصل الدعاء، وأن تفتح له أبواب السماء، فما هي هذه الموانع؟ قال ابن القيم -رحمه الله-: "وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي دَفْعِ الْمَكْرُوهِ، وَحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنْ قَدْ يَتَخَلَّفُ أَثَرُهُ عَنْهُ، إِمَّا لِضَعْفِهِ فِي نَفْسِهِ، بِأَنْ يَكُونَ دُعَاءً لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُدْوَانِ، وَإِمَّا لِضَعْفِ الْقَلْبِ، وَعَدَمِ إِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ، وَجَمْعِيَّتِهِ عَلَيْهِ وَقْتَ الدُّعَاءِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَوْسِ الرِّخْوِ جِدًّا، فَإِنَّ السَّهْمَ يَخْرُجُ مِنْهُ خُرُوجًا ضَعِيفًا، وَإِمَّا لِحُصُولِ الْمَانِعِ مِنَ الْإِجَابَةِ" ثم ذكر جملة من هذه الموانع التي يكمن إجمالها في ستة أسباب أساس: 1 الغفلة، وانشغال القلب بما يمنعه من الاتصال بالله تعالى حال الدعاء. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ" صحيح سنن الترمذي. ومن عجب أن بعض شبابنا -اليوم- قد انشغلوا بهواتفهم، بما فيها من شبكية، ومواقع التواصل، التي أخذت بلبهم، واستحوذت على عقولهم، ومنعتهم من قراءة القرآن، فإذا قرأوه فبهذرمة لا خشوع فيها ولا تدبر، وحجزتهم عن الدعاء، فإذا دعوا فباستعجال بلا خنوع، وبتحريك اللسان بلا خضوع. 2 العجلة في طلب الاستجابة إلى درجة اليأس من الدعاء، فلا استجابة مع الاستعجال. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي" متفق عليه. فكأنه يمن على ربه أن دعاه بما يستحق الإجابة ولم يستجب له، يُبْخِلُه ويُنْقِصُه العطاء. وليس معنى ترك الإجابة أن الله تعالى يبغض صاحب الدعاء، ولكن قد يكون في تركها استجلاب مصلحة لم يتفطن إليها الداعي، أو دفع مفسدة لم يرها الداعي، والله لا يقدر للعبد إلا ما فيه خيره. قال ابن حجر -رحمه الله-: "وقد استشكل بأن جماعة من العباد والصلحاء دعوا وبالغوا ولم يجابوا، والجواب أن الإجابة تتنوع: فتارة يقع المطلوب بعينه على الفور، وتارة يقع ولكن يتأخر لحكمة فيه، وتارة قد تقع الإجابة ولكن بغير عين المطلوب، حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة، وفي الواقع مصلحة ناجزة أو أصلح منها". أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته***ومدمن القرع للأبواب أن يلجا لا تيأسن وإن طالت مطالبة***إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا 3 ومن موانع الاستجابة الظلم، الذي قد يكون الداعي متلبسا به علمه أم لم يعلمه، كالذي يظلم أبناءه، أو آباءه، أو جيرانه، أو يظلم بإصدار القوانين الجائرة، أو يظلم بمنع حوائج الناس إلا بالرشوة والوسائط، أو بترك الواجبات الدينية.. فهذا قد يصلي ويحج ويعتمر ويدعو ولا يستجاب له. نقل صاحب الحلية عن أحد الصالحين قال: "إن ظَلِلت تدعو على رجل ظلمك، فإن الله تعالى يقول: إن آخر يدعو عليك، إن شئت استجبنا لك، واستجبنا عليك، وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة، ووسعكما عفو الله". وقيل لإبراهيم بن نصر الكرماني: إن القرمطي دخل مكة، وقتل فيها، وفعل وصنع، وقد كثر الدعاء عليه، فلم يستجب للداعين؟ فقال: "لأن فيهم عشر خصال، فكيف يستجاب لهم؟". قلت: وما هن؟ قال إبراهيم: أوله: أقروا بالله، وتركوا أمره. والثاني: قالوا: نحب الرسول، ولم يتبعوا سنته. والثالث: قرأوا القرآن، ولم يعملوا به. والرابع: زعموا حب الجنة، وتركوا طريقها. والخامس: قالوا: نكره النار، وزاحموا طريقها. والسادس: قالوا: إن إبليس عدونا، فوافقوه. والسابع: دفنوا موتاهم، فلم يعتبروا. والثامن: اشتغلوا بعيوب إخوانهم، ونسوا عيوبهم. والتاسع: جمعوا المال، ونسوا يوم الحساب. والعاشر: نفضوا القبور، وبنوا القصور". ولا يغتر الظالمون بهذا الأمر، فالله تعالى قد يؤخر استجابة المظلومين إلى يوم القيامة، فيعظم العذاب. قال تعالى: "وَلَا تَحْسبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ". وقال تعالى: "بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ". 4 ومن موانع الاستجابة أن يدعو على شخص وهو غير ظالم له. فعن أبي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ، فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهِبْطُ إِلَى الأَرْضِ، فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالاً، فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا، رَجَعَتْ إِلَى الَّذِى لُعِنَ، فَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلاً وَإِلاَّ رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا" صحيح سنن أبي داود. 4 الاعتداء في الدعاء. ومن صوره: التألِّي على الله، وإملاء ما يريده الداعي عليه، ويدل حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ حين سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا. فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَتَعَوَّذْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطُّهُورِ وَالدُّعَاءِ" ص. أبي داود. فالله تعالى عليم خبير، فعال لما يريد، لا يملى عليه أحد ما يفعل، "فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ". وقد حدَّث رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "أَنَّ رَجُلاً قَالَ: وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلاَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ – تَعَالَى – قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ (يحلف، من الأَلِيَّةِ وهي اليمين) أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ" مسلم. ولا يتنافى هذا مع التضرع إلى الله بقضاء أمر بعينه، أو صرف أمر بعينه، إذ الدعاء -هنا- موكول إلى مشيئة الله وتقديره، لا إلى التحكم في إرادته، والإملاء عليه، ولذلك شرع دعاء الاستخارة في الأمور كلها، حين تسأل الله تقدير شيء شرط أن يكون فيه خير في الدين والدنيا وعاجل الأمر وآجله، أو صرفه إذا كان فيه شر في الدين والدنيا وعاجل الأمر وآجله. ومن الاعتداء في الدعاء هذه الصيغ الجديدة التي تطبق الآفاق عبر الهواتف النقالة، التي لا تستند إلى أثر معتبر، كتخصيص وقت معين للصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحث الناس على إرسال الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عشرة أشخاص، وكل شخص إلى عشرة، ليصير لك مليار حسنة، وهي أمانة في عنقك، وإن لم تفعل سيحصل لك من الشر والحزن كذا وكذا، وستسمع خبرا غير سار، أو انشر كذا، وبعد خمس دقائق ستسمع خبرا سارا، مع اختراع أدعية جديدة لرأس السنة، أو لأيام الجمعة، والأعياد.. وكل ذلك من البدع المحدثة التي لا دليل عليها. 5 والمعاصي عموما من أعظم ما يحجب استجابة الدعاء، وبخاصة منها أكل الحرام، وقد ذكر لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومأكله حرام، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، ثم قال: "فأنى يستجاب لذلك؟" مسلم. قال ابن رجب -رحمه الله-: "وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يُقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأَنَّ أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبوله". وقال وهيب بن الورد: "لو قمتَ مقام هذه السارية، لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل بطنك: حلال أم حرام؟". ويقول أبو حفصٍ النِّيسابوري: "أحسن ما يتوسل به العبد إلى مولاه: الافتقار إليه، وملازمة السُّنة، وطلب القوت من حِله". وقال يوسف بن أسباط: "إذا تعبد الشاب يقول إبليس: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعمه مطعم سوء قال: دعوه لا تشتغلوا به، دعوه يجتهد وينصب، فقد كفاكم نفسه". وقال يحيى بن معاذ: "الطاعة خزانة من خزائن الله، إلا أن مفتاحها الدعاء، وأسنانُهُ لُقَمُ الحلال". المال يذهب حله وحرامه***يوما وتبقى في غد آثامُه ليس التقي بمتق لإلهه***حتى يَطيب شرابُه وطعامُه